فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 21 مارس - 16:44 | |
| فيه أربع وأربعون مسألة : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين ؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب ؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في البقرة {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} قال : فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي : ألا لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت هذه الآية : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال عمر : انتهينا. وقال سعيد بن جبير : كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا ؛ فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . قالوا : نشربها للمنفعة لا للإثم ؛ فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فنزلت : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقالوا : في غير عين الصلاة. فقال عمر : اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية. فقال عمر : انتهينا ، انتهينا. ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الخمر قد حرمت ؛ على ما يأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى : وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد ما تعبدون. قال : فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ (5/200) وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات ؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها ، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها. الثانية : والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر ؛ إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم ؛ لقوله عليه السلام : "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه" . وقال عبيدة السلماني : {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} يعني إذا كنت حاقنا ؛ لقوله عليه السلام : "لا يصلين أحدكم وهو حاقن" في رواية "وهو ضام بين فخذيه" . قلت : وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى ؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره ، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع ، وكل ما يشغل البال ويغير الحال. قال صلى الله عليه وسلم : "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء" . فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر ، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه ، فيخشع في صلاته. ويدخل في هذه الآية : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} على ما يأتي بيانه. وقال ابن عباس : إن قوله تعالى : { أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} منسوخ بآية المائدة : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} الآية. فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى ؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال ؛ وهذا قبل التحريم. وقال مجاهد : نسخت بتحريم الخمر. وكذلك قال عكرمة وقتادة ، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران ؛ ذكره النحاس. وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها. الثالثة : قوله تعالى : {لا تَقْرَبُوا} إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه. والخطاب لجماعة الأمة (5/201) الصاحين. وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله ؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر. الرابعة : قوله تعالى : {الصَّلاةَ} اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا ؛ فقالت طائفة : هي العبادة المعروفة نفسها ؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ ولذلك قال {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . وقالت طائفة : المراد مواضع الصلاة ؛ وهو قول الشافعي ، فحذف المضاف. وقد قال تعالى {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} فسمى مواضع الصلاة صلاة. ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} هذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه. وقال أبو حنيفة : المراد بقوله تعالى : {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي ؛ وسيأتي بيانه. وقالت طائفة : المراد الموضع والصلاة معا ؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين. الخامسة : قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال من "تقربوا". و"سكارى" جمع سكران ؛ مثل كسلان وكسالى. وقرأ النخعي "سكرى" بفتح السين على مثال فعلى ، وهو تكسير سكران ؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه. وقرأ الأعمش "سكرى" كحبلى فهو صفة مفردة ؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد. والسكر : نقيض الصحو ؛ يقال : سكر يسكر مسكرا ، من باب حمد يحمد. وسكرت عينه تسكر أي تحيرت ؛ ومنه قوله تعالى : {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . وسكرت الشق سددته. فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل. السادسة : وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال قوم : السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من (5/202) الأديان ؛ وحملوا السكر في هذه الآية على النوم. وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية. قلت : وهذا المعنى موجود في أشعارهم ؛ وقد قال حسان. ونشربها فتتركنا ملوكا وقد أشبعنا هذا المعنى في "البقرة". قال القفال : فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه. قلت : هذا صحيح ، وسيأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى في قصة حمزة. وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في "المائدة" في قوله تعالى : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . السابعة : قوله تعالى : {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط. والسكران لا يعلم ما يقول ؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : إن السكران لا يلزمه طلاقه. وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزنى ؛ واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس. ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز ؛ فكذلك من سكر من الشراب. وأجازت طائفة طلاقه ؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، واختلف فيه قول الشافعي. والزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل ، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال أبو حنيفة : أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي ، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا. وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ؛ وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه. (5/203) وقال الإمام أبو عبدالله المازري : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران. وقال محمد بن عبدالحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال ابن شاس : ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب. قال : فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة ، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعال وأحواله فيما بينه وبين الناس ، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا ؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات ، فقيل : إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون ؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها. وقال سفيان الثوري : حد السكر اختلال العقل ؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد. وقال أحمد : إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران ؛ وحكي عن مالك نحوه. قال ابن المنذر : إذا خلط في قراءته فهو سكران ؛ استدلالا بقول الله تعالى : {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث ؛ ولا تصح صلاته وإن صلى الله عليه وسلم قضى. وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي. الثامنة : قوله تعالى : {وَلا جُنُباً} عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله : {حَتَّى تَعْلَمُوا} أي لا تصلوا وقد أجنبتم. ويقال : تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى. ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب. وربما خففوه فقالوا : جنب ؛ وقد قرأه كذلك قوم. وقال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ؛ مثل عنق وأعناق ، وطنب وأطناب. ومن قال للواحد جانب قال في الجمع : جناب ؛ كقولك : راكب وركاب. والأصل البعد ؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة ؛ قال : فلا تحرمي نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب ورجل جنب : غريب. والجنابة مخالطة الرجل المرأة. (5/204) التاسعة : والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال ؛ لقوله عليه السلام : "إنما الماء من الماء" أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال : "يغسل ما مس المرأة من ثم يتوضأ ويصلي" . قال أبو عبدالله : الغسل أحوط ؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه ، وقال في آخره : قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق : هذا منسوخ. وقال الترمذي : كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ. قلت : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل" . أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل" . زاد مسلم "وإن لم ينزل" . وقال ابن القصار : وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث "إذا التقى الختانان" وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث "الماء من الماء" لما اختلفوا. وتأوله ابن عباس على الاحتلام ؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء. (5/205) العاشرة : قوله تعالى : {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} يقال : عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب. وعبرت النهر عبورا ، وهذا عبر النهر أي شطه ، ويقال : عبر بالضم. والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة. وهذا عابر السبيل أي مار الطريق. وناقة عبر أسفار : لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها. قال الشاعر : عيرانة سرح اليدين شملة ... عبر الهواجر كالهزف الخاضب وعبر القوم ماتوا. وأنشد : قضاء الله يغلب كل شيء ... ويلعب بالجزوع وبالصبور فإن نعبر فإن لنا لمات ... وإن نغبر فنحن على نذور يقول : إن متنا فلنا أقران ، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت ؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا. الحادية عشرة : واختلف العلماء في قوله : {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم : عابر السبيل المسافر. ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ؛ وهذا قول أبي حنيفة ؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر ؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء ، والمسافر يتيمم إذا لم يجده. قال ابن المنذر : وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد. ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد. واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "المؤمن ليس بنجس" . قال ابن المنذر : وبه نقول. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي : عابر السبيل الخاطر المجتاز ؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي. وقالت طائفة : لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه ؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه. وقال أحمد وإسحاق في الجنب : إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد (5/206) حكاه ابن المنذر. وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصاب أحدهم الجنابة أضطر إلى المرور في المسجد. قلت : وهذا صحيح ؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ؛ فقال : "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" . ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال : "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" . وفي صحيح مسلم : "لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" . فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذا المسجد طريقا والعبور فيه. واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية ؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي" . قال علماؤنا : وهذا يجوز أن يكون ذلك ؛ لأن بيت علي كان في المسجد ، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال : "ما ينبغي لمسلم" الحديث. والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبدالله قال : سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبدالله بن عمر : هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه ، لم يكن في المسجد غيرهما ؛ وذكر الحديث. فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما ، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه ؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما. ويجوز أن (5/207) يكون ذلك تخصيصا لهما ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء ، فيكون هذا مما خص به ، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره. وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد ، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما ؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي. وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سدوا الأبواب إلا باب علي" فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد ، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد. وأما قوله : "لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات ، وأبواب البيوت خارجة من المسجد ؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له. والخوخات كالكوى والمشاكي ، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج. وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله : ولم يكن في المسجد غيرهما. فإن قيل : فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال : كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه. وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا. فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة ، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، ولا يصح له أن يتلبس بها. والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم. فإن قيل : يبطل بالمحدث. قلنا : ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه ؛ وفي قوله تعالى : {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} ما يغني ويكفي. وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه ؛ إذ هو أعظم حرمة. وسيأتي بيانه في "الواقعة" إن شاء الله تعالى. الثانية عشرة : ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ. وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (5/208) "لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن" أخرجه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر ، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا. قال سفيان : قال لي شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه. وأخرجه ابن ماجة قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ فذكره بمعناه ، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عباس ، عن عبدالله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ؛ أخرجه الدارقطني. وروى عن عكرمة قال : كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها ؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه ، فقامت فخرجت فرأته على جاريته ، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت ، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت : مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال : وأين رأيتني ؟ قالت : رأيتك على الجارية ؛ فقال : ما رأيتني ؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت : فأقرأ ، وكانت لا تقرأ القرآن ، فقال : أتانا رسول الله يتلوا كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع فقالت : آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم. الثالثة عشرة : قوله تعالى : {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال ؛ والاغتسال معنى معقول ، ولفظه عند العرب معلوم ، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول ؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم : غسلت الثوب ، وبين قولهم : (5/209) أفضت عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك ؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزئه حتى يتدلك ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال ، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه ؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه ، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه. وهذا قول المزني واختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي : وهذا هو المعقول من لفظ الغسل ؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال ، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا ، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه. قال : وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر واتقوا البشرة" قال : وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه ؛ على حد ما ذكرنا. قلت : لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين : أحدهما : أنه قد خولف في تأويله ؛ قال سفيان بن عيينة : المراد بقوله عليه السلام "وأنقوا البشرة" أراد غسل الفرج وتنظيفه ، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج. قال ابن وهب : ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة. الثاني : إن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه : وهذا الحديث ضعيف ؛ كذا في رواية ابن داسة. وفي رواية اللؤلئي عنه : الحارث بن وجيه ضعيف ، حديثه منكر ؛ فسقط الاستدلال بالحديث ، وبقي المعول على اللسان كما بينا. ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه ، فدعا بماء فأتبعه بول ولم يغسله ؛ روته عائشة ، ونحوه عن أم قيس بنت محصن ؛ أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء : يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك ؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما الأئمة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده ؛ وبه قال محمد بن عبدالحكم ، (5/210) وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك ؛ قال : وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ابن العربي : وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا ، وإنما هي من أوهامه. قلت : قد روي هذا عن مالك نصا ؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين : سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ ، قال : مضت صلاته. قال أبو عمر : فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ قياسا عل غسل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل. والعرب تقول : غسلتني السماء. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا ، ولو كان واجبا ما تركه ؛ لأنه المبين عن الله مراده ، ولو فعله لنقل عنه ؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه ، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر : وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة ؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا ، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة ، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه ، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه ؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة. وإنما ترد القروع قياسا على الأصول. وبالله التوفيق. الرابعة عشرة : حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا. وقد روي عن ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرار ، وغسل البول من الثوب سبع مرار ؛ (5/211) فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من الجنابة مرة ، والغسل من البول مرة. قال ابن عبدالبر : وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين ، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس ، وشعبة هذا ليس بالقوي ، ويرهما حديث عائشة وميمونة. الخامسة عشرة : ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون : يجعل من يلي ذلك منه ، أو يعالجه بخرقه. وفي الواضحة : يمر يديه على ما يدركه من جسده ، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه. السادسة عشرة : واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته ؛ فروى ابن القاسم عنه أنه قال : ليس عليه ذلك. وروى أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ابن عبدالحكم : ذلك هو أحب إلينا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة ، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه ؛ وعلى هذين القولين العلماء. ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب ، والبشرة التي تحت اللحية من جملته ؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد. وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف ، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة ؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل. قلت : ويعضد. هذا قوله صلى الله عليه وسلم : "تحت كل شعرة جنابة". السابعة عشرة : وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق ؛ لقوله تعالى : {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} منهم أبو حنيفة ؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين ، فمن تركهما أعاد كمن ترك لمعة ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وقال مالك : ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء ؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين. وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان : هما فرض في الوضوء والغسل جميعا ؛ وهو قول إسحاق (5/212) وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض ؛ وقال به بعض أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه ، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه ؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما بالآية ، وقوله تعالى : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة ؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا. احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها ، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل ، وفعل الاستنشاق وأمر به ؛ وأمره على الوجوب أبدا. الثامنة عشرة : قال علماؤنا : ولا بد في غسل الجنابة من النية ؛ لقوله تعالى : {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وذلك يقتضي النية ؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا وبقوله تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى ، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين ، وقال عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات" وهذا عمل. وقال الأوزاعي والحسن : يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية ، ولا يجزئ التيمم إلا بنية ؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك. التاسعة عشرة : وأما قدر الماء الذي يغتسل به ؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. "الفرق "تحرك راؤه وتسكن. قال ابن وهب : "الفرق "مكيال من الخشب ، كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية. وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى "الفرق "فقال : ثلاثة آصع ، قال : وهي خمسة أقساط ، قال : (5/213) | |
|