فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الثلاثاء 20 يوليو - 15:47 | |
| ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل : {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود. ومنها بالتقديم والتأخير كقوله : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت [سكرة] الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان مثل قوله : {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى. وقوله : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين وقوله : فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم. القول الخامس- أن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وقصص ومجادلة وأمثال قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأن هذا لا يسمى أحرفا وأيضا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة ؛ ومنه قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك. وقد قيل : إن المراد بقوله عليه السلام انزل القرآن على سبعة أحرف القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة لأنها كلها صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بشيء لظهور بطلانه على ما يأتي. (فصل) قال كثير من علمائنا كالداودي وابن صفرة وغيرهما : هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ذكره ابن النحاس وغيره. وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روى وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى فالتزمه طريقة ورواه وأقرأ به واشتهر عنه وعرف به ونسب إليه فقيل حرف نافع وحرف ابن كثير ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ولا أنكره بل سوغه وحوزه وكل واحد من هؤلاء السبعة روى عنه اختياران أو أكثر وكل صحيح وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا(1/46) في ذلك مصنفات فاستمر الإجماع على الصواب وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب وعلى هذا الأئمة المتقدمون والفضلاء المحققون كالقاضي أبي بكر بن الطيب والطبري وغيرهما قال ابن عطية : ومضت الأعصار والأمصار على قراءات السبعة وبها يصلى لأنها ثبتت بالإجماع وأما شاذ القراءات فلا يصلي به لأنه لم يجمع الناس عليه أما أن المروي منه عن الصحابة رضي الله عنهم وعن علماء التابعين فلا يعتقد فيه إلا أنهم رووه وأما ما يؤثر على أبي السمال ومن قارنه فإنه لا يوثق به قال غيره. أما شاذ القراءة عن المصاحف المتواترة فليست بقرآن ولا يعمل بها على أنها منه وأحسن محاملها أن تكون بيان تأويل مذهب من نسبت إليه كقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فأما لو صرح الراوي بسماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختلف العلماء بذلك على قولين النفي والإثبات وجه النفي أن الراوي لم يروه في معرض الخبر بل في معرض القرآن ولم يثبت فلا يثبت والوجه الثاني : أنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فقد ثبت كونه سنة وذلك يوجب العمل كسائر أخبار الآحاد. فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام. قال ابن عطية : أباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلى الله عليه وسلم ليوسع بها على أمته فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة(1/47) هشام بن حكيم لها وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في كل قراءة منهما وقد اختلفا : هكذا أقرأني جبريل هل ذلك إلا أنه أقرأه مرة بهذه ومرة بهذه وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} فقيل له إنما نقرأ وأقوم قيلا فقال أنس وأصوب قيلا وأقوم قيلا وأهيأ واحد فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى أنصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرسله ، أقرأ " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هكذا أنزلت" ثم قال لي "اقرأ" فقرأت فقال : "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر". قلت : وفي معنى حديث عمر هذا ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : " إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شانهما فسقط في نفسي من التكذيب". ولا إذا كنت في الجاهلية فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقا فقال لي : " يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي(1/48) فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم أغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام ". قول أبي رضي الله عنه : فسقط في نفسي معناه اعترتني حيرة ودهشة أي أصابته نزعة من الشيطان ليشوش عليه حاله ويكدر عليه وقته فإنه عظم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيما في نفسه وإلا فأي شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات ولم يلزم ذلك والحمد لله في النسخ الذي هو أعظم فكيف بالقراءة! ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من ذلك الخاطر نبهه بأن ضربه في صدره فأعقب ذلك بأن انشرح صدره وتنور باطنه حتى آل به الكشف والشرح إلى حالة المعاينة ولما ظهر له قبح ذلك الخاطر خاف من الله تعالى وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى فكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم- حين سألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : " وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام عليه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى. باب ذكر جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن في مدة النبي صلى الله عليه وسلم متفرقا في صدور الرجال وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لخاف وظرر وفي خزف وغير ذلك قال الأصمعي : اللخاف حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة والظرر حجر له حد كحد السكين والجمع ظرار ؛ مثل رطب ورطاب وربع ورباع وظران أيضا مثل صرد وصردان فلما استحر القتل(1/49) بالقراء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه ، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأبي وابن مسعود وزيد فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد رضي الله عنه روى البخاري عن زيد بن ثابت قال : أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن قال أبو بكر : فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد : وعنده عمر جالس لا يتكلم فقال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها. فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن ثم أبي بكر حتى توفاه الله ثم عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر. وقال الليث : حدثني عبدالرحمن بن غالب عن ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة الأنصاري وقال أبو ثابت : حدثنا إبراهيم وقال مع خزيمة أو أبي خزيمة : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .(1/50) وقال الترمذي في حديثه عنه : فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . قال حديث حسن صحيح. وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال : لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة (الأحزاب) كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري -الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين- {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . وقال الترمذي عنه : فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فالتمستها فوجدتها عند خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها. قلت : فسقطت الآية الأولى من آخر (براءة) في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي ؛ وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب وحكى الطبري : أن آية براءة سقطت في الجمع الأخير والأول أصح والله أعلم. فإن قيل : فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه قيل له : إن عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك على ما يأتي وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ووقع بين أهل الشام والعراق ماذكره حذيفة رضي الله عنه. وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية كل طائفة بما روي لها فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا فأشفق حذيفة مما رأى منهم فلما قدم حذيفة المدينة -فيما ذكر البخاري والترمذي- دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك قال : فيما إذا ؟ قال : في كتاب الله إني حضرة(1/51) هذه الغزوة ، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز فوصف له ما تقدم وقال : إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى. قلت : وهذا أدل دليل على بطلان من قال : إن المراد بالأحرف السبعة قراءات القراء السبعة لأن الحق لا يختلف فيه ، وقد روى سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب أن عثمان قال : ما ترون في المصاحف فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول قراءتي خير من قراءتك وقراءتي أفضل من قرائتك وهذا شبيه بالكفر قلنا : ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين قال : الرأي عندي ؟ أن يجتمع الناس على قراءة فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا قلنا : الرأي رأيك يا أمير المؤمنين فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاصي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فأكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواها واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا ؛ رحمة الله عليه وعليهم أجمعين وقال الطبري فيما روي : أن عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده وهذا ضعيف. وما ذكره البخاري والترمذي وغيرهما أصح. وقال الطبري أيضا : إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير وهذا صحيح. وقال ابن شهاب : وأخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عبدالله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال : يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل ، (1/52) والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبدالله ابن مسعود : يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله عز وجل يقول : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالقوا الله بالمصاحف ، خرجه الترمذي. وسيأتي الكلام في هذا في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى. قال أبو بكر الأنباري : ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبدالله بن مسعود في جمع القرآن وعبدالله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبدالله إذ وعاه كله ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي والذي حفظ منه عبدالله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نيف وسبعون سورة ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار ولاختيار ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبدالله بن مسعود لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمه عليه لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنها كان زيد أحفظ منهما للقرآن وليس هو خيرا منهما ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب قال أبو بكر : وما بدا من عبدالله بن مسعود من نكير ذلك فشيء نتجه الغضب ولا يعمل به ولا يؤخذ به ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم فالشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل أن عبدالله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال بعض الأئمة : مات عبدالله بن مسعود قبل أن يختم القرآن. قال يزيد بن هارون : المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ومن زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم فقيل له : فقول عبدالله بن مسعود فيهما فقال لا خلاف بين المسلمين في أن عبدالله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله. قلت : هذا فيه نظر وسيأتي وروى إسماعيل بن إسحاق وغيره قال حماد : أظنه عن أنس بن مالك قال : كانوا يختلفون في الآية فيقولون أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/53) فلان بن فلان فعسى أن يكون من المدينة على ثلاث ليال فيرسل إليه فيجاء به فيقال كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا فيكتبون كما يقال قال ابن شهاب : واختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد : التابوه وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص التابوت فرفع اعترافهم إلى عثمان فقال اكتبوه بالتاء ؛ فإنه نزل بلسان قريش أخرجه البخاري والترمذي. قال ابن عطية : قرأه زيد بالهاء والقرشيون بالتاء فأثبتوا بالتاء وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر ونسخ منها عثمان نسخا قال غيره : قيل سبعة وقيل أربعة وهو الأكثر ووجه بها إلى الآفاق فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات فاتخذها قراء الأمصار معتد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح وأن القراءة بكل منها جائزة قال ابن عطية : ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق تروى منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن ورواية منقوطة أحسن. وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول : يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملا منا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعن عمير بن سعيد قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان قال أبو الحسن بن بطال : وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام وطرحها في ضياع من الأرض روى معمر عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان يحرق إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها(1/54) ذكر الله تعالى ؛ وقول من حرقها أولى بالصواب وقد فعله عثمان وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة : جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك. فصل- قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وفي فعل عثمان رضي الله عنه رد على الحلولية والحشوية القائلين بقدم الحروف والأصوات وأن القراءة والتلاوة قديمة وأن الإيمان قديم والروح قديم وقد أجمعت الأمة وكل أمة من النصارى واليهود والبراهمة بل كل ملحد وموحد أن القديم لا يفعل ولا تتعلق به قدرة قادر بوجه ولا بسبب ولا يجوز العدم على القديم وأن القديم لا يصير محدثا والمحدث لا يصير قديما وأن القديم ما لا أول لوجوده وأن المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن وهذه الطائفة خرقت إجماع العقلاء من أهل الملل وغيرهم فقالوا : يجوز أن يصير المحدث قديما وأن العبد إذا قرأ كلام الله تعالى فعل كلاما لله قديما وكذلك إذا نحت حروفا من الآجر والخشب أو صاغ أحرفا من الذهب والفضة أو نسج ثوبا فنقش عليه آية من كتاب الله فقد فعل هؤلاء كلام الله قديما وصار كلامه منسوجا قديما ومنحوتا قديما ومصوغا قديما فيقال لهم : ما تقولون في كلام الله تعالى أيجوز أن يذاب ويمحى ويحرق فإن قالوا : نعم فارقوا الدين وإن قالوا : لا قيل لهم : فما قولكم في حروف مصورة آية من كتاب الله تعالى من شمع أو ذهب أو خشب أو كاغد فوقعت في النار فذابت واحترقت فهل تقولون إن كلام الله احترق فإن قالوا : نعم تركوا قولهم وإن قالوا : لا قيل لهم أليس قلتم إن هذه الكتابة كلام الله وقد احترقت وقلتم إن هذه الأحرف كلامه وقد ذابت فإن قالوا : احترقت الحروف وكلامه تعالى باق رجعوا إلى الحق والصواب ودانوا بالجواب ؛ وهو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم منبها على ما يقول أهل الحق : " ولو كان القرآن في إهاب ثم وقع في النار ما احترق" . وقال عز وجل " أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان" . الحديث أخرجه مسلم. فثبت بهذا(1/55) أن كلامه سبحانه ليس بحرف ولا يشبه الحروف والكلام في هذه المسألة يطول وتتميمها في كتب الأصول وقد بيناها في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. فصل- وقد طعن الرافضة قبحهم الله تعالى- في القرآن وقالوا : إن الواحد يكفي في نقل الآية والحرف كما فعلتم فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده آخر سورة براءة وقوله : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} فالجواب أن خزيمة رضي الله عنه لما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أولا فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده. جواب ثان إنما ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم قال : معناه المهلب وذكر أن خزيمة غير أبي خزيمة وأن أبا خزيمة الذي وجدت معه آية التوبة معروف من الأنصار وقد عرف أنس وقال نحن ورثناه والتي في الأحزاب وجدت مع خزيمة بن ثابت فلا تعارض والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس وقال ابن عبدالبر : أبو خزيمة لا يوقف على صحة اسمه وهو مشهور بكنيته وهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وتوفي في خلافة عثمان بن عفان وهو أخو مسعود بن أوس قال ابن شهاب : عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت وجدت آخر التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري وهو هذا وليس بينه وبين الحارث بن خزيمة أبي خزيمة نسب إلا اجتماعهما في الأنصار أحدهما أوسي والآخر خزرجي وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك قال : جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قلت : لأنس من أبو زيد ؟ قال أحد عمومتي وفي البخاري أيضا عن أنس قال : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، (1/56) وزيد وأبو زيد ؛ قال : ونحن ورثناه. وفي أخرى قال : مات أبو زيد ولم يترك عقبا وكان بدريا واسم أبي زيد سعد بن عبيد. قال ابن الطيب رضي الله عنه : لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلي وتميم الداري وعبادة بن الصامت وعبدالله بن عمرو بن العاص فقول أنس : لم يجمع غير أربعة يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. قلت : لم يذكر القاضي عبدالله بن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما فيما رأيت وهما ممن جمع القرآن روى جرير عن عبدالله بن يزيد الصهباني عن كميل قال قال عمر بن الخطاب : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ومن شاء الله فمررنا بعبدالله بن مسعود وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من هذا الذي يقرأ القرآن فقيل له هذا عبدالله بن أم عبد فقال إن عبدالله يقرأ القرآن غضا كما أنزل" . الحديث قال بعض العلماء : معنى قوله غضا كما أنزل أي إنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته عليها بعد معارضة جبريل عليه السلام القرآن إياه في كل رمضان وقد روى وكيع وجماعة معه عن الأعمش عن أبي ظبيان قال قال لي عبدالله بن عباس : أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد فقال لي : بل هي الآخرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه عليه مرتين ".فحضر ذلك عبدالله فعلم ما نسخ من(1/57) ذلك وما بدل وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة" . قلت : هذه الأخبار تدل على أن عبدالله جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما تقدم والله أعلم. وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) حدثنا محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر عن أبي إسحاق قال قال عبدالله بن مسعود : قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين وسبعين سورة أو ثلاثا وسبعين سورة وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . قال أبو إسحاق : وتعلم عبدالله بقية القرآن من مجمع بن جارية الأنصاري. قلت : فإن صح هذا صح الإجماع الذي ذكره يزيد بن هارون فلذلك لم يذكره القاضي أبو بكر بن الطيب مع من جمع القرآن وحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. قال أبو بكر الأنباري : حدثني إبراهيم بن موسى الخوزي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال : سألت الأسود ما كان عبدالله يصنع بسورة الأعراف ؟ فقال : ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة قال وقد قال بعض أهل العلم : مات عبدالله بن مسعود رحمة الله عليه قبل أن يتعلم المعوذتين فلهذه العلة لم توجد في مصحفه هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب ثم ذكر المعوذتين إن شاء الله تعالى. قال أبو بكر : والحديث الذي حدثناه إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عمر بن هارون الخرساني عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن كعب القرظي قال : كان ممن ختم القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود حديث ليس بصحيح عند أهل العلم إنما هو مقصور على محمد بن كعب فهو مقطوع لا يؤخذ به ولا يعول عليه.(1/58) قلت : قوله عليه السلام : " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد " . يدل على صحته ومما يبين لك ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كل منهم عزا قراءته التي اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله صلى عليه وسلم لم يستثن من جملة القرآن شيئا فأسند عاصم قراءته إلى علي وابن مسعود وأسند ابن كثير قراءته إلى أبي وكذلك أبو عمرو بن العلاء أسند قراءته إلى أبي وأما عبد الله بن عامر فإنه أسند قراءته إلى عثمان وهؤلاء كلهم يقولون قرأنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسانيد هذه القراءات متصلة ورجالها ثقات قاله الخطابي. باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته وشكله ونقطه وتحزيبه وتعشيره وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه قال ابن الطيب : إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكي على المدني ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد ومنهم من جعل في أوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . وهذا أول مصحف علي رضي الله عنه وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . ثم البقرة ثم النساء على ترتيب مختلف ومصحف أبي كان أوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد قال القاضي أبو بكر بن الطيب : فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة (براءة) وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم ولما لم يأمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة هذا أصح ما قيل في ذلك وسيأتي. وذكر ابن وهب في جامعه قال سمعت سليمان بن بلال يقول. سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة ؟ فقال(1/59) ربيعة : قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه وقد اجتمعوا على العلم بذلك فهذا مما ننتهي إليه ولا نسأل عنه وقد ذكر سنيد قال حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال قال ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال قوم من أهل العلم : إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان على توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال : سمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة وكانت السورة تنزل في أمر يحدث والآية جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات وغير الحروف والكلمات ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول ضعوا هذه السور موضع كذا وكذا من القرآن وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات. حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال : آخر ما نزل من القرآن {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} . قال أبو بكر بن عياش : وأخطأ أبو إسحاق لأن محمد بن السائب حدثنا عن أبي السائب عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ(1/60) وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . فقال : " جبريل للنبي عليهما السلام يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة ". قال أبو الحسن بن بطال : ومن قال بهذا القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف بل إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة ولا يعلم أن أحدا منهم قال إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها للذي سألها : لا يضرك أية قرأت قبل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا وقالا ذلك منكوس القلب فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها. ومما يدل على أنه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله ما صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها : " وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ". تعني بالمدينة وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور. قال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال : نزل بالمدينة من القرآن البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والرعد ، والنحل ، والحج ، والنور ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والحجرات ، والرحمن ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والصف ، والجمعة ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، (1/61) و { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} إلى رأس العشر ، و { إِذَا زُلْزِلَتِ} و { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } هؤلاء السور نزلن بالمدينة وسائر القرآن نزل بمكة. قال أبو بكر : فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة لم يدر أين تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى. وقد قيل : إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها وما تعرف من أفانين خطابها ومحاورتها فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو فقدوه من القرآن لقالوا ما باله عري من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلي من نظامنا. قال عبيد بن الأبرص : أن بدلت منهم وحوشا ... وغيرت حالها الخطوب عيناك دمعها سروب ... كأن شأنيهما شعيب أراد عيناك دمعها سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا فقدم المؤخر وأخر المقدم ومعنى سروب منصب على وجه الأرض ومنه السارب للذاهب على وجهه في الأرض قال الشاعر : أني سربت وكنت غير سروب وقوله : شأنيهما الشأن واحد الشئون وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها يجيء الدمع. شعيب : متفرق.(1/62) (فصل) وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه وأمر وهو والي العراق الحسن ويحي بن يعمر بذلك وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات. وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ؛ وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر. (فصل)- وأما وضع الأعشار فقال ابن عطية : مر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل : إن الحجاج فعل ذلك وذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له عن عبد الله بن مسعود أنه كره التعشير في المصحف وأنه كان يحكه وعن مجاهد أن كره التعشير والطيب في المصحف. وقال أشهب : سمعت مالكا وسئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان فكره ذلك. وقال تعشير المصحف بالحبر لا بأس به وسئل عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية قال : إني أكره ذلك في أمهات المصاحف أن يكتب فيها شيء أو يشكل فأما ما يتعلم به الغلمان من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب : ثم أخرج إلينا مصحفا لجده كتبه إذ كتب عثمان المصاحف فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر ورأيته معجوم الآي بالحبر وقال قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا وقال يحيى بن أبي كثير : كان القرآن مجردا في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء وقالوا : لا بأس به هو نور له ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم وعن أبي حمزة قال : رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا فقال لي امحه فإن عبد الله بن مسعود قال : لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس فيه وعن أبي بكر السراج قال قلت لأبي رزين : أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا ؛ قال : إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه فيظنونه من القرآن.(1/63) قال الدّاني رضي الله عنه : وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورءوس الآي من عمل الصحابة رضي الله عنهم قادهم إلى عمله الاجتهاد وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرهما ؛ على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك واستعماله في الأمهات وغيرها والحرج والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله. (فصل)- وأما عدد حروفه وأجزائه فروى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال : أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو قال : وكنت فيهم ، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلثمائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا قال : فأخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن فإذا هو الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ} في الفاء قال فأخبروني بأثلاثه فإذا الثلث الأول رأس مائة من براءة والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من طسم الشعراء والثلث الثالث مابقي من القرآن قال : فأخبروني بأسباعه على الحروف فإذا أول سبع في النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} في الدال والسبع الثاني في الأعراف {أُولَئِكَ حَبِطَتْ} في التاء والسبع الثالث في الرعد {أُكُلُهَا دَائِمٌ} في الألف من آخر أكلها والسبع الرابع في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} في الألف والسبع الخامس في الأحزاب { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} في الهاء والسبع السادس في الفتح {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} في الواو والسبع السابع ما بقي من القرآن قال سلام أبو محمد : علمناه في أربعة أشهر وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا فأول ربعه خاتمة الأنعام والربع الثاني في الكهف وليتلطف والربع الثالث خاتمة الزمر والربع الرابع ما بقي من القرآن وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب البيان لأبي عمرو الداني من أراد الوقوف عليه وجده هناك فصل وأما عدد آي القرآن في المدني الأول فقال محمد بن عيسى : جميع عدد آي القرآن في المدني الأول ستة آلاف آية. قال أبو عمرو : وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة ولم يسموا في ذلك أحدا بعينه يسندونه إليه.(1/64) وأما المدني الأخير فهو في قول إسماعيل بن جعفر ستة آلاف آية ومائتا آية وأربع عشرة آية وقال الفضل : عدد آي القرآن في قول المكيين ستة آلاف آية ومائتا آية وتسع عشرة آية. قال محمد بن عيسى : عدد آي القرآن في قول الكوفيين ستة آلاف آية ومائتا آية وثلاثون وست آيات وهو العدد الذي رواه سليم والكسائي عن حمزة وأسنده الكسائي إلى على رضي الله عنه. قال محمد : وجميع عدد آي القرآن في عدد البصريين ستة آلاف ومائتان وأربع آيات وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن وأما عدد أهل الشام فقال يحيى بن الحارث الذماري ستة آلاف ومائتان وست وعشرون في رواية ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون نقص آية قال ابن ذكوان : فظننت أن يحي لم يعد { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال أبو عمرو : فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا ويعدون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا. وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان : جميع كلمات القرآن- في قول عطاء بن يسار- سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة وحروفه ثلثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا. قلت : هذا يخالف ما تقدم عن الحماني قبل هذا. وقال عبدالله بن كثير عن مجاهد قال : هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا وهذا يخالف ما ذكره قبل هذا عن الحمداني من عدّ حروفه. باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف معنى السورة في (كلام العرب) الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة قال النابغة : ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزل الملوك. وقيل : سميت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور. وقيل : سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن(1/65) عنده كسور البناء ؛ كله بغير همز وقيل : سميت بذلك لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول السرب للبقية سؤر وجاء في أسآر الناس أي بقاياهم فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمزة ثم خففت فأبدلت واوا لانضمام ما قبلها. وقيل : سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة سورة وجمع سورة سور بفتح الواو وقال الشاعر : سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويجوز أن يجمع على سورات وسورات وأما الآية فهي العلامة بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها وانفصاله أي هي بائنة من أختها ومنفردة. وتقول العرب : بيني وبين فلان آية ؛ أي علامة ومن ذلك قوله تعالى : {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} وقال النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع وقيل : سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه كما يقال خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم. قال برج بن مسهر الطائي : خرجنا من النقبين لاحي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا وقيل : سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها واختلف النحويون في أصل آية فقال سيبويه : أيية على فعلة مثل أكمة وشجرة فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت آية بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي : أصلها آيية على وزن فاعلة مثل آمنة فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتباسها بالجمع. وقال الفراء : أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهة للتشديد فصارت آية وجمعها آي وآيات وآياء. وأنشد أبو زيد : لم يبق هذا الدهر من آيائه ... غير أثافيه وأرمدائه (1/66)
[righ | |
|