________________________________________
وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي : اختلف في اللوث اختلافا كثيرا ، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل. وقال محمد : هو أحب إلي. قال : وأخذ به ابن القاسم وابن عبدالحكم. وروي عن عبدالملك بن مروان : أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند فلان ومات كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال : قتلني فلان. وقال الشافعي : اللوث الشاهد العدل ، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط ، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد ، قالوا : إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم ، وإذا لم يكن ، به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد. وقال سفيان : وهذا مما أجمع عليه عندنا ، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم ، ولا سلف لهم فيه ، وهو مخالف للقرآن والسنة ، ولأن فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم. وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر ، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا ، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به ، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبدالعزيز هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة.
مسألة : قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي : لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث ، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه ؟ قال النسائي : أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وببن اليهود بمنزلة اللوث ، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال ابن أبي زيد : وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال : قتلني فلان ، وبأن العداوة لوث قال الشافعي : ولا نرى قول المقتول لوثا ، كما تقدم. قال الشافعي :
(1/460)
________________________________________
إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود ، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه.
مسألة : واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها ، فقال أصحاب الرأي : هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء ، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء ، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شيء.
ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال : القسامة والدية على السكان في الدور. وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى ، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم. قال الثوري ونحن نقول : هو على أصحاب الأصل ، يعني أهل الدور. وقال أحمد : القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية. وقال الشافعي : وذلك كله سواء ، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم ، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء. قال ابن المنذر : وهذا أصح.
مسألة : ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا ، لقول عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة : "يقسم خمسين منكم على رجل منهم" . فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة ، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال ، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء ، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود. وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم ، وهو قول الشافعي. قال الشافعي : لا يقسم إلا وارث ، كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أومن جعل الله له الملك من الورثة ، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح ، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين. ثم مقصود هذه
(1/461)
________________________________________
الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه بريء. وقال مالك في الخطأ : يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء ، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه ، ومن نكل لم يستحق شيئا ، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه ، وقد روى عنه أنه. لا يرى في الخطأ قسامة.
وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق.
مسألة : في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء ، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا ، وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب : هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه ، وإليه مال الشافعي ، وقد قال الله : {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب ، لأنه نعت لمصدر محذوف {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي علاماته وقدرته. "لعلكم تعقلون" كي تعقلوا وقد تقدم أي تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل : الحصون.
الآية 74 {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} القسوة : الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما :
(1/462)
________________________________________
المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب ، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى ، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا ، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك ، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" . وفي مسند البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" .
قوله تعالى : {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} "أو" قيل هي بمعنى الواو كما قال : {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان : 24]. {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وقال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدرا
أي وكانت. وقيل : هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر :
بدت مثل الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت وقيل : معناها الإبهام على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي :
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر ، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك : شككت قال : كلا ، ثم استشهد بقوله تعالى : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ : 24] وقال : أو كان شاكا من أخبر بهذا! وقيل : معناها التخيير ، أي شبهوها بالحجارة
(1/463)
________________________________________
تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا ، وهذا كقول القائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. قيل : بل هي على بابها من الشك ، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم : أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة ؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى : {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى : هم فرقتان.
{أَوْ أَشَدُّ} أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله "كالحجارة" ، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أو "أشد" بالفتح عطف على الحجارة. و {قَسْوَةً} نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة "قساوة" والمعنى واحد.
قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} قد تقدم معنى الانفجار. ويشقق أصله بتشقق ، أدغمت التاء في الشين ، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا ، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف "ينشقق" بالنون ، وقرأ "لما يتفجر" "لما يتشقق" بتشديد "لما" في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار "ينفجر" بالنون وكسر الجيم. قال قتادة : عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم : يجوز لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء ، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق ، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق ، فهو في الأصل مصدر ، تقول : بيد فلان ورجليه شقوق ، ولا تقل : شقاق ، إنما الشقاق داء يكون بالدواب ، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها ، عن يعقوب. والشق : الصبح. و"ما" في قوله :
(1/464)
________________________________________
{لَمَا يَتَفَجَّرُ} في موضع نصب ، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. "منه" على لفظ ما ، ويجوز منها على المعنى ، وكذلك {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} . وقرأ قتادة "وإن" في الموضعين ، مخففة من الثقيلة.
قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم ، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد : ما تردى حجر من رأس جبل ، ولا تفجر نهر. من حجر ، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله : "وإن منها لما يهبط من خشية الله" : البرد الهابط من السحاب. وقيل : لفظة الهبوط مجاز ، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها ، وتخشع بالنظر إليها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة ، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله : {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، وكما قال زيد الخيل :
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.
قلت : كل ما قيل يحتمله اللفظ ، والأول صحيح ، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل ، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب ، فلما تحول عنه حن ، وثبت عنه أنه قال : "إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية
(1/465)
________________________________________
إني لأعرفه الآن" . وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله" . فناداه حراء : إلي يا رسول الله. وفي التنزيل : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب : 72] الآية. وقال : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر : 21] يعني تذللا وخضوعا ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "سبحان" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} "بغافل" في موضع نصب على لغة أهل الحجاز ، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد {عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة : 7 ، 8] ولا تحتاج "ما" إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم ، أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كثير "يعلمون" بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.
(1/466)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثانى من كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671 هـ)
المحقق : هشام سمير البخاري
الناشر : دار عالم الكتب ، الرياض ، المملكة العربية السعودية
الطبعة : 1423 هـ/ 2003 م
عدد الأجزاء 20
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http :
http://www.raqamiya.org[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
________________________________________
المجلد الثاني
تفسير سورة البقرة (تابع)
...
الآية 75 {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} هذا استفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود ، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم. وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك ، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و"أن" في موضع نصب ، أي في أن يؤمنوا ، نصب بأن ، ولذلك حذفت منه النون. يقال : طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع ، على وزن فعل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب : طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع. والطمع : رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بأطماعهم ، أي بأرزاقهم. وامرأة مطماع : تطمع ولا تمكن.
الثانية : قوله تعالى : {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعه في أدنى العدد أفرقة ، وفي الكثير أفرقاء. قوله تعالى : {يَسْمَعُونَ} في موضع نصب خبر "كان". ويجوز أن يكون الخبر "منهم" ، ويكون "يسمعون" نعتا لفريق وفيه بُعد.
قوله تعالى : {كَلامَ اللَّهِ} قراءة الجماعة. وقرأ الأعمش "كلم الله" على جمع كلمة. قال سيبويه : واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون "منهم" بكسر الهاء اتباعا لكسرة الميم ، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده. "كلام الله" مفعول بـ "يسمعون". والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه
(2/1)
________________________________________
السلام ، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره ، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحاق ، وفي هذا القول ضعف. ومن قال : إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السدي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام ، كما قال تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة : 6].
فإن قيل : فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه ، فسمعوا صوتا كصوت الشبور : "إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة".
قلت : هذا حديث باطل لا يصح ، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم ، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم ، وقد قال وقوله الحق : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف : 144]. وهذا واضح.
الثالثة : واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه ، فمنهم من قال : إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات ، وليس فيه تقطيع ولا نفس ، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون : إنه لما سمع كلاما لا من جهة ، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست ، علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل : إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام ، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه : إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله ، وذلك أنه قيل له : ألق عصاك ، فألقاها فصارت ثعبانا ، فكان ذلك علامة على صدق الحال ، وأن الذي يقول له : {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه : 12] هو الله جل وعز. وقيل : إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه
(2/2)
________________________________________
إلا علام الغيوب ، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير ، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة "القصص" بيان معنى قوله تعالى : {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص : 30] إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال مجاهد والسدي : هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم. قوله تعالى : {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم ، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد فهؤلاء على ذلك السنن ، فكيف تطمعون في إيمانهم
ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد ، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.
الآيتان : 76 - {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
77- {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} هذا في المنافقين. أصل لقوا : لقيوا وقد تقدم قوله تعالى : {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية في اليهود ، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم ، فقالت لهم اليهود : {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي حكم الله عليكم من العذاب ، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم ، عن ابن عباس والسدي. وقيل : إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال : يا رسول الله ، لا تبلغ إليهم ، وعرض له ، فقال : " أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك" ونهض إليهم ، فلما رأوه أمسكوا ، فقال لهم : "أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته" فقالوا :
(2/3)
________________________________________
ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ، من حدثك بهذا ؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا! روي هذا المعنى عن مجاهد.
قوله تعالى : {وَإِذَا خَلا} الأصل في "خلا" خلو ، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى "خلا" في أول السورة. ومعنى "فتح" حكم. والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعالى : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي الحاكمين ، والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، يقال : بيني وبينك الفتاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح : النصر ، ومنه قوله : {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة : 89] ، وقوله : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال : 19]. ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين.
قوله تعالى : {لِيُحَاجُّوكُمْ} نصب بلام كي ، وإن شئت بإضمار أن ، وعلامة النصب ، حذف النون. قال يونس : وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش : لأن الفتح الأصل. قال خلف الأحمر : هي لغة بني العنبر. ومعنى "ليحاجوكم" ليعيروكم ، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم. وقيل : المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم ، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه. وقيل : إن الرجل من اليهود كان يلقى صديقه من المسلمين فيقول له : تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا. {عِنْدَ رَبِّكُمْ} قيل في الآخرة ، كما قال : {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر : 31]. وقيل : عند ذكر ربكم. وقيل : "عند" بمعنى "في" أي ليحاجوكم به في ربكم ، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم ، وروي عن الحسن. والحجة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجة الطريق. وحاججت فلانا فحججته ، أي غلبته بالحجة. ومنه الحديث : "فحج آدم موسى" . {أَفَلا تَعْقِلُونَ} قيل : هو من قول الأحبار للأتباع. وقيل : هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال ، ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال : {أَوَلا يَعْلَمُونَ} الآية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور "يعلمون" بالياء ، وابن محيصن بالتاء ، خطابا للمؤمنين. والذي أسروه كفرهم ، والذي أعلنوه الجحد به.
(2/4)
________________________________________
الآية : 78 {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي من اليهود. وقيل : من اليهود والمنافقين أميون ، أي من لا يكتب ولا يقرأ ، واحدهم أمي ، منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ، ومنه قوله عليه السلام : "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" الحديث. وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب ، عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة : إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب ، فكأنه قال : ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك : هم نصارى العرب. وقيل : هم قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين. علي رضي الله عنه : هم المجوس
قلت : والقول الأول أظهر ، والله اعلم
الثانية : قوله تعالى : {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} "إلا" ههنا بمعنى لكن ، فهو استثناء منقطع ، كقوله تعالى : {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء : 157]. وقال النابغة :
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج "إلا أماني" خفيفة الياء ، حذفوا إحدى الياءين استخفافا. قال أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف ، مثل أثافي وأغاني وأماني ، ونحوه. وقال الأخفش : هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفاتيح ومفاتح ، وهي ياء الجمع. قال النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال الشاعر :
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ... ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
(2/5)
________________________________________
والأماني جمع أمنية وهي التلاوة ، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة ، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية ، ومنه قوله تعالى : {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج : 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك :
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر :
تمنى كتاب الله آخر ليله ... تمني داود الزبور على رسل
والأماني أيضا الأكاذيب ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت ، أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث : أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته ؟ أي افتعلته. وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد "أماني" في الآية. والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه. قال قتادة : "إلا أماني" يعني انهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقيل : الأماني التقدير ، يقال : منى له أي قدر ، قال الجوهري ، وحكاه ابن بحر ، وأنشد قول الشاعر :
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
أي يقدر لك المقدر.
الثالثة : قوله تعالى : {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} "إن" بمعنى ما النافية ، كما قال تعالى : {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك : 20]. قوله تعالى : و {يَظُنُّونَ} يكذبون ويحدثون ، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون ، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرؤون به.
قال أبو بكر الأنباري : وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا ، وقال : إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين ، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك ، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب ، قال الله عز وجل {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أراد إلا يكذبون.
الرابعة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق : {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة : 79] الآية. وذلك أنه لما درس
(2/6)
________________________________________
الأمر فيهم ، وساءت رعية علمائهم ، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا ، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم ، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها ، وألحقوا ذلك بالتوراة ، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله ، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، وهم العرب ، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا : لا يضرنا ذنب ، فنحن أحباؤه وأبناؤه ، تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة "يا أحباري ويا أبناء رسلي" فغيروه وكتبوا "يا أحبائي ويا أبنائي" فأنزل الله تكذيبهم : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة : 18]. فقالت : لن يعذبنا الله ، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل ، فأنزل الله تعالى : {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة : 80] قال ابن مقسم : يعني توحيدا ، بدليل قوله تعالى : {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم : 87] يعني لا إله إلا الله {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 80] ثم أكذبهم فقال : {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 81 - 82]. فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان ، لا بما قالوه.
الآية : 79 {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
فيه خمسة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {فَوَيْلٌ} اختلف في "الويل" ما هو ، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار. وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين
(2/7)
________________________________________
جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا. وروى سفيان وعطاء بن يسار : أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وقيل : صهريج في جهنم. وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس : الويل المشقة من العذاب. وقال الخليل : الويل شدة الشر. الأصمعي : الويل تفجع وترحم. سيبويه : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة. ابن عرفة : الويل الحزن : يقال : تويل الرجل إذا دعا بالويل ، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه ، ومنه قوله : {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة : 79]. وقيل : أصله الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، ومنه قوله تعالى : {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف : 49]. وهي الويل والويلة ، وهما الهلكة ، والجمع الويلات ، قال :
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
وقال أيضا :
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وارتفع "ويل" بالابتداء ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء. قال الأخفش : ويجوز النصب على إضمار فعل ، أي ألزمهم الله ويلا. وقال الفراء : الأصل في الويل "وي" أي حزن ، كما تقول : ويل لفلان ، أي حزن له ، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها. والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع ، لأنه يقتضي الوقوع. ويصح النصب على معنى الدعاء ، كما ذكرنا
قال الخليل : ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب ، وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها قوم ، وهي مصادر لم تنطلق العرب منها بفعل. قال الجرمي : ومما ينتصب انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه ، فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت : ويل له ، وويح له
الثانية : قوله تعالى : {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ} الكتابة معروفة. وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام ، وجاء ذلك في حديث أبي ذر ، خرجه الآجري وغيره. وقد قيل : إن آدم عليه السلام أعطي الخط فصار وراثة في ولده.
(2/