فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 14 يوليو - 15:31 | |
| المجلد الثامن تابع سورة الأنفال الآية : 29 {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فيه خمس عشرة مسألة : - الأولى : قوله تعالى : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام ، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها ، قال الله عز وجل : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة : 28] الآية. على ما تقدم. ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك ، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم. فقال الله عز وجل : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية. فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف ، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم ، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل (8/109) والشرائع والملل ، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة ، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل. وهو الصحيح. قال ابن العربي : سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها. فقال : "قَاتِلُوا" وذلك أمر بالعقوبة. ثم قال : {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة. وقوله : {وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد. ثم قال : {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} زيادة للذنب في مخالفة الأعمال. ثم قال : {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام. ثم قال : {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} تأكيد للحجة ، لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. ثم قال : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به. الثانية : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية ، قال الشافعي رحمه الله : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية ، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5]. ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب. وقال : وتقبل من المجوس بالسنة وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الأوزاعي : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب. وكذلك مذهب مالك ، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجميا ، تغلبيا أو قرشيا ، كائنا من كان ، إلا المرتد. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون : تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها. وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية ، ولا يبقى على الأرض منهم أحد ، وإنما لهم القتال أو الإسلام. ويوجد لابن القاسم : أن الجزية تؤخذ منهم ، كما يقول مالك. وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص. وقال ابن وهب : (8/110) لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم. قال : لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم ، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية. وقال ابن الجهم : تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار ، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره : إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة. والله أعلم. الثالثة : وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم. وفي الموطأ : مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبدالرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . قال أبو عمر : يعني في الجزية خاصة. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب. وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا. وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف ، يدور على أبي سعيد البقال ، ذكره عبدالرزاق وغيره. قال ابن عطية : وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت. والله أعلم. الرابعة : لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم. وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم ، فقال عطاء بن أبي رباح : لا توقيت فيها ، وإنما هو على ما صولحوا عليه. وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري ، إلا أن الطبري قال : أقله دينار وأكثره لا حد له. واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية. وقال الشافعي : دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم (8/111) دينارا في الجزية. قال الشافعي : وهو المبين عن الله تعالى مراده. وهو قول أبي ثور. قال الشافعي : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز ، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز ، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام ، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكنِّ من البرد والحر. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا. لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره. وقد قيل : إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام. وقال ابن القاسم : لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى. قال أبو عمر : ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما. وإلى هذا رجع مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل : اثنا عشر ، وأربعة وعشرون ، وأربعون. قال الثوري : جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة ، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء ، إذا كانوا أهل ذمة. وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير. الخامسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين ، لأنه تعالى قال : {قَاتِلُوا الَّذِينَ} إلى قوله : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل. ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا ، لأنه لا مال له ، ولأنه تعالى قال : {حَتَّى يُعْطُوا} . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين ، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني. واختلف في الرهبان ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم. قال مطرف وابن الماجشون : هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه. السادسة : إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها. فإن خرجوا (8/112) تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة ، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر. ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول ، مثل ما يؤخذ من المسلمين. وهو مذهب عمر بن عبدالعزيز وجماعة من أئمة الفقهاء. والأول قول مالك وأصحابه. السابعة : إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها ، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين ، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم ، وأدب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى ، ويجب عليه الضمان. وقيل : لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها. ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا. فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير ، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض. وقيل : يحكم بينهم في المظالم على كل حال ، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم ، لأنه من باب الدفع عنهم وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم. ولا حظ لهم في الفيء ، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها ، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها ، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها. ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين ، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام. ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة. ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا. الثامنة : اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه ، فقال علماء المالكية : وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر. وقال الشافعي : وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى ، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك. وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه (8/113) الإسلام كأجرة الدار. وقال بعض الحنفية بقولنا. وقال بعضهم : إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد. واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة. وقول مالك أصح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس على مسلم جزية" . قال سفيان : معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه. أخرجه الترمذي وأبو داود. قال علماؤنا : وعليه يدل قوله تعالى : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} لأن بالإسلام يزول هذا المعنى. ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون. والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى. وإنما يقول : إن الجزية دين ، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل ، فصارت كالديون كلها. التاسعة : لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم. فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء. وقد قيل : هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم ، وهو مذهب. العاشرة : فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية. ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار. فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده ، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين. الحادية عشرة : الجزية وزنها فعلة ، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر : يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى (8/114) الثانية عشرة : روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس - في رواية : وصب على رؤوسهم الزيت - فقال : ما شأنهم ؟ فقال يحبسون في الجزية. فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" . في رواية : وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين ، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا. قال علماؤنا : أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز ، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم ، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه. ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء. وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" . الثالثة عشرة : قوله تعالى : {عَنْ يَدٍ} قال ابن عباس : يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال : مذمومين. وروى معمر عن قتادة قال : عن قهر وقيل : {عَنْ يَدٍ} عن إنعام منكم عليهم ، لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك. عكرمة : يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقال سعيد بن جبير. ابن العربي : وهذا ليس من قوله : {عَنْ يَدٍ} وإنما هو من قوله : {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . الرابعة عشرة : روى الأئمة عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة" وروى : "واليد العليا هي المعطية" . فجعل يد المعطي في الصدقة عليا ، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى. ويد الآخذ عليا ؛ ذلك بأنه الرافع الخافض ، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، لا إله غيره. عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها ؟ فقال : لا. وجاءه آخر (8/115) فقال له ذلك فقال : لا وتلا قوله تعالى : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله : {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل : قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن. قلت : فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام. قال : لا تجعل في عنقك صغارا. وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أمر فيها بالصغار على نفسي. الآية : 30 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فيه سبع مسائل : - الأولى : قرأ عاصم والكسائي {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} بتنوين عزير. والمعنى أن "ابنا" على هذا خبر ابتداء عن عزير و"عزير" ينصرف عجميا كان أو عربيا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {عُزَيْرُ ابْنُ} بترك التنوين لاجتماع الساكنين ، ومنه قراءة من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص : 1 - 2]. قال أبو علي : وهو كثير في الشعر. وأنشد الطبري في ذلك : لتجدني بالأمير برا ... وبالقناة مدعسا مكرا إذا غطيفُ السُّلَميُّ فرا الثانية : قوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص ، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك. وهذا مثل قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ (8/116) النَّاسُ} [آل عمران : 173] ولم يقل ذلك كل الناس. وقيل : إن قائل ما حكى عن اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم. قال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا فإذا قالها واحد فيتوجه أن تلزم الجماعة شنعة المقالة ، لأجل نباهة القائل فيهم. وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها. فمن ههنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها. والله أعلم. وقد روي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل فقال : (أين تذهب) ؟ قال : أطلب العلم ، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم. وقيل : بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل : إن الله قد حفظني التوراة ، فجعلوا يدرسونها من عنده. وكانت التوراة مدفونة ، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب وقتل بختنصر إياهم. ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا : إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله حكاه الطبري. وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله ، إنما أرادوا بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة. وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما. وهذا أشنع الكفر. قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وإنه ابن إله. قال ابن عطية : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة. وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه وهو كفر. الثالثة : قال ابن العربي : في هذا دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه ، لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا مكن من إطلاق الألسن به فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان. (8/117) الرابعة : قوله تعالى : {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} قيل : معناه التأكيد ، كما قال تعالى : {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة : 79] وقوله : {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام : 38] وقوله : {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة : 13] ومثله كثير. وقيل : المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان ، وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا ، فهو كذب وقول لساني فقط بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضدها الأدلة ويقوم عليها البرهان. قال أهل المعاني : إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا ، كقوله : {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران : 167] و {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف : 5] و {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح : 11]. الخامسة : قوله تعالى : {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} {يُضَاهِئُونَ} يشابهون ، ومنه قول العرب : امرأة ضهيأ للتي لا تحيض أو التي لا ثدي لها ، كأنها أشبهت الرجال. وللعلماء في {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ثلاثة أقوال : الأول : قول عبدة الأوثان : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. الثاني : قول الكفرة : الملائكة بنات الله. الثالث : قول أسلافهم ، فقلدوهم في الباطل واتبعوهم على الكفر ، كما أخبر عنهم بقوله تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف : 23]. السادسة : اختلف العلماء في "ضهيأ" هل يمد أو لا ، فقال ابن ولاد : امرأة ضهيأ ، وهي التي لا تحيض ، مهموز غير ممدود. ومنهم من يمد وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمد ، والهمزة فيها زائدة لأنهم يقولون نساء ضهي فيحذفون الهمزة. قال أبو الحسن قال لي (8/118) النجيرمي : ضهيأة بالمد والهاء. جمع بين علامتي تأنيث ، حكاه عن أبي عمرو الشيباني في النوادر. وأنشد : ضهيأة أو عاقر جماد ابن عطية : من قال {يُضَاهِئُونَ} مأخوذ من قولهم : امرأة ضهياء فقوله خطأ ، قاله أبو علي ، لأن الهمزة في (ضاهأ) أصلية ، وفي (ضهياء) زائدة كحمراء. السابعة : قوله تعالى : {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي لعنهم الله ، يعني اليهود والنصارى ، لأن الملعون كالمقتول. قال ابن جريج : {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} هو بمعنى التعجب. وقال ابن عباس : كل شيء في القرآن قتل فهو لعن ، ومنه قول أبان ابن تغلب : قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وحكى النقاش أن أصل "قاتل الله" الدعاء ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي : ياقاتل الله ليلى كيف تعجبني ... وأخبر الناس أني لا أباليها الآية : 31 {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الأحبار جمع حبر ، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. ومنه ثوب محبر أي جمع الزينة. وقد قيل في واحد الأحبار : حبر بكسر الحاء ، والدليل على ذلك أنهم قالوا : مداد حبر يريدون مداد عالم ، ثم كثر الاستعمال حتى قالوا للمداد حبر. قال الفراء : الكسر (8/119) والفتح لغتان. وقال ابن السكيت : الحبر بالكسر المداد ، والحبر بالفتح العالم. والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة ، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس ، ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به. قوله تعالى : {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أهل المعاني : جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء ومنه قوله تعالى : {قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف : 96] أي كالنار. قال عبدالله بن المبارك : وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن أبى البختري قال : سئل حذيفة عن قول الله عز وجل : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} هل عبدوهم ؟ فقال لا ، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه. وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال : "ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة [براءه" {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ثم قال : "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه". قال : هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث عبدالسلام بن حرب. وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. قوله تعالى : {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} مضى الكلام في اشتقاقه في "آل عمران" والمسيح : العرق يسيل من الجبين. ولقد أحسن بعض المتأخرين فقال : افرح فسوف تألف الأحزانا ... إذا شهدت الحشر والميزانا وسال من جبينك المسيح ... كأنه جداول تسيح ومضى في "النساء" معنى إضافته إلى مريم أمه. (8/120) الآية : 32 {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أي دلالته وحججه على توحيده. جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان. وقيل : المعنى نور الإسلام ، أي أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم. {بِأَفْوَاهِهِمْ} جمع فوه على الأصل ، لأن الأصل في فم فوه ، مثل حوض وأحواض. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} يقال : كيف دخلت {إِلَّا} وليس في الكلام حرف نفي ، ولا يجوز ضربت إلا زيدا. فزعم الفراء أن {إِلَّا} إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد. قال الزجاج : الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف. وأدوات الجحد : ما ، ولا ، وإن ، وليس : وهذه لا أطراف لها ينطق بها ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا ، ولكن الجواب أن العرب تحذف مع أبى. والتقدير : ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره. وقال علي بن سليمان : إنما جاز هذا في "أبَى" لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس : فهذا حسن ، كما قال الشاعر : وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله إلا أن أكون لها ابنما الآية : 33 {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. {بِالْهُدَى}أي بالفرقان. {وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي بالحجة والبراهين. وقد أظهره على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منها ، عن ابن عباس وغيره. وقيل : {لِيُظْهِرَهُ} أي ليظهر الدين دين الإسلام على كل دين. قال أبو هريرة والضحاك : هذا عند نزول عيسى عليه السلام. وقال السدي : ذاك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية. وقيل : المهدي هو عيسى فقط وهو غير صحيح لأن الأخبار الصحاح قد تواترت على أن المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز حمله على عيسى. والحديث الذي ورد في أنه"لا مهدي إلا عيسى" غير صحيح. قال البيهقي في كتاب البعث والنشور : لأن راويه محمد بن خالد الجندي وهو مجهول ، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو منقطع. والأحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهدي ، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح إسنادا. قلت : قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا كتاب التذكرة وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله. وقيل : أراد {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} في جزيرة العرب ، وقد فعل. (8/121) | |
|