الآية : 16 {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به ؛ يقال : دريت الشيء وأدراني الله به ، ودريته ودريت به. وفي الدراية معنى الختل ؛ ومنه دريت الرجل أي ختلته ، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف. وقرأ ابن كثير : {ولأدراكم به} بغير ألف بين اللام والهمزة ؛ والمعنى : لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم ؛ فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل. وقرأ ابن عباس والحسن {ولا أدراتكم به} بتحويل الياء ألفا ، على لغة بني عقيل ؛ قال الشاعر :
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقال آخر :
ألا آذنت أهل اليمامة طيء ... بحرب كناصات الأغر المشهر
قال أبو حاتم : سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء : هل لقراءة الحسن {ولا أدراتكم به}وجه ؟ فقال لا. وهل أبو عبيد : لا وجه لقراءة الحسن {ولا أدراتكم به} إلا الغلط. قال النحاس : معنى قول أبي عبيد : لا وجه ، إن شاء الله على الغلط ؛ لأنه يقال : دريت أي علمت ، وأدريت غيري ، ويقال : درأت أي دفعت ؛ فيقع الغلط بين دريت ودرأت. قال أبو حاتم : يريد الحسن فيما أحسب {ولا أدريتكم به} فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب ، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها ؛ مثل : {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه : 63]. قال المهدوي : ومن قرأ {أدرأتكم} فوجهه أن أصل الهمزة ياء ، فأصله {أدريتكم} فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة ؛ كما قال : يايس في ييس وطايء في طيء ، ثم قلبت الألف
(8/320)
همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم. قال النحاس : وهذا غلط ، والرواية عن الحسن {ولا أدرأتكم} بالهمزة ، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز ، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت ؛ أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن.
قوله تعالى : {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً} ظرف ، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة. {مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن ، تعرفونني بالصدق والأمانة ، لا أقرأ ولا أكتب ، ثم جئتكم بالمعجزات. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي. وقيل : معنى {لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً} أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله ، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله ، وأغير ما ينزله علي. قال قتادة : لبث فيهم أربعين سنة ، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء ، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة.
الآية : 17 {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}
هذا استفهام بمعنى الجحد ؛ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله. وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب ، وقلتم ليس هذا كلامه. وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم. وقيل : هو من قول الله ابتداء. وقيل : المفتري المشرك ، والمكذب بالآيات أهل الكتاب. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} .
الآية : 18 {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(8/321)
قوله تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} يريد الأصنام. {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وهذه غاية الجهالة منهم ؛ حيث ينتظرون الشفاعة في المال ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال. وقيل : {شُفَعَاؤُنَا} أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا. {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} قراءة العامة {تُنَبِّئُونَ} بالتشديد. وقرأ أبو السمال العدوي {أتنبِئون الله} مخففا ، من أنبأ ينبئ. وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة ؛ وهما بمعنى واحد ، جمعهما قوله تعالى : {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم : 3] أي أتخبرون الله أن له شريكا في ملكه أو شفيعا بغير إذنه ، والله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض ؛ لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه. نظيره قوله : {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد : 33] ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال : {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل : المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميز {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فيكذبون ؛ وهل يتهيأ لكم أن تنبؤه بما لا يعلم ، سبحانه وتعالى عما يشركون!. وقرأ حمزة والكسائي {تشركون} بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد. الباقون بالياء.
الآية : 19 {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
تقدم في "البقرة" معناه فلا معنى للإعادة. وقال الزجاج : هم العرب كانوا على الشرك. وقيل : كل مولود يولد عل الفطرة ، فاختلفوا عند البلوغ. {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} إشارة إلى القضاء والقدر ؛ أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا ، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفرهم ، ولكنه سبق من الله الأجل مع علمه بصنيعهم فجعل
(8/322)
موعدهم القيامة ؛ قال الحسن. وقال أبو ورق : {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لأقام عليهم الساعة. وقيل : لفرغ من هلاكهم. وقال الكلبي : "الكلمة" أن الله أخر هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا. هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة. والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به. وقيل : الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل ؛ كما قال : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : 15] وقيل : الكلمة قوله : (سبقت رحمتي غضبي) ولولا ذلك لما أخر العصاة إلى التوبة. وقرأ عيسى "لقضى" بالفتح.
الآية : 20 {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}
يريد أهل مكة ؛ أي هلا أنزل عليه آية ، أي معجزة غير هذه المعجزة ، فيجعل لنا الجبال ذهبا ويكون ل بيت من زخرف ، ويحيى لنا من مات من آبائنا. وقال الضحاك : عصا كعصا موسى. {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب. {فَانْتَظِرُوا} أي تربصوا. {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لنزولها. وقيل : انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل.
الآية : 21 {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}
يريد كفار مكة. {رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} قيل : رخاء بعد شدة ، وخصب بعد جدب. {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} أي استهزاء وتكذيب. وجواب قوله : {وَإِذَا أَذَقْنَا} : {إِذَا لَهُمْ} على قول الخليل وسيبويه. {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} ابتداء وخبر. {مَكْراً} على البيان ؛
(8/323)
أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم ، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر. {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}يعني بالرسل الحفظة. وقراءة العامة {تَمْكُرُونَ} بالتاء خطابا. وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي {يمكرون} بالياء ؛ لقول : {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} قيل : قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فان سقيتنا صدقناك ؛ فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا ، فهذا مكرهم.
الآيتان : 22 - 23 {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك. وقال الكلبي : يحفظكم في السير. والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر. وقد مضى الكلام في ركوب البحر في "البقرة". {يُسَيِّرُكُمْ} قراءة العامة. ابن عامر {ينشركم} بالنون والشين ، أي يبثكم ويفرقكم. والفلك يقع على الواحد والجمع ، ويذكر ويؤنث ، وقد تقدم القول فيه. وقوله : {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} خروج من الخطاب إلى الغيبة ، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير ؛ قال النابغة :
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
(8/324)
قال ابن الأنباري : وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب ؛ قال الله تعالى : {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان : 21 - 22] فأبدل الكاف من الهاء.
قوله تعالى {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} تقدم الكلام فيها في البقرة. {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} الضمير في {جَاءَتْهَا} للسفينة. وقيل للريح الطيبة. والعاصف الشديدة ؛ يقال : عصفت الريح وأعصفت ، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة ، قال الشاعر :
حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة ... فيها قطار ورعد صوته زجل
وقال "عاصف" بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر ، وهي القاصف أيضا. والطيبة غير عاصف ولا بطيئة. {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} والموج ما ارتفع من الماء {وَظَنُّوا} أي أيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أحاط بهم البلاء ؛ يقال لمن وقع في بلية : قد أحيط به ، كأن البلاء قد أحاط به ؛ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ، وأن المضطر يجاب دعاؤه ، وإن كان كافرا ؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب ؛ على ما يأتي بيانه في "النمل" إن شاء الله تعالى. وقال بعض المفسرين : إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا ؛ أي يا حي يا قيوم. وهي لغة العجم.
مسألة : هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا ، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء... الحديث. وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو ، وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مستوفى والحمد لله. وقد تعدم في آخر "الأعراف" حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه ، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه ؛ فتأمله هناك.
(8/325)
قوله تعالى : {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} أي هذه الشدائد والأهوال. وقال الكلبي : من هذه الريح. {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ} أي خلصهم وأنقذهم.. {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي. والبغي : الفساد والشرك ؛ من بغى الجرح إذا فسد ؛ وأصله الطلب ، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بالتكذيب ؛ ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها.
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي وباله عائد عليكم ؛ وتم الكلام ، ثم ابتدأ فقال : {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي هو متاع الحياة الدنيا ؛ ولا بقاء له. قال النحاس : {بَغْيُكُمْ} رفع بالابتداء وخبره {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . و {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} مفعول معنى فعل البغي. ويجوز أن يكون خبره {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وتضمر مبتدأ ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا ؛ وبين المعنيين حرف لطيف ، إذا رفعت متاعا على أنه خبر {بَغْيُكُمْ} فالمعنى. إنما بغي بعضكم على بعض ؛ مثل : {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور : 61] وكذا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة : 128]. وإذا كان الخبر {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم ؛ مثل {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال : أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا ، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا ؛ كما يقال : البغي مصرعة. وقرأ ابن أبي إسحاق {مَتَاعَ} بالنصب على أنه مصدر ؛ أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا. أو ينزع الخافض ، أي لمتاع ، أو مصدر ، بمعنى المفعول على الحال ، أي متمتعين. أو هو نصب على الظرف ، أي في متاع الحياة الدنيا ، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي. و {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} مفعول ذلك المعنى.
الآية : 24 {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
(8/326)
قوله تعالى : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} معنى الآية التشبيه والتمثيل ، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء ؛ أي مثل ماء ، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في "الكهف" إن شاء الله تعالى. {أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} نعت لـ {مَاءٍ}. {فَاخْتَلَطَ} روي عن نافع أنه وقف على {فَاخْتَلَطَ} أي فاختلط الماء بالأرض ، {بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي بالماء نبات الأرض ؛ فأخرجت ألوانا من النبات ، فنبات على هذا ابتداء ، وعلى مذهب من لم يقف على {فَاخْتَلَطَ} مرفوع باختلط ؛ أي اختلط النبات بالمطر ، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى : {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الحبوب والثمار والبقول. "والأنعام" من الكلأ والتبن والشعير. {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء ؛ ومنه قيل للذهب : زخرف. {وَازَّيَّنَتْ} أي بالحبوب والثمار والأزهار ؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل ؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب {وتزينت} على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية {وأَزْيَنَت} أي أتت بالزينة عليها ، أي الغلة والزرع ، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي : قرأ أشياخنا {وازْيانّت} وزنه اسوادت. وفي رواية المقدمي {وازّاينت} والأصل فيه تزاينت ، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبي وقتادة {وأزْيانت} مثل أفعلت. وقرأ عثمان النهدي {وازْيَنَت} مثل أفعلت ، وعنه أيضا {وازيانت} مثل أفعالت ، وروى عنه {ازيأنت} بالهمزة ؛ ثلاث قراءات.
قوله تعالى : {وَظَنَّ أَهْلُهَا} أي أيقن. {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي على حصادها والانتفاع بها ؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها. وقيل : رد
(8/327)
إلى الغلة ، وقيل : إلى الزينة. {أَتَاهَا أَمْرُنَا} أي عذابنا ، أو أمرنا بهلاكها. {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} ظرفان. {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} مفعولان ، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال {حَصِيداً} ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد : الحصيد المستأصل. {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي لم تكن عامرة ؛ من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة : المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة : كأن لم تنعم. قال لبيد :
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
وقراءة العامة {تَغْنَ} بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة {يغن} بالياء ، يذهب به إلى الزخرف ؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. {نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي نبينها. {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في آيات الله.
الآية : 25 {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال : إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام ، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن : السلام هو الله ، وداره الجنة ؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. ومن أسمائه سبحانه "السلام" ، وقد بيناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى). ويأتي في سورة "الحشر" إن شاء الله. وقيل : المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة ؛ قاله الزجاج. قال الشاعر :
تحيي بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد قومك من سلام
(8/328)
وقيل : أراد والله يدعو إلى دار التحية ؛ لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام ، وكذلك من الملائكة. قال الحسن : إن السلام لا ينقطع ، عن أهل الجنة ، وهو تحيتهم ؛ كما قال : {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس : 10]. وقال يحيى بن معاذ : يا ابن آدم ، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه ، فإن أجبته من دنياك دخلتها ، وإن أجبته من قبرك منعتها. وقال ابن عباس : الجنان سبع : دار الجلال ، ودار السلام ، وجنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم.
قوله تعالى : {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} عم بالدعوة إظهارا لحجته ، وخص بالهداية استغناء عن خلقه. والصراط المستقيم ، قيل : كتاب الله ؛ رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الصراط المستقيم كتاب الله تعالى" . وقيل : الإسلام ؛ رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : الحق ؛ قاله قتادة ومجاهد. وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وروى جابر بن عبدالله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : "رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها" ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. ثم تلا قتادة ومجاهد : {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} . وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية ؛ لأنهم قالوا : هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم ، والله قال : {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فردوا على الله نصوص القرآن.
(8/329)
الآية : 26 {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} روي من حديث أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : {وَزِيَادَةٌ} قال : "للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم" وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية. وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية ، وهو قول جماعة من التابعين ، وهو الصحيح في الباب. وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل" وفي رواية ثم تلا {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال : "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم". وخرجه ابن المبارك في دقائقه عن أبي موسى الأشعري موقوفا ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة ، وذكرنا هناك معنى كشف الحجاب ، والحمد لله. وخرج الترمذي الحكيم أبو عبدالله رحمه الله : حدثنا علي بن حجر حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله ؛ في قول {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال : "النظر إلى وجه الرحمن" وعن قوله : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] قال :
(8/330)
"عشرون ألفا". وقد قيل : إن الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك ؛ روي عن ابن عباس. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف باب. وقال مجاهد : الحسنى حسنة مثل حسنة ، والزيادة مغفرة من الله ورضوان. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : الحسنى الجنة ، والزيادة ما أعطاهم الله في الدنيا من فضله لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقال عبدالرحمن بن سابط : الحسنى البشرى ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ؛ قال الله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة : 22 - 23]. وقال يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر التي لم يروها ، وتقول : يا أهل الجنة ، ما تريدون أن أمطركم ؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطر لهم إياه. وقيل : الزيادة أنه ما يمر عليهم مقدار يوم من أيام الدنيا إلا حتى يطيف بمنزل أحدهم سبعون ألف ملك ، مع كل ملك هدايا من عند الله ليست مع صاحبه ، ما رأوا مثل تلك الهدايا قط ؛ فسبحان الواسع العليم الغني الحميد العلي الكبير العزيز القدير البر الرحيم المدبر الحكيم اللطيف الكريم الذي لا تتناهى مقدوراته. وقيل : {أَحْسَنُوا} أي معاملة الناس ، {الْحُسْنَى} : شفاعتهم ، والزيادة : إذن الله تعالى فيها وقبوله.
قوله تعالى : {وَلا يَرْهَقُ} قيل : معناه يلحق ؛ ومنه قيل : غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وقيل : يعلو. وقيل : يغشى ؛ والمعنى متقارب. {قَتَرٌ} غبار. {وَلا ذِلَّةٌ} أي مذلة ؛ كما يلحق أهل النار ؛ أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة. وأنشد أبو عبيدة للفرزدق :
متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقرأ الحسن {قَتْرٌ} بإسكان التاء. والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد ؛ قاله النحاس. وواحد القتر قترة ؛ ومنه قوله تعالى : {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس : 41] أي تعلوها غبرة. وقيل : قتر كآبة وكسوف. ابن عباس : القتر سواد الوجوه. ابن بحر : دخان النار ؛ ومنه قتار القدر. وقال ابن ليلى : هو بعد نظرهم إلى ربهم عز وجل.
(8/331)
قلت : هذا فيه نظر ؛ فإن الله عز وجل يقول : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إلى قوله {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء : 101 - 103] وقال في غير آية : {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 62] وقال : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت : 30] الآية. وهذا عام فلا يتغير بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده وجه المحسن بسواد من كآبة ولا حزن ، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران : 107].
الآية : 27 {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} أي عملوا المعاصي. وقيل : الشرك. {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} {جَزَاءُ} مرفوع بالابتداء ، وخبره {بِمِثْلِهَا} . قال ابن كيسان : الباء زائدة ؛ والمعنى جزاء سيئة مثلها. وقيل : الباء مع ما بعدها الخبر ، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه ، والمعنى : جزاء سيئة كائن بمثلها ؛ كقولك : إنما أنابك ؛ أي وإنما أنا كائن بك. ويجوز أن تتعلق بجزاء ، التقدير : جزاء السيئة بمثلها كائن ؛ فحذف خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون {جَزَاءُ} مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة ؛ فيكون مثل قوله : {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 184] أي فعليه عدة ، وشبهه ؛ والباء على هذا التقدير تتعلق بمحذوف ، كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها ، أو تكون مؤكدة أو زائدة.
ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم ، أي هم غير مظلومين ، وفعل الرب جلت قدرته وتعالى شأنه غير معلل بعلة. {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم هوان وخزي. {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} أي من عذاب الله. {مِنْ عَاصِمٍ} أي مانع يمنعهم منه.
(8/332)
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} أي ألبست. {وُجُوهُهُمْ قِطَعاً} جمع قطعة ، وعلى هذا يكون {مُظْلِماً} حال من {اللَّيْلِ} أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته. وقرأ الكسائي وابن كثير "قطعا" بإسكان الطاء ؛ فـ {مُظْلِماً} على هذا نعت ، ويجوز أن يكون حالا من الليل. والقطع اسم قطع فسقط. وقال ابن السكيت : القطع طائفة من الليل ؛ وسيأتي في "هود" إن شاء الله تعالى.
الآية : 28 {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي نجمعهم ، والحشر الجمع. {جَمِيعاً} حال. {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي اتخذوا مع الله شريكا. {مَكَانَكُمْ} أي الزموا واثبتوا مكانكم ، وقفوا مواضعكم. {أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} وهذا وعيد. {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ؛ يقال : زيلته فتزيل ، أي فرقته فتفرق ، وهو فعلت ؛ لأنك تقول في مصدره تزييلا ، ولو كان فيعلت لقلت زيلة. والمزايلة المفارقة ؛ يقال : زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه. والتزايل التباين. قال الفراء : وقرأ بعضهم {فزايلنا بينهم} ؛ يقال : لا أزايل فلانا ، أي لا أفارقه ؛ فإن قلت : لا أزاوله فهو بمعنى آخر ، معناه لا أخاتله. {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} عنى بالشركاء الملائكة. وقيل : الشياطين ، وقيل : الأصنام ؛ فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة. وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا. قال مجاهد : ينطق الله الأوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون ، وما أمرناكم بعبادتنا. وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى أنهم يقولون ذلك دهشا ، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص ، وقد يجري مثل هذا غدا ؛ وإن صارت المعارف ضرورية.
(8/333)