الثانية : قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مقدم في التلاوة وقوله {قَتَلْتُمْ نَفْساً} مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله : "قتلتم" في النزول مقدما ، والأمر بالذبح مؤخرا. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها ، ويكون "وإذ قتلتم" مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا ، لأن الواو لا توجب الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ إلى قوله- إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود : 40]. فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود : 41]. فذكر الركوب متأخرا في الخطاب ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قِيَماً} [هود : 19]. وتقديره : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، ومثله في القرآن كثير.
الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم ، والنحر أولى في الإبل ، والتخير في البقر. وقيل : الذبح أولى ، لأنه الذي ذكره الله ، ولقرب المنحر من المذبح. قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح ، أو ذبح مما ينحر. وكره مالك ذلك. وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه. وسيأتي في سورة "المائدة" أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى : {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة : 3] مستوفى إن شاء الله تعالى. قال الماوردي : وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها ، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة ، وليس بعلة في جواب السائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.
الرابعة : قوله تعالى : {بَقَرَةً} البقرة اسم للأنثى ، والثور اسم للذكر مثل ناقه وجمل وامرأة ورجل. وقيل : البقرة واحد البقر ، الأنثى والذكر سواء. واصله من قولك :
(1/445)
________________________________________
بقر بطنه ، أي شقه ، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه. والبقيرة : ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين. وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد "فبقر الأرض". قال شمر : بقر نظر موضع الماء ، فرأى الماء تحت الأرض. قال الأزهري : البقر اسم للجنس وجمعه باقر. ابن عرفة : يقال بقير وباقر وبيقور. وقرأ عكرمة وابن يعمر "إن الباقر". والثور : واحد الثيران. والثور : السيد من الرجال. والثور القطعة من الأقط. والثور : الطحلب. وثور : الجبل. وثور : قبيلة من العرب. وفي الحديث : "ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق" يعني انتشاره ، يقال : ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق وفي الحديث : "من أراد العلم فليثور القرآن" . قال شمر : تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.
قوله تعالى : {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال ، لهم : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة : 67] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل : اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم ، ووقع بينهم خلاف ، فقالوا : نقتتل ورسول الله بين أظهرنا ، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة ، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده ، قالوا : أتتخذنا هزؤا ؟ والهزء : اللعب والسخرية ، وقد تقدم. وقرأ الجحدري "أيتخذنا" بالياء ، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله : {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة : 67] لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل ، فاستعاذ منه عليه السلام ، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل ، كما جهلوا في قولهم : أتتخذنا هزؤا ،
(1/446)
________________________________________
لمن يخبرهم عن الله تعالى ، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته ، وقال : إن الله يأمرك بكذا : أتتخذنا هزؤا ؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر : اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل ، وأنه مفسد للدين.
قوله تعالى : {هُزُواً} مفعول ثان ، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجعلها حفص واوا مفتوحة ، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل ، كقوله : "السفهاء ولكن". ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد ، فتقول : هزؤا ، كما قرأ أهل الكوفة ، وكذلك {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل ، نحو العسر واليسر والهزء.ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب ، ورسل ورسل ، وعون وعون. وأما قوله تعالى : {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إ} [الزخرف : 15] فليس مثل هزء وكفء ، لأنه على فعل ، من الأصل. على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
مسألة : في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه ، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد. وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده. قال ابن خويز منداد : وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيدالله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيدالله فقال : جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش ؟ فقال له : لا تجهل أيها القاضي فقال له عبيدالله : وابن وجدت المزاج جهلا فتلا عليه هذه الآية ، فأعرض عنه عبيدالله ، لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء ، وليس أحدهما من الآخر بسبيل.
(1/447)
________________________________________
الآية 68 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} هذا تعنيت منهم وقلة طواعية ، ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود ، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ونحو ذلك روى الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولغة بنى عامر "ادع".
قوله تعالى : {يُبَيِّنْ} مجزوم على جواب الأمر ، {مَا هِيَ} ابتداء وخبر وماهية الشيء : حقيقته وذاته التي هو عليها.
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل ، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت ، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره ، كما لو قال : في ثلاثين من الإبل بنت مخاض ، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة. وكذلك ههنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم. والفارض : المسنة. وقد فرضت تفرض فروضا ، أي أسنت. ويقال للشيء القديم فارض ، قال الراجز :
شيب أصداغي فرأسي أبيض ... محامل فيها رجال فرض
يعني هرمي ، قال آخر :
لعمرك قد أعطيت جارك فارضا ... تساق إليه ما تقوم على رجل
أي قديما ، وقال آخر :
يا رب ذي ضغن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض
(1/448)
________________________________________
أي قديم. و"لا فارض" رفع على الصفة لبقرة. "ولا بكر" عطف. وقيل : "لا فارض" خبر مبتدأ مضمر ، أي لا هي فارض وكذا "لا ذلول" ، وكذلك "لا تسق الحرث" وكذلك "مسلمة" فاعلمه. وقيل : الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك ، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، قال بعض المتأخرين. والبكر : الصغيرة التي لم تحمل. وحكى القتبي أنها التي ولدت. والبكر : الأول من الأولاد ، قال :
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحت مني كذراع من عضد
والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم : ما لم يفتحله الفحل ، وهي مكسورة الباء. وبفتحها الفتي من الإبل. والعوان : النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين ، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه ، بخلاف الخيل ، قال الشاعر يصف فرسا :
كميت بهيم اللون ليس بفارض ... ولا بعوان ذات لون مخصف
فرس أخصف : إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه. وقال مجاهد : العوان من البقرة هي التي قد ولدت مرة بعد مرة. وحكاه أهل اللغة. ويقال : إن العوان النخلة الطويلة ، وهي فيما زعموا لغة يمانية. وحرب عوان : إذا كان قبلها حرب بكر ، قال زهير :
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل
أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة ، أي هي عوان ، وجمعها "عون" بضم العين وسكون الواو وسمع "عون" بضم الواو كرسل. وقد تقدم. وحكى الفراء من العوان عونت تعوينا.
قوله تعالى : {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقول الفقهاء ، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه ، وعلى أن الأمر على الفور ، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال :
(1/449)
________________________________________
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة : 71]. وقيل : لا ، بل على التراخي ، لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال ابن خويز منداد.
الآية 69 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
قوله تعالى : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} "ما" استفهام مبتدأة و"لونها" الخبر. ويجوز نصب "لونها" بـ "يبين" ، وتكون "ما" زائدة. واللون واحد الألوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة. واللون : النوع. وفلان متلون : إذا كان لا يثبت على خلاق واحد وحال واحد ، قال :
كل يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
ولون البسر تلوينا : إذا بدا فيه أثر النضج. واللون : الدقل ، وهو ضرب من النخل. قال الأخفش هو جماعة ، واحدها لينة.
قوله : {صَفْرَاءُ} جمهور المفسرين أنها صفراء اللون ، من الصفرة المعروفة. قال مكي عن بعضهم : حتى القرن والظلف. وقال الحسن وابن جبير : كانت صفراء القرن والظلف فقط. وعن الحسن أيضا : "صفراء" معناه سوداء ، قال الشاعر :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
قلت : والأول أصح لأنه الظاهر ، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل ، قال الله تعالى {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات : 33] وذلك أن السود من الإبل سوادها صفرة. ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع ، وذلك نعت مختص بالصفرة ، وليس يوصف السواد بذلك تقول العرب : أسود حالك وحَلَكوك وحُلْكوك ، ودجوجي وغربيب ، وأحمر قانئ ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق ، وأخضر ناضر ، وأصفر فاقع ، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب. قال
(1/450)
________________________________________
الكسائي : يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته. والإفقاع : سوء الحال. وفواقع الدهر بوائقه. وفقع بأصابعه إذا صوت ، ومنه حديث ابن عباس : نهى عن التفقيع في الصلاة ، وهي الفرقعة ، وهي غمز الأصابع حتى تنقض. ولم ينصرف "صفراء" في معرفة ولا نكرة ، لأن فيها ألف التأنيث وهى ملازمة فخالفت الهاء ، لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة ، كفاطمة وعائشة.
قوله تعالى : {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها.
قوله تعالى : {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قال وهب : كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، ولهذا قال ابن عباس : الصفرة تسر النفس. وحض على لباس النعال الصفر ، حكاه عنه النقاش. وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه : من لبس نعلي جلد أصفر قل همه ، لأن الله تعالى يقول : {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} حكاه عنه الثعلبي. ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود ، لأنها تهم. ومعنى "تسر" تعجب. وقال أبو العالية : معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين ، والله أعلم.
الآية 70 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان. وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع ، ولذلك قال : "إن البقر تشابه علينا" فذكره للفظ تذكير البقر. قال قطرب : جمع البقرة باقر وباقور وبقر. وقال الأصمعي : الباقر جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على باقورة ، حكاه النحاس. وقال الزجاج : المعنى إن جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس ، والأعرج فيما ذكر الثعلبي {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} بالتاء وشد الشين ، جعله فعلا مستقبلا وأنثه. والأصل تتشابه ، ثم أدغم التاء في الشين. وقرأ مجاهد "تشبه" كقراءتهما ،
(1/451)
________________________________________
إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبي "تشابهت" بتشديد الشين. قال أبو حاتم : وهو غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يعمر "إن الباقر يشابه" جعله فعلا مستقبلا ، وذكر البقر وأدغم. ويجوز "إن البقر تشابه" بتخفيف الشين وضم الهاء ، وحكاها الثعلبي عن الحسن. النحاس : ولا يجوز "يشابه" بتخفيف الشين والياء ، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين. والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى ، والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في "تشابه". وقيل إنما قالوا : {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} لأن وجوه البقر تشابه ، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر". يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه ، ولذلك قالت بنو إسرائيل : إن البقر تشابه علينا.
قوله تعالى : {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد ، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا" . وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و"شاء" في موضع جزم بالشرط ، وجوابه عند سيبويه الجملة "إن" وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد محذوف.
الآية 71 {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} قرأ الجمهور "لا ذلول" بالرفع على ، الصفة لبقرة. قال الأخفش : "لا ذلول" نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي "لا ذلول" بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول ، لا هي تسقى الحرث ، هي مسلمة. ومعنى "لا ذلول" لم يذللها العمل ، يقال : بقرة مذللة بينة الذل "بكسر الذال". ورجل ذليل بين الذل "بضم الذال". أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل.
(1/452)
________________________________________
قوله تعالى : {تُثِيرُ الأَرْضَ} "تثير" في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف ههنا حسن. وقال قوم : "تثير" فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي. والوقف على هذا التأويل "لا ذلول" والقول الأول أصح لوجهين : أحدهما : ما ذكره النحاس ، عن علي بن سليمان أنه قال : لا يجوز أن يكون "تثير" مستأنفا ، لأن بعده "ولا تسقي الحرث" ، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و"لا". الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله : {لا ذَلُولٌ} قلت : ويحتمل أن تكون {تُثِيرُ الأَرْضَ} في غير العمل مرحا ونشاطا ، كما قال امرؤ القيس :
يهيل ويذري تربه ويثيره ... إثارة نباث الهواجر مخمس
فعلى هذا يكون "تثير" مستأنفا ، "ولا تسقي" معطوف عليه ، فتأمله. وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه الحديث : "أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين" وفي رواية أخرى : "من أراد العلم فليثور القرآن" وقد تقدم. وفي التنزيل : {وَأَثَارُوا الأَرْضَ} [الروم : 9] أي قلبوها للزراعة. والحرث : ما حرث وزرع. وسيأتي.
مسألة : في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة ، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" . أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية ، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول. وهو يرد قول
(1/453)
________________________________________
الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا : لا يجوز السلم في الحيوان. وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبدالرحمن بن سمرة ، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة ، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين ، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {مُسَلَّمَةٌ} أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا ، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال : مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها. وقال الحسن : يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.
قوله تعالى : {لا شِيَةَ فِيهَا} أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها ، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد ، كما قال : {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . وأصل "شية" وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي ، والأصل يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين. وثور موشى : في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عرفة : الشية اللون. ولا يقال لمن نم : واش ، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء. والوشي : الكثرة. ووشى بنو فلان : كثروا. ويقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ، وثور أشيه كل ذلك بمعنى البلقة ، هكذا نص أهل اللغة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يسر ، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم ، نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها : أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي. ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها : إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها ، فساموه فاشتط عليهم. وكان قيمتها على
(1/454)
________________________________________
ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة. السدي : بوزنها عشر مرات. وقيل : بملء مسكها دنانير. وذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم.
قوله تعالى : {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بينت الحق ، قاله قتادة. وحكى الأخفش : "قالوا الآن" قطع ألف الوصل ، كما يقال : يا الله. وحكى وجها آخر "قالوا لان" بإثبات الواو. نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو "عادا لولى" وقرأ الكوفيون "قالوا الآن" بالهمز. وقراءة أهل المدينة "قال لان" بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج : "الآن" مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام ، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد ، تقول : أنت إلى الآن هنا ، فالمعنى إلى هذا الوقت. فبنيت كما بني هذا ، وفتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل.
قوله تعالى : {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} أجاز سيبويه : كاد أن يفعل ، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة. وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القرظي محمد بن كعب : لغلاء ثمنها. وقيل : خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ، قاله وهب بن منبه.
الآية 72 {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
قوله تعالى : {قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} هذا الكلام مقدم على أول القصة ، التقدير : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى : إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قِيَماً} [الكهف : 1 - 2] أي أنزل على عبده قيما ولم يجعل له عوجا ، ومثله كثير ، وقد بيناه أول القصة.
(1/455)
________________________________________
وفي سبب قتله قولان : أحدهما : لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه ، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل : ألقاه بين قريتين. الثاني : قتله طلبا لميراثه ، فإنه كان فقيرا وادعى قتله على بعض الأسباط. قال عكرمة : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه ، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط ، فادعى هؤلاء على هؤلاء ، وادعى هؤلاء على هؤلاء ، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال : {نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة : 67] الآية. ومعنى "ادارأتم} [البقرة : 72] الآية. ومعنى "ادارأتم" : اختلفتم وتنازعتم ، قال مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ، ولا يجوز الابتداء بالمدغم ، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل.
قوله تعالى : {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} ابتداء وخبر. {مَا كُنْتُمْ} في موضع نصب بـ "مخرج" ، ويجوز حذف التنوين على الإضافة. {كْتُمُونَ} جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه.
وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس : قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية : وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمه الله في "موطئه" أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل ، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال ، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي ، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله 0 وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي في قول له آخر : لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية. وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي. ورواه الشعبي عمر وعلي وزيد قالوا : لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا. وروي عن مجاهد القولان جميعا. وقالت طائفة من البصريين : يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا ، حكاه أبو عمر. وقول مالك أصح ، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى.
(1/456)
________________________________________
الآية 73 {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قيل : باللسان لأنه آلة الكلام. وقيل : بعجب الذنب ، إذ فيه يركب خلق الإنسان. وقيل : بالفخذ. وقيل : بعظم من عظامها ، والمقطوع به عضو من أعضائها ، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان.
مسألة : استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء ، قالوا : وهو الصحيح ، لأن قول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم إباحته إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه ، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال ، فافترقا. قال ابن العربي : المعجزة كانت في إحيائه ، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك ، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا : كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم.
مسألة : اختلف العلماء في الحكم بالقسامة ، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبدالعزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري ، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور : الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها ، فقالت طائفة : يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا] استحقوا ، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة ، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت
(1/457)
________________________________________
طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرؤون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي ، وبه قال الثوري والكوفيون ، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار ، وفيه : فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبدالرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم : "أيحلف منكم خمسون رجلا" . فأبو ا ، فقال للأنصار : "استحقوا" فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود ، لأنه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام : "ولكن اليمين على المدعى عليه" فعينوا.
قالوا : وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا : حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث ، وقد أخرجه النسائي وقال : ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم ، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبدالوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل ، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الأصيلي : فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة ، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه : فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من أبل الصدقة ، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها ، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة ، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، والحكم بظاهر ذلك يجب ، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر. فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمي به المقذوف وخص
(1/458)
________________________________________
من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة" . خرجه الدارقطني. وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية ، فتأمله هناك.
مسألة : واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة ، فأوجبت طائفة القود بها ، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور ، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن : "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بني نضر بن مالك. قال الدارقطني : نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة ، وكذلك أبو عمر بن عبدالبر يصحح حديث عمرو بن شعيب ، ويحتج به ، وقال البخاري : رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة : لا قود بالقسامة ، وإنما توجب الدية. روي هذا عن عمر وابن عباس ، وهو قول النخعي والحسن ، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق ، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبدالله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار : "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" . قالوا : وهذا يدل على الدية لا على القود ، قالوا : ومعنى قوله عليه السلام : "وتستحقون دم صاحبكم" دية دم قتيلكم لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم ، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه ، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم.
مسألة : الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه. واللوث : أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل ، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل ، أو يرى المقتول يتشحط في دمه ، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل. وقد اختلف في اللوث والقول به ، فقال مالك : هو قول المقتول دمي عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم عنه.
(1/459)