تابع سورة الأنعام
...
الآية : 147 {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}
قوله تعالى : {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} شرط والجواب {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ} أي من سعة رحمته حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا. ثم أخبر بما أعده لهم في الآخرة من العذاب فقال : "ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين" وقيل : المعنى ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أراد حلوله في الدنيا.
الآية : 148 {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}
قوله تعالى : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قال مجاهد : يعني كفار قريش. قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} يريد البحيرة والسائبة والوصيلة. أخبر الله عز وجل بالغيب عما سيقولونه ؛ وظنوا أن هذا متمسك لهم لما لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما كانوا عليه. والمعنى : لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحل لهم فينتهوا فأتبعناهم على ذلك. فرد الله عليهم ذلك فقال {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي أعندكم دليل على أن هذا كذا ؟ : {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} في هذا القول. {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} لتوهموا ضعفتكم أن لكم حجة. وقول {وَلا آبَاؤُنَا} عطف على النون في {َشْرَكْنَا}.ولم يقل نحن ولا آباؤنا ؛ لأن قول {وَلا} قام مقام توكيد المضمر ؛ ولهذا حسن أن يقال : ما قمت ولا زيد.
الآية : 149 {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
قوله تعالى : {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} أي التي تقطع عذر المحجوج ، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد ، وإرساله الرسل والأنبياء ؛ فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات ، وأيد الرسل بالمعجزات ، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته
(7/128)
وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد ، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه. وقد لبست المعتزلة بقول : {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} فقالوا : قد ذم الله هؤلاء الذين جعلوا شركهم عن مشيئته. وتعلقهم بذلك باطل ؛ لأن الله تعالى إنما ذمهم على ترك اجتهادهم في طلب الحق. وإنما قالوا ذلك على جهة الهزء واللعب. نظيره {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف : 20]. ولو قالوه على جهة التعظيم والإجلال والمعرفة به لما عابهم ؛ لأن الله تعالى يقول : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام : 107]. و {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام : 111]. {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل : 9]. ومثله كثير. فالمؤمنون يقولونه لعلم منهم بالله تعالى.
الآية : 150 {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
قوله تعالى : {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} أي قل لهؤلاء المشركين أحضروا شهداءكم على أن الله حرم ما حرمتم. و{هَلُمَّ} كلمة دعوة إلى شيء ، ويستوي فيه الواحد والجماعة والذكر والأنثى عند أهل الحجاز ، إلا في لغة نجد فإنهم يقولون : هلما هلموا هلمي ، يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال. وعلى لغة أهل الحجاز جاء القرآن ، قال الله تعالى : {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب : 18] يقول : هلم أي أحضر أو ادن. وهلم الطعام ، أي هات الطعام. والمعنى ههنا : هاتوا شهداءكم ، وفتحت الميم لالتقاء الساكنين ؛ كما تقول : رد يا هذا ، ولا يجوز ضمها ولا كسرها. والأصل عند الخليل {ها} ضمت إليها {لُمّ} ثم حذفت الألف لكثرة الاستعمال. وقال غيره. الأصل {هل} زيدت عليها {لُمّ}.وقيل : هي على لفظها تدل على معنى هات. وفي كتاب العين للخليل : أصلها هل أؤم ، أي هل أقصدك ، ثم كثر استعمالهم
(7/129)
إياها حتى صار المقصود بقولها احضر كما أن تعال أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل ؛ فكثر استعمالهم إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي تعال.
قوله تعالى : {فَإِنْ شَهِدُوا} أي شهد بعضهم لبعض {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تصدق أداء الشهادة إلا من كتاب أو على لسان نبي ، وليس معهم شيء من ذلك.
الآية : 151 {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
الآية : 152 {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
الآية : 153 {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
فيه أربع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} أي تقدموا واقرؤوا حقا يقينا كما أوحى إلى ربي ، لا ظنا ولا كذبا كما زعمتم. ثم بين ذلك فقال {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} يقال للرجل : تعال ، أي تقدم ، وللمرأة تعالي ، وللاثنين والاثنتين تعاليا ، ولجماعة الرجال تعالوا ، ولجماعة النساء تعالين ؛ قال الله تعالى : {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب : 28]. وجعلوا التقدم ضربا من التعالي
(7/130)
والارتفاع ؛ لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال ، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم ؛ واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي ؛ قاله ابن الشجري.
الثانية : قوله تعالى : {مَا حَرَّمَ} الوجه في {مَا} أن تكون خبرية في موضع نصب بـ {تْلُ} والمعنى : تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم ؛ فإن علقت {عَلَيْكُمْ} بـ {حَرَّمَ} فهو الوجه ؛ لأنه الأقرب وهو اختيار البصريين. وإن علقته بـ {تْلُ} فجيد لأنه الأسبق ؛ وهو اختيار الكوفيين ؛ فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم. {أَلَّا تُشْرِكُوا} في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول ، أي أتل عليكم ألا تشركوا ؛ أي أتل عليكم تحريم الإشراك ، ويحتمل أن يكون منصوبا بما في {عَلَيْكُمْ} من الإغراء ، وتكون {عَلَيْكُمْ} منقطعة مما قبلها ؛ أي عليكم ترك الإشراك ، وعليكم إحسانا بالوالدين ، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش. كما تقول : عليك شأنك ؛ أي الزم شأنك. وكما قال : {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة : 105] قال جميعه ابن الشجري. وقال النحاس : يجوز أن تكون {أن} في موضع نصب بد لا من {مَا} ؛ أي أتل عليكم تحريم الإشراك. واختار الفراء أن تكون {لا} للنهي ؛ لأن بعده {ولا}
الثالثة : هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله. وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل. قال الله تعالى : {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران : 187]. وذكر ابن المبارك : أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال : قال ربيع بن خيثم لجليس له : أيسرك أن تؤتى بصحيفة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يفك خاتمها ؟ قال نعم. قال فاقرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فقرأ إلى آخر الثلاث الآيات. وقال كعب الأحبار : هذه الآية مفتتح التوراة : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
(7/131)
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية. وقال ابن عباس : هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة "آل عمران" أجمعت عليها شرائع الخلق ، ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل : إنها العشر كلمات المنزلة على موسى.
الرابعة : قوله تعالى : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما. و{إِحْسَاناً} نصب على المصدر ، وناصبه فعل مضمر من لفظه ؛ تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
الخامسة : كقوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} الإملاق الفقر : أي لا تئدوا من الموؤودة - بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم. وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر ، كما هو ظاهر الآية. أملق أي افتقر. وأملقه أي أفقره ؛ فهو لازم ومتعد. وحكى النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم. وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق ؛ يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه. وذكر أن عليا رضي الله عنه قال لامرأته : أملقي من مالك ما شئت. ورجل ملق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه. فالملق لفظ مشترك يأتي بيانه في موضعه.
السادسة : وقد يستدل بهذا من يمنع العزل ؛ لأن الوأد يرفع الموجود والنسل ؛ والعزل منع أصل النسل فتشابها ؛ إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا ؛ ولذلك قال بعض علمائنا : إنه يفهم من قوله عليه السلام في العزل : "ذلك الوأد الخفي" الكراهة لا التحريم وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم. وقال بإباحته أيضا جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء ؛ لقوله عليه السلام : "لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر" أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا. وقد فهم منه الحسن ومحمد بن المثنى النهي والزجر عن العزل. والتأويل الأول أولى ؛ لقوله عليه السلام : "إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء". قال مالك والشافعي : لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها. وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذاتها ، ومن حقها في الولد ، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين ، إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها ، إذ لا حق لها في شيء مما ذكر.
(7/132)
السابعة : قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} نظيره {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام : 120]. فقوله : {مَا ظَهَرَ} نهي عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي. {وَمَا بَطَنَ} ما عقد عليه القلب من المخالفة. وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. و {مَا ظَهَرَ} نصب على البدل من {الْفَوَاحِشَ}. {وَمَا بَطَنَ} عطف عليه.
الثامنة : قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الألف واللام في {النَّفْسَ} لتعريف الجنس ؛ كقولهم : أهلك الناس حب الدرهم والدينار. ومثله {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج : 19] ألا ترى قول سبحانه : {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} ؟ وكذلك قوله : {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر : 1 ، 2] لأنه قال : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة ، مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها. قال رسول الله صلى : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم ما له ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله" . وهذا الحق أمور : منها منع الزكاة وترك الصلاة ؛ وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة. وفي التنزيل {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة : 5] وهذا بين. وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة". وقال عليه السلام : "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" . أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى : "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" . وسيأتي بيان هذا في "الأعراف". وفي التنزيل : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة : 33] الآية. وقال : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات : 9] الآية. وكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم وسعى في الأرض فسادا بانتهاب الأهل والمال والبغي على السلطان والامتناع من حكمه يقتل. فهذا معنى قوله : {إِلاَّ بِالْحَقِّ} .
(7/133)
وقال عليه السلام : "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين" . وروى أبو داود والنسائي عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة" . وفي رواية أخرى لأبي داود قال : "من قتل رجل من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما" . في البخاري في هذا الحديث "وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" . خرجه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص.
التاسعة : قوله تعالى : {ذَلِكُمْ} إشارة إلى هذه المحرمات. والكاف والميم للخطاب ، ولا حظ لهما من الإعراب. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الوصية الأمر المؤكد المقدور. والكاف والميم محله النصب ؛ لأنه ضمير موضوع للمخاطبة. وفي وصى ضمير فاعل يعود على الله. وروى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال : علام تقتلوني! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد حصانه فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل" فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي به ، ولا ارتددت منذ أسلمت ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسول ، ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون!
الآية : 152 {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
العاشرة : قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بما فيه صلاحه وتثميره ، وذلك بحفظ أصول وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا ؛ فإنه جامع. قال مجاهد : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالتجارة فيه ، ولا تشتري منه ولا تستقرض.
الحادية عشرة : قوله تعالى : {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يعني قوته ، وقد تكون في البدن ، وقد تكون في المعرفة بالتجربة ، ولا بد من حصول الوجهين ؛ فإن الأشد وقعت هنا مطلقة
(7/134)
وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة "النساء" مقيدة ، فقال : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء : 6] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح ، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد ؛ فلو مكن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهوته وبقي صعلوكا لا مال له. وخص اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لأبنائهم فكان الاهتبال بفقيد الأب أولى. وليس بلوغ الأشد مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن ؛ لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة. وخص اليتيم بالذكر لأن خصمه الله. والمعنى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده. وفي الكلام حذف ؛ فإذا بلغ أشده وأونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله. واختلف العلماء في أشد اليتيم ؛ فقال ابن زيد : بلوغه. وقال أهل المدينة. بلوغه وإيناس رشده. وعند أبي حنيفة : خمس وعشرون سنة. قال ابن العربي : وعجبا من أبي حنيفة ، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياسا ولا نظرا وإنما تثبت نقلا ، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة ، ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس ، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين. وقد قيل : إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد ؛ كما قال سحيم بن وثيل :
أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون
يروى "نجدني" بالدال والذال. والأشد واحد لا جمع له ؛ بمنزلة الآنك وهو الرصاص. وقد قيل : واحده شد ؛ كفلس وأفلس. وأصله من شد النهار أي ارتفع ؛ يقال : أتيته شد النهار ومد النهار. وكان محمد بن الضبي ينشد بيت عنترة :
عهدي به النهار كأنما ... خضب اللبان ورأسه بالعظلم
(7/135)
وقال آخر :
تطيف به شد النهار ظعينة ... طويلة أنقاء اليدين سحوق
وكان سيبويه يقول : واحده شدة. قال الجوهري : وهو حسن في المعنى ؛ لأنه يقال : بلغ الغلام شدته ، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل ، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم ؛ من قولهم : يوم بؤس ويوم نعم. وأما قول من قال : واحده شد ؛ مثل كلب وأكلب ، وشد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس. كما يقولون في واحد الأبابيل : أبول ، قياسا على عجول ، وليس هو شيئا سمع من العرب. قال أبو زيد : أصابتني شدى على فعلى ؛ أي شدة. وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة.
الثانية عشرة : قوله تعالى : {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء. والقسط : العدل. {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن. وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرر. وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين ، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه. وقيل : الكيل بمعنى المكيال. يقال : هذا كذا وكذا كيلا ؛ ولهذا عطف عليه بالميزان. وقال بعض العلماء : لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطي بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له ، ولم يكلفه الزيادة ؛ لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه ؛ لما في النقصان من ضيق نفسه. وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبدالله بن عباس أنه قال : ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم ، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. وقال ابن عباس أيضا : إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم الكيل والميزان.
(7/136)
الثالثة عشرة : قوله تعالى : {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} يتضمن الأحكام والشهادات. {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} عام في جميع ما عهده الله إلى عباده. ومحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين. وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون.
الآية : 153 {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
الرابعة عشرة : قوله تعالى : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم ؛ فإنه لما نهى وأمر حذر هنا عن اتباع غير سبيله ، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نبينه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. {وَأَنَّ} في موضع نصب ، أي واتل أن هذا صراطي. عن الفراء والكسائي. قال الفراء : ويجوز أن يكون خفضا ، أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. وتقديرها عند الخليل وسيبويه : ولأن هذا صراطي ؛ كما قال : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن : 18] وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {وَأَنَّ هَذَا} بكسر الهمزة على الاستئناف ؛ أي الذي ذكر في الآيات صراطي مستقيما. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب {وَأَنْ هَذَا} بالتخفيف. والمخففة مثل المشددة ، إلا أن فيه ضمير القصة والشان ؛ أي وأنه هذا. فهي في موضع رفع. ويجوز النصب. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد ؛ كما قال عز وجل : {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف : 96]. والصراط : الطريق الذي هو دين الإسلام. {مُسْتَقِيماً} نصب على الحال ، ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة. وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي تميل. روى الدارمي أبو محمد في مسنده بإسناد صحيح : أخبرنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا ، ثم قال : "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال : "هذه سبل على كل سبيل
(7/137)
منها شيطان يدعو إليها" ثم قرأ هذه الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبدالله قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا ، وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن يساره ، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال : "هذا سبيل الله - ثم تلا هذه الآية – {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ، ومظنة لسوء المعتقد ؛ قاله ابن عطية.
قلت : وهو الصحيح. ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس : حدثنا محمد بن عبدالأعلى الصنعاني قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان أن رجلا قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ، وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية. وقال عبدالله بن مسعود : تعلموا العلم قبل أن يقبض ، وقبضه أن يذهب أهله ، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع ، وعليكم بالعتيق. أخرجه الدارمي. وقال مجاهد في قوله : {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال : البدع. قال ابن شهاب : وهذا كقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الأنعام : 159] الآية. فالهرب الهرب ، والنجاة النجاة! والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم ، الذي سلكه السلف الصالح ، وفيه المتجر الرابح. روى الأئمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا" . وروى ابن ماجة وغيره عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت
(7/138)
منها العيون ؛ ووجلت منها القلوب ؛ فقلنا : يا رسول الله ، إن هذه لموعظة مودع ، فما تعهد إلينا ؟ فقال : "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد" أخرجه الترمذي بمعناه وصححه. وروى أبو داود قال حدثنا ابن كثير قال أخبرنا سفيان قال : كتب رجل إلى عمر بن عبدالعزيز يسأل عن القدر ؛ فكتب إليه : أما بعد ، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته ، وكفوا مؤونته ، فعليك بلزوم الجماعة فإنها لك بإذن الله عصمة ، ثم أعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها ؛ فان السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل ، والحمق والتعمق ؛ فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم ، فإنهم على علم وقفوا ، وببصر نافذ كفوا ، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى ، وبفضل ما كانوا فيه أولى ، فإن كان الهدي ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه ، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ؛ فإنهم هم السابقون ، قد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا ما يشفي ؛ فما دونهم من مقصر ، وما فوقهم من مجسر ، وقد قصر قوم دونهم فجفوا ، وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم مع ذلك لعلى مستقيم. وذكر الحديث. وقال سهل بن عبدالله التستري : عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة ، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحوال ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه وأذلوه وأهانوه. قال سهل : إنما ظهرت البدعة على يدي أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم ؛ فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة فسمعه من لم يكن يسمعه ، فلو تركوهم
(7/139)
ولم يكلموهم لمات كل واحد منهم على ما في صدره ولم يظهر منه شيء وحمله معه إلى قبره. وقال سهل : لا يحدث أحدكم بدعة حتى يحدث له إبليس عبادة فيتعبد بها ثم يحدث له بدعة ، فإذا نطق بالبدعة ودعا الناس إليها نزع منه تلك الخَذْمَة.
قال سهل : لا أعلم حديثا جاء في المبتدعة أشد هذا الحديث : "حجب الله الجنة عن صاحب البدعة" . قال : فاليهودي والنصراني أرجى منهم. قال سهل : من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان ، ولا يخلون بالنسوان ، ولا يخاصمن أهل الأهواء. وقال أيضا : أتبعوا ولا تبتدعوا ، فقد كفيتم. وفي مسند الدارمي : أن أبا موسى الأشعري جاء إلى عبدالله بن مسعود فقال : يا أبا عبدالرحمن ، إن رأيت في المسجد آنفا شيئا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا ، قال : فما هو ؟ قال : إن عشت فستراه ، قال : رأيت في المسجد قوما حلقا حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة ؛ في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول لهم : كبروا مائة ؛ فيكبرون مائة. فيقول : هللوا مائة ؛ فيهللون مائة. ويقول : سبحوا مائة ؛ فيسبحون مائة. قال : فماذا قلت لهم ؟ قال : ما قلت لهم شيئا ؛ انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق ؛ فوقف عليهم فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا : يا أبا عبدالرحمن ، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال : فعدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم. أو مفتتحي باب ضلالة! قالوا : والله يا أبا عبدالرحمن ، ما أردنا إلا الخير. فقال : وكم من مريد للخير لن يصيبه. وعن عمر بن عبدالعزيز وسأله رجل عن شيء من أهل الأهواء والبدع ؛ فقال : عليك بدين الأعراب والغلام في الكتاب ، وآله عما سوى ذلك. وقال الأوزاعي : قال إبليس لأوليائه من أي شيء تأتون بنى آدم ؟ فقالوا : من كل شيء. قال : فهل تأتونهم من قبل الاستغفار ؟ قالوا :
(7/140)
هيهات! ذلك شيء قرن بالتوحيد. قال : لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه. قال : فبث فيهم الأهواء. وقال مجاهد : ولا أدري أي النعمتين علي أعظم أن هداني للإسلام ، أو عافاني من هذه الأهواء. وقال الشعبي : إنما سموا أصحاب الأهواء لأنهم يهوون في النار. كله عن الدارمي. وسئل سهل بن عبدالله عن الصلاة خلف المعتزلة والنكاح منهم وتزوجهم. فقال : لا ، ولا كرامة! هم كفار ، كيف يؤمن من يقول : القرآن مخلوق ، ولا جنة مخلوقة ولا نار مخلوقة ، ولا لله صراط ولا شفاعة ، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا عذاب القبر ولا منكر ولا نكير ، ولا رؤية لربنا في الآخرة ولا زيادة ، وأن علم الله مخلوق ، ولا يرون السلطان ولا جمعة ؛ ويكفرون من يؤمن بهذا. وقال الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله ، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال سفيان الثوري : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ؛ المعصية يتاب منها ، والبدعة لا يتاب منها. وقال ابن عباس : النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة ، عبادة. وقال أبو العالية : عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا. قال عاصم الأحول : فحدثت به الحسن فقال : قد نصحك والله وصدقك. وقد مضى في "آل عمران" معنى قوله عليه السلام : "تفرقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين" . الحديث. وقد قال بعض العلماء العارفين : هذه الفرقة التي زادت في فرق أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم قوم يعادون العلماء ويبغضون الفقهاء ، ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة. وقد روى رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى" . قال فقلت : جعلت فداك يا رسول الله! كيف ذاك ؟ قال : "يقرون ببعض ويكفرون ببعض" . قال قلت : جعلت فداك يا رسول الله! وكيف يقولون ؟ قال : "يجعلون إبليس عدلا لله في خلقه
(7/141)
وقوته ورزقه ويقولون الخير من الله والشر من إبليس" . قال : فيكفرون بالله ثم يقرؤون على ذلك كتاب الله ، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة ؟ قال : "فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة". وذكر الحديث.
ومضى في "النساء" وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء ، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام : 68] الآية. ثم بين في سورة "النساء" وهي مدنية عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء : 140] الآية. فألحق من جالسهم بهم. وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا : ينهي عن مجالستهم ، فإن انتهى وإلا ألحق بهم ، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبدالعزيز الحد على مجالس شربة الخمر ، وتلا {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} . قيل له : فإنه يقول إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم. قال ينهى عن مجالستهم ، فإن لم ينته أُلحق بهم.
الآية : 154 {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}
الآية : 155 {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} مفعولان. {تَمَاماً} مفعول من أجله أو مصدر. {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} قرئ بالنصب والرفع. فمن رفع - وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق. فعلى تقدير : تماما على الذي هو أحسن. قال المهدوي : وفيه بعد من أجل حذف المبتدأ العائد على الذي. وحكى سيبويه عن الخليل أنه سمع "ما أنا بالذي قائل لك شيئا". ومن نصب فعلى أنه فعل ماضي داخل في الصلة ؛ هذا قول البصريين. وأجاز الكسائي والفراء
(7/142)
أن يكون اسما نعتا للذي. وأجازا "مررت بالذي أخيك" ينعتان الذي بالمعرفة وما قاربها. قال النحاس : وهذا محال عند البصريين ؛ لأنه نعت للاسم قبل أن يتم ، والمعنى عندهم : على المحسن. قال مجاهد : تماما على المحسن المؤمن. وقال الحسن في معنى قوله : {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} كان فيهم محسن وغير محسن ؛ فأنزل الله الكتاب تماما على المحسنين. والدليل على صحة هذا القول أن ابن مسعود قرأ : {تماما على الذين أحسنوا}. وقيل : المعنى أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما كان علمه الله قبل نزول التوراة عليه. قال محمد بن يزيد : فالمعنى {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي تماما على الذي أحسنه الله عز وجل إلى موسى عليه السلام من الرسالة وغيرها. وقال عبدالله بن زيد : معناه على إحسان الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام من الرسالة وغيرها. وقال الربيع بن أنس : تماما على إحسان موسى من طاعته لله عز وجل ؛ وقاله الفراء. ثم قيل : {ثُمَّ} يدل على أن الثاني بعد الأول ، وقصة موسى صلى الله عليه وسلم وإتيانه الكتاب قبل هذا ؛ فقيل : {ثم} بمعنى الواو ؛ أي وآتينا موسى الكتاب ، لأنهما حرفا عطف. وقيل : تقدير الكلام ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ، ثم أتل ما آتينا موسى تماما. {وَتَفْصِيلاً} عطف عليه. وكذا {وَهُدىً وَرَحْمَةً} .
الآية : 155 {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
قوله تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ} ابتداء وخبر. {أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} نعت ؛ أي كثير الخيرات. ويجوز في غير القرآن {مباركاً} على الحال. {فَاتَّبِعُوهُ} أي أعملوا بما فيه. {وَاتَّقُوا} أي اتقوا تحريفه. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لتكونوا راجين للرحمة فلا تعذبون.
(7/143)