الجزء 13 من الطبعة
سورة الفرقان
الآية : [25] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} .
الآية : [26] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو : {تَشَقَّقُ} بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا ، واختاره أبو عبيد. الباقون {تَشَقَّقُ} بتشديد الشين على الإدغام ، واختاره أبو حاتم. وكذلك في {ق} . {بِالْغَمَام} أي عن الغمام. والباء وعن يتعاقبان ؛ كما تقول : رميت بالقوس وعن القوس. روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه ؛ وهو الذي قال تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة : 210]. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} من السماوات ، ويأتي الرب جل وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء ، على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه ؛ لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال. وقال ابن عباس : تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا ، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة ، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ؛ وهو معنى قوله : {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين. وقيل : إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس ؛ فبتشقق الغمام تتشقق السماء ؛ فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها. وقرأ ابن كثير : {ونُنْزِلُ اْلمَلاَئِكَةَ} بالنصب من الإنزال. الباقون. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } بالرفع. دليله {تَنْزِيلاً} ولو كان على الأول لقال إنزالا. وقد قيل : إن نزل وأنزل بمعنى ؛ فجاء {تنزيلا} على {نَزَّلَ} وقد قرأ عبدالوهاب عن أبي عمرو : {ونُزِلَ الملائكة تَنْزِيلاً} . وقرأ ابن مسعود : {وأَنْزَلَ الملائكة} . أبي بن كعب : {ونُزِّلَتِ الملائكة} . وعنه {وتنزلت الملائكة} .
قوله تعالى : {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} {الملك} مبتدأ و {الحق} صفة له و {للرحمن} الخبر ؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك ؛ فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم ، وزال كل ملك وملكه. وبقي الملك الحق لله وحده. {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان ، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة ؛ على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دال عليه ؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال : عسِر يعسَر ، وعسُر يعسُر.
(13/24)
الآية : [27] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}
الآية : [28] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}
الآية : [29] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الماضي عضضت. وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير ، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم ههنا يراد به عقبة بن أبي معيط ، وأن خليله أمية بن خلف ؛ فعقبة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ؛ فقال : أأقتل دونهم ؟ فقال. نعم ، بكفرك وعتوك. فقال : من للصبية ؟ فقال : النار. فقام علي رضي الله عنه فقتله. وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة ، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله عز وجل : قال ابن عباس وقتادة وغيرهما : وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا : قتل عقبة يوم بدر صبرا ، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد ؛ ذكره القشيري والثعلبي ، والأول ذكره النحاس. وقال السهيلي : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} هو عقبة بن أبي معيط ، وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخ أمية ، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه ، فعاتبه خليله أمية بن خلف ، أو أبي بن خلف وكان غائبا. فقال عقبة : رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله : لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل
(13/25)
عدو الله ما أمره به خليله ؛ فأنزل الله عز وجل : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} قال الضحاك : لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه ، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه ، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله. {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} في الدنيا ، يعني طريقا إلى الجنة .{يَا لَيْتَنِي} دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته. {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} يعني أمية ، وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا ، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. وقال مجاهد وأبو رجاء : الظالم عام في كل ظالم ، وفلان : الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} وقرأ الحسن : {يا وَيْلَتِي}. والخليل : الصاحب والصديق {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي يقول هذا النادم : لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به. وقيل : {نِ الذِّكْرِ} أي عن الرسول. {وََكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} قيل : هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله : {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} . والخذل الترك من الإعانة ؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك ، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان ، خذولا عند نزول العذاب والبلاء. ولقد أحسن من قال :
تجنب قرين السوء وأصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ... إذا اشتعلت نيرانه في عذاره
آخر :
اصحب خيار الناس حيث لقيتهم ... خير الصحابة من يكون عفيفا
والناس مثل دراهم ميزتها ... فوجدت منها فضة وزيوفا
(13/26)
وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة" لفظ مسلم. وأخرجه أبو داود من حديث أنس. وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله ؛ أي جلسائنا خير ؟ قال : "من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله" . وقال مالك بن دينار : إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار. وأنشد :
وصاحب خيار الناس تنج مسلما ... وصاحب شرار الناس يوما فتندما
الآية : [30] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}
الآية : [31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}
قوله تعالى : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم ، يشكوهم إلى الله تعالى. {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر ؛ عن مجاهد والنخعي. وقيل : معنى {مَهْجُوراً} أي متروكا ؛ فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه ، فاصبر ، لأمري كما صبروا ، فإني هاديك وناصرك على كل من ناوأك. وقد قيل : إن قول الرسول {يَا رَبِّ} إنما يقوله يوم القيامة ؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني. وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء
(13/27)
يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه". ذكره الثعلبي. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} نصب على الحال أو التمييز ، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك. وقال ابن عباس : عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله.
الآية : [32] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} .
الآية : [33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} اختلف في قائل ذلك على قولين : أحدهما : أنهم كفار قريش ؛ قاله ابن عباس. والثاني : انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا : هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. فقال الله تعالى : {كَذَلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي به قلبك فتعيه وتحمله ؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون ، والقرآن أنزل على نبي أمي ؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأيسر على العامل به ؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب.
قلت : فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته ؟ . قيل : في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة ، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه ، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل : إن قوله {كَذَلِكَ } من كلام المشركين ، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك ، أي كالتوراة والإنجيل ، فيتم الوقف على {كَذَلِكَ} ثم يبتدئ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} . ويجوز أن يكون الوقف على قوله : {جُمْلَةً وَاحِدَةً} ثم يبتدئ {ذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال
(13/28)
ابن الأنباري : والوجه الأول أجود وأحسن ، والقول الثاني قد جاء به التفسير ، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1] قال : أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء ، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة. قال : فهو قوله {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة : 75] يعني نجوم القرآن {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة : 76 - 77 ]. قال : فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة ، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فقال الله تبارك وتعالى : {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} يا محمد. {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} يقول : ورسلناه ترسيلا ؛ يقول : شيئا بعد شيء.
قوله تعالى : {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} يقول : لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به ، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس : وكان ذلك من علامات النبوة ، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه ، وهذا لا يكون إلا من نبي ، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم ، ويدل على هذا {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم ، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا ، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة ، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح ، ثم ينزل النسخ بعد ذلك ؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة : افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس : والأولى أن يكون التمام {جملة واحدة} لأنه إذا وقف على {كَذَلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك : {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا. والمعنى : أحسن من مثلهم تفصيلا ؛ فحذف لعلم السامع. وقيل : كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف
(13/29)
والتبديل ، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم ؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل ، ولهذا قال تعالى : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة : 42]. وقيل : {لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم.
الآية : [34] {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} تقدم في {سبحان}. {جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} لأنهم في جهنم. وقال مقاتل : قال الكفار لأصحاب محمد. صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق. {وأضل سبيلا} أي دينا وطريقا. ونظم الآية : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة ، وهم محشورون على وجوههم.
الآية : [35] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً}
الآية : [36] {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يريد التوراة. {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً}تقدم في {طه}. {فَقُلْنَا اذْهَبَا} الخطاب لهما. وقيل : إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى. وهذا بمنزلة قوله : {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف : 61]. وقوله : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 22] وإنما يخرج من أحدهما. قال النحاس : وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى ، وقد قال جل وعز : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَأْتِيَاهُ فَقُولا
(13/30)
إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه : 44 - 47]. ونظير هذا : {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن : 62]. وقد قال جل ثناؤه : {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا} [المومنون : 45] قال القشيري : وقوله في موضع آخر : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه : 24] لا ينافي هذا ؛ لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور. ويجوز أن يقال : أمر موسى أولا ، ثم لما قال : {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه : 29] قال : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه : 43]. {إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} يريد فرعون وهامان والقبط. {فدمرناهم تدميرا} في الكلام إضمار ؛ أي فكذبوهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي أهلكناهم إهلاكا.
الآية : [37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}
قوله تعالى : {وَقَوْمَ نُوحٍ} في نصب "قوم" أربعة أقوال : العطف على الهاء والميم في {دمرناهم}. الثاني : بمعنى اذكر. الثالث : بإضمار فعل يفسره ما بعده ؛ والتقدير : وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع : إنه منصوب بـ {أَغْرَقْنَاهُمْ} قاله الفراء. ورده النحاس قال : لأن {أَغْرَقْنَا} ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي {قَوْمِ نُوحٍ} . {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} ذكر الجنس والمراد نوح وحده ؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده ؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله ، وبالإيمان بما ينزل الله ، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. وقيل : إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل ؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان ، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله ، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. {أَغْرَقْنَاهُمْ} أي بالطوفان على ما تقدم في {هُودُ} . {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي علامة ظاهرة على قدرتنا {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أي للمشركين من قوم نوح {عَذَاباً أَلِيماً} أي في الآخرة. وقيل : أي هذه سبيلي في كل ظالم.
الآية : [38] {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}
(13/31)
قوله تعالى : {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} كله معطوف على {قَوْمَ نُوحٍ} إذا كان {قَوْمَ نُوحٍ} منصوبا على العطف ، أو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في {دَمَّرْنَاهُمْ} أو على المضمر في {مَا جَعَلْنَاهُمْ} وهو اختيار النحاس ؛ لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل ؛ أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم ، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة. و {أَصْحَابَ الرَّسِّ} والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية ، والجمع رساس. قال :
تنابلة يحفرون الرساسا
يعني آبار المعادن. قال ابن عباس : سألت كعبا عن أصحاب الرس قال : صاحب {يس} الذي قال : {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس : 20] قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها ، وكذا قال مقاتل. السدي : هم أصحاب قصة {يس} أهل أنطاكية ، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل {يس} فنسبوا إليها. وقال علي رضي الله عنه : هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم ؛ وكان من ولد يهوذا ، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر ، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس : هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه ، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم ، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم ؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة : أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة : والرس قرية بفلج اليمامة. وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما
(13/32)
وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي". قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة" وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي ، واللفظ للثعلبي ، وقال : هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس ؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم ، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبي : أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق ؛ ذكره الماوردي. وقيل : هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين ، وسيأتي. وقيل : هم بقايا من قوم ثمود ، وأن الرس البئر المذكورة في {الْحَجَّ} في قوله : {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج : 45] على ما تقدم. وفي الصحاح : والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق ، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق" . وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل : الثلج المتراكم في الجبال ؛ ذكره القشيري. وما ذكرناه أولا هو المعروف ، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة : الرس كل ركية لم تطو ؛ وجمعها رساس. قال الشاعر :
وهم سائرون إلى أرضهم ... فيا ليتهم يحفرون الرساسا
والرس اسم واد في قول زهير :
بكرن بكورا واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
ورسست رسا : حفرت بئرا. ورس الميت أي قبر. والرس : الإصلاح بين الناس ، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم ؛ فهو من الأضداد. وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا ، ذكره
(13/33)
الثعلبي وغيره. {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد. وثمود وأصحاب الرس. وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له : ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به ؟ قال : لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال ، فكان فيهم أطباء ، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت ؛ فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات ، رحمه الله.
الآية : [39] {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}
قوله تعالى : {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} قال الزجاج. أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة ، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة. وقيل : انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه ؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ ؛ ذكره المهدوي. والمعنى واحد. {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أي أهلكنا بالعذاب. وتبرت الشيء كسرته. وقال المؤرج والأخفش : دمرناهم تدميرا. تبدل التاء والباء من الدال والميم.
الآية : [40] {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} يعني مشركي مكة. والقرية قرية قوم لوط. والحجارة التي أمطروا بها. {مَطَرَ السَّوْءِ} الحجارة التي أمطروا بها. {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} أي في أسفارهم ليعتبروا. قال ابن عباس : كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله تعالى : {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات : 137] وقال : {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر : 79]. {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} أي لا يصدقون بالبعث. ويجوز أن يكون معنى {يَرْجُونَ} يخافون. ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه : بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة.
(13/34)
الآية : [41] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}
الآية : [42 ]{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} جواب {إذا} {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} لأن معناه يتخذونك. وقيل : الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون : {أَهَذَا الَّذِي} وقوله : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} كلام معترض. ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا : {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} والعائد محذوف ، أي بعثه الله. {رَسُولاً} نصب على الحال والتقدير : أهذا الذي بعثه الله مرسلا. {أَهَذَا} رفع بالابتداء و {الَّذِي} خبره. {رَسُولاً} نصب على الحال. و {بَعَثَ} في صلة {الَّذِي} واسم الله عز وجل رفع بـ {بَعَثَ}. ويجوز أن يكون مصدرا ؛ لأن معنى {بَعَثَ} أرسل ويكون معنى {رَسُولاً} رسالة على هذا. والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار .{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} أي قالوا قد كاد أن يصرفنا. {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي حبسنا أنفسنا على عبادتها. {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} يريد من أضل دينا أهم أم محمد ، وقد رأوه في يوم بدر.
الآية : 43 {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}
قوله تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم ، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبي وغيره : كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله ، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن ؛ فعلى هذا يعني : أرأيت من اتخذ إلهه بهواه ؛ فحذف الجار. وقال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله ، ثم تلا هذه الآية.
(13/35)
قال الشاعر :
لعمر أبيها لو تبدت لناسك ... قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك
لصلى لها قبل الصلاة لربه ... ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك
وقيل : {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي أطاع هواه. وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه ، والمعنى واحد. {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد. أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك ، وإنما عليك التبليغ. وهذا رد على القدرية. ثم قيل : إنها منسوخة بآية القتال. وقيل : لم تنسخ ؛ لأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
الآية : 44 {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ولم يقل أنهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن. وذمهم جل وعز بهذا. {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه ؛ أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل : المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا ؛ والمراد أهل مكة. وقيل : {أَمْ} بمعنى بل في مثل هذا الموضع. {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام. وقال مقاتل : البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها ، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل : لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا.
الآية : [45] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ، }
الآية : [46] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}
(13/36)
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين ، ومجوز أن تكون من العلم. وقال الحسن وقتادة وغيرهما : مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل : هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها. والأول أصح ؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة ؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة : وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد ، وتطيب نفوس الأحياء فيها. وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. وقال أبو العالية : نهار الجنة هكذا ؛ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. أبو عبيدة : الظل بالغداة والفيء بالعشي ؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس ؛ سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر ، وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكني بها عن امرأة :
فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
وقال ابن السكيت : الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. ابن عباس : يريد إلى يوم القيامة ، وقيل : المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى ؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل ، ولولا النور ما عرفت الظلمة. فالدليل فعيل بمعنى الفاعل. وقيل : بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب. أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به ؛ أي أتبعناها إياه. فالشمس دليل أي حجة وبرهان ، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه. ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم ؛ كما يقال : الشمس برهان والشمس حق. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يريد ذلك الظل الممدود. {إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أي يسيرا قبضه علينا. وكل أمر ربنا عليه يسير. فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع
(13/37)
الفجر إلى طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا ، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها ، فإذا غربت فليس هناك ظل ، إنما ذلك بقية نور النهار. وقال قوم : قبضه بغروب الشمس ؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية ، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل : إن هذا القبض وقع بالشمس ؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا ؛ قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي. وقيل : {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء {قَبْضاً يَسِيراً}. وقيل : {يَسِيراً} أي سريعا ، قاله الضحاك. قتادة : خفيا ؛ أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا ؛ كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة ، وليس يزول دفعة واحدة. فهذا معنى قول قتادة ؛ وهو قول مجاهد.
الآية : [47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري : وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها.
الثانية- قال ابن العربي : ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه ؛ لأن الليل لباس. وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه. والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس. ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.
الثالثة- قوله تعالى : {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال. وأصل السبات من التمدد. يقال : سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة. وقيل : للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون ، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل :
السبت القطع ؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال ؛ ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه. وقيل : السبت الإقامة في المكان ؛ فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه ؛ فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة. وقال الخليل : السبات نوم ثقيل ؛ أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة.
الرابعة- قوله تعالى : {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} من الانتشار للمعاش ؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار. شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة. وكان عليه السلام إذا أصبح قال : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .
(13/38)