فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 21 مارس - 0:50 | |
| قلت : وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا ، وهو الصحيح. والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه. روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" . وروي عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" قيل : يا رسول الله ومن ؟ قال : "الذي لا يأمن جاره بوائقه" وهذا عام في كل جار. وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات ، وأنه لا يؤمن الكامل من أذى جاره. فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره ، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه ، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار" . الخامسة : روى البخاري عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ، قال : "إلى أقربهما منك بابا". فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى : {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} وأنه القريب المسكن منك. {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} هو البعيد المسكن منك. واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار ، وعضدوه وبقوله عليه السلام : "الجار أحق بصقبه". ولا حجة في ذلك ، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره. قال ابن المنذر : فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق. وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال : إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له. وعوام العلماء (5/184) يقولون : إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره ؛ إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال : لا يعطى إلا اللصيق وحده. السادسة : واختلف الناس في حد الجيرة ؛ فكان الأوزاعي يقول : أربعون دارا من كل ناحية ؛ وقال ابن شهاب. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى ؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه. وقال علي بن أبي طالب : من سمع النداء فهو جار. وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد. وقالت فرقة : من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار. قال الله تعالى : {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله : {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا. والجيرة مراتب بعضها الصق من بعض ، أدناها الزوجة ؛ كما قال : أيا جارتا بيني فإنك طالقة السابعة : ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك". فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق ؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة ؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره ، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة ، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة ، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة. وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم ، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية ؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها ، فإذا رأى ذلك أحب (5/185) أن يشارك فيه ؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة ؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب. والله أعلم. الثامنة : قال العلماء : لما قال عليه السلام "فأكثر ماءها" نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا ، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء ؛ ولذلك لم يقل : إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها ؛ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد. ولقد أحسن القائل : قدري وقدر الجار واحدة ... وإليه قبلي ترفع القدر ولا يهدى النزر اليسير المحتقر ؛ لقوله عليه السلام : "ثم أنظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف" أي بشيء يهدى عرفا ؛ فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع ، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر ، وعلى المهدى إليه قبوله ؛ لقوله عليه السلام : "يا نساء المؤمنات لا تحتقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا" أخرجه مالك في موطئه. وكذا قيدناه "يا نساء المؤمنات" بالرفع على غير الإضافة ، والتقدير : يا أيها النساء المؤمنات ؛ كما تقول يا رجال الكرام ؛ فالمنادى محذوف وهو يا أيها ، والنساء في التقدير النعت لأيها ، والمؤمنات نعت للنساء. قد قيل : فيه : يا نساء المؤمنات بالإضافة ، والأول أكثر. التاسعة : من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" . ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمين بها بين أكنافكم. روي "خشبه وخشبة" على الجمع والإفراد. وروي "أكتافهم" بالتاء و"أكنافهم" بالنون. ومعنى "لأرمين بها" أي بالكلمة والقصة. وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه خلاف بين العلماء. فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والإحسان إليه ، وليس ذلك على الوجوب ؛ بدليل قوله عليه السلام : "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن (5/186) طيب نفس منه" . قالوا : ومعنى قوله "لا يمنع أحدكم جاره" هو مثل معنى قوله عليه السلام : "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" . وهذا معناه عند الجميع الندب ، على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث : إلى أن ذلك على الوجوب. قالوا : ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب. وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة ، فقال محمد بن مسلمة : لا والله. فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك ؛ رواه مالك في الموطأ. وزعم الشافعي في كتاب "الرد" أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب ؛ وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه. قال أبو عمر : ليس كما زعم الشافعي ؛ لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر ، ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر ، وعبدالرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر ، والنظر ، يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة ؛ فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها ؛ هذا أو نحوه. أجاب الأولون فقالوا : القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام : "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما في الحكم. فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب. واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال : (5/187) استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول : أبشر هنيئا لك الجنة ؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره" . والأعمش لا يصح له سماع من أنس ، والله أعلم. قاله أبو عمر. العاشرة : ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار ، وهو حديث معاذ بن جبل قال : قلنا يا رسول الله ، ما حق الجار ؟ قال : "إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بنار قدرك إلا أن تعرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله" أو كلمة نحوها. هذا حديث جامع وهو حديث حسن ، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي. الحادية عشرة : قال العلماء : الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا. وفي الخبر قالوا : يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال : "لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين" . ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء ؛ فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية : "ابدئي بجارنا اليهودي" . وروي أن شاة ذبحت في أهل عبدالله بن عمرو فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" . الثانية عشرة : قوله تعالى : {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} أي الرفيق في السفر. وأسد الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين (5/188) فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة ، فقطع قضيبين أحدهما معوج ، فخرج وأعطى لصاحبه القويم ؛ فقال : كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال : "كلا يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحابته ولو ساعة من نهار" . وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن : للسفر مروءة وللحضر مروءة ؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب ، وكثرة المزاج في غير مساخط الله. وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد ، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل. ولبعض بني أسد - وقيل إنها لحاتم الطائي : إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركب فضلا فلا حملت رجلي ولم يك من زادي له شطر مزودي ... فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل شريكان فيما نحن فيه وقد أرى ... علي له فضلا بما نال من فضلي وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى : {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} الزوجة. ابن جريج : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. والأول أصح ؛ وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك. وقد تتناول الآية الجميع بالعموم. والله أعلم. الثالثة عشرة : قوله تعالى : {وَابْنِ السَّبِيلِ} قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا. والسبيل الطريق ؛ فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه. ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده. الرابعة عشرة : قوله تعالى : {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك ، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال : مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله ، فقلنا : يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة ؛ فقال : إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام ، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يا أبا ذر إنك امرؤ (5/189) فيك جاهلية" قلت : يا رسول الله ، من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال : "يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم" . وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه ، فقال له قائل : لو أنزلته يسعى خلف دابتك ؛ فقال أبو هريرة : لأن يسعى معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي. وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله" . لايمكم وافقكم. والملايمة الموافقة. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" وقال عليه السلام : "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي" وسيأتي بيانه في سورة يوسف عليه السلام. فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزية على عبيدهم ، إذ الكل عبيدالله والمال مال الله ، لكن سخر بعضهم لبعض ، وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة ؛ فإن أطعموهم أقل مما يأكلون ، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفه ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه. ولا خلاف في ذلك والله أعلم. وروى مسلم عن عبدالله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال : أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال لا. قال : فأنطلق فأعطهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم" . الخامسة عشرة : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه" . ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد. وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد (5/190) القصاص. وقال عليه السلام : "من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين" . وقال عليه السلام : "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" . وقال عليه السلام : "سوء الخلق شوم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء" . السادسة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد ؛ فروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "للعبد المملوك المصلح أجران" والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين" . فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد ؛ لأنه مخاطب من جهتين : مطالب بعبادة الله ، مطالب بخدمة سيده. وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبدالبر النمري وأبو بكر محمد بن عبدالله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ. استدل من فضل الحر بأن قال : الاستقلال بأمور الدين والدنيا وإنما يحصل بالأحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلال ، وكالآلة المصرفة بالقهر ، وكالبهيمة المسخرة بالجبر ؛ ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات ، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة المقدار ، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر ، وعناؤه أعظم فثوابه أكثر. وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله : لولا الجهاد والحج ؛ أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور. والله أعلم. السابعة عشرة : روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن ، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا ، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي - وروي حتى كاد - (5/191) وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا" . ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره. الثامنة عشرة : قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ} أي لا يرضى. {مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته ؛ أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة. وفي هذا ضرب من التوعد. والمختال ذو الخيلاء أي الكبر. والفخور : الذي يعدد مناقبه كبرا. والفخر : البذخ والتطاول. وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم. وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه "والجار الجنب" بفتح الجيم وسكون النون. قال المهدوي : هو على تقدير حذف المضاف ؛ أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية. وأنشد الأخفش : الناس جنب والأمير جنب والجنب الناحية ، أي المتنحي عن القرابة. والله أعلم. 37- {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} قوله تعالى : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فيه مسألتان : قوله تعالى : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} "الذين" في موضع نصب على البدل من "من" في قوله : "من كان" ولا يكون صفة ؛ لأن "من" و"ما" لا يوصفان ولا يوصف بهما. ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور. ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه. ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف ، أي الذين يبخلون ، لهم كذا ، أو يكون الخبر {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار (5/192) أعني ، فتكون الآية في المؤمنين ؛ فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله ، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان. الثانية : قوله تعالى : {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه. وهو مثل قوله تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. وقد مضى في "آل عمران" القول في البخل وحقيقته ، والفرق بينه وبين الشح مستوفى. والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود ؛ فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية ، والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور ، ولا الذين يبخلون ؛ على ما ذكرنا من إعرابه. قوله تعالى : {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا. 38- {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} الآية. عطف تعالى على {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} : {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} . وقيل : هو عطف على الكافرين ، فيكون في موضع خفض. ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول. قال الجمهور نزلت في المنافقين : لقوله تعالى : {رِئَاءَ النَّاسِ} والرئاء من النفاق. مجاهد : في اليهود. وضعفه الطبري ؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود (5/193) ليس كذلك. قال ابن عطية : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ؛ إذ إيمانهم باليوم الآخر كالإيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل : نزلت في مطعمي يوم بدر ، وهم رؤساء مكة ؛ أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. قال ابن الحربي : ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ. قلت : ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى : {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} وسيأتي. الثالنية : قوله تعالى : {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} في الكلام إضمار تقديره {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقرينهم الشيطان {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} والقرين : المقارن ، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران ؛ قال عدي بن زيد : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي والمعنى : من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه. ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار {فَسَاءَ قَرِيناً} أي فبئس الشيطان قرينا ، وهو نصب على التمييز. 39- {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} "ما" في موضع رفع بالابتداء و"ذا" خبره ، وذا بمعنى الذي. ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا. فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم ، وعلى الثاني تقديره وأي شيء عليهم {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، أي صدقوا بواجب الوجود ، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة ، {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} . {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} تقدم معناه في غير موضع.ِ 40- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (5/194) قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} . والذرة : النملة الحمراء ؛ عن ابن عباس وغيره ، وهي أصغر النمل. وعنه أيضا رأس النملة. وقال يزيد بن هارون : زعموا أن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا. قلت : والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا ؛ كما أن للدينار ونصفه وزنا. والله أعلم. وقيل : الذرة الخردلة ؛ كما قال تعالى : {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} . وقيل غير هذا ، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها. وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها" . قوله تعالى : {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ} أي يكثر ثوابها. وقرأ أهل الحجاز "حسنة" بالرفع ، والعامة بالنصب ؛ فعلى الأول "تك" بمعنى تحدث ، فهي تامة. وعلى الثاني هي الناقصة ، أي إن تك فعلته حسنة. وقرأ الحسن "نضاعفها" بنون العظمة. والباقون بالياء ، وهي أصح ؛ لقوله "ويؤت". وقرأ أبو رجاء "يضعفها" ، والباقون "يضاعفها" وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيدة : "يضاعفها" معناه يجعله أضعافا كثيرة ، "ويضاعفها" بالتشديد يجعلها ضعفين. {مِنْ لَدُنْهُ} من عنده. وفيه أربع لغات : لدن ولدن ولد ولدى ؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم سددوا النون ، ودخلت عليه "من" حيث كانت "من" الداخلة لابتداء الغاية و"لدن" كذلك ، فلما تشاكلا حسن دخول "من" عليها ؛ ولذلك قال سيبويه في لدن : إنه الموضع الذي هو أول الغاية. {أَجْراً عَظِيماً} يعني الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث (5/195) أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه : "حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا" . وكان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} وذكر الحديث. وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار" . فالآية على هذا التأويل في الخصوم ، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه ، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له ؛ فذلك قوله تعالى : {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} . وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول (5/196) الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة" وتلا {ِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} قال عبيدة : قال أبو هريرة : وإذا قال الله{ أَجْراً عَظِيماً} فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود : أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس. 41- {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فتحت الفاء الساكنين "وإذ" ظرف زمان والعامل فيه "جئنا" ذكر أبو الليث السمرقندي : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا ابن منيع قال : حدثنا أبو كامل قال : حدثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه ؛ فقال : "يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم" . وروى البخاري عن عبدالله قال. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ علي" قلت : اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة "النساء" حتى بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} قال : "أمسك" فإذا عيناه تذرفان. وأخرجه مسلم وقال بدل قوله "أمسك" : فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. قال علماؤنا : بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر ؛ إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيدا. والإشارة بقوله (5/197) "على هؤلاء" إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ؛ وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم ؛ لعنادهم عند رؤية المعجزات ، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات. والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} أمعذبين أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ. وقيل : الإشارة إلى جميع أمته. ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمر وحدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ؛ يقول الله تبارك وتعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يعني بنبيها {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} . وموضع "كيف" نصب بفعل مضمر ، التقدير فكيف يكون حالهم ؛ كما ذكرنا. والفعل المضمر قد يسد مسد "إذا" ، والعامل في "إذا" "جئنا". و"شهيدا" حال. وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه ، ويجوز عكسه. وسيأتي بيانه في حديث أبي في سورة "لم يكن" ، إن شاء الله تعالى. و"شهيدا" نصب على الحال. 42- {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} ضمت الواو في "عصوا". لالتقاء الساكنين ، ويجوز كسرها. وقرأ نافع وابن عامر "تسوى" بفتح التاء والتشديد في السين. وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين. والباقون ضموا التاء وخففوا السين ، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى. والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض. أي يجعلهم والأرض سواء. ومعنى آخر : تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم ؛ لأنهم من التراب نقلوا. وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة ، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها ؛ قاله قتادة. وقيل : الباء بمعنى على ، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم ؛ عن الحسن. فقراءة التشدد على الإدغام ، والتخفيف على (5/198) حذف التاء. وقيل : إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار ؛ وهذا معنى قوله تعالى : {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} . وقيل : إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في "البقرة" عند قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الآية. فتقول الأمم الخالية : إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول المشركون : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون ؛ فذلك قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} يعني تخسف بهم. والله أعلم. قوله تعالى : {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} قال الزجاج : قال بعضهم : {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} مستأنف ؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم : هو معطوف ، والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا ؛ لأنه ظهر كذبهم. وسئل ابن عباس عن هذه الآية ، وعن قوله تعالى : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقال : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا. وقال الحسن وقتادة : الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها. ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الأنعام" إن شاء الله تعالى. 43- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} (5/199) | |
|