فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 7 فبراير - 16:57 | |
|
________________________________________ "يوم" منصوب متصل بقوله : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يَوْمَ تَجِدُ} . وقيل : هو متصل بقوله : {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يَوْمَ تَجِدُ} . وقيل : هو متصل بقوله : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ} ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر ؛ ومثله قوله : {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ} [إبراهيم : 47 ، 48]. و"محضرا" حال من الضمير المحذوف من صلة "ما" تقديره يوم تجد كل نفس ما عملته من خير محضرا. هذا على أن يكون "تجد" من وجدان الضالة. و"ما" من قوله {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} عطف على "ما" الأولى. و"تود" في موضع الحال من "ما" الثانية. وإن جعلت "تجد" بمعنى تعلم كان "محضرا" المفعول الثاني ، وكذلك تكون "تود" في موضع المفعول الثاني ؛ تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا. ويجوز أن تكون "ما" الثانية رفعا بالابتداء ، و"تود" في موضع رفع على أنه خبر الابتداء ، ولا يصح أن تكون "ما" بمعنى الجزاء ؛ لأن "تود" مرفوع ، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء ، وكان يكون معنى الكلام : وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ؛ أي كما بين المشرق والمغرب. ولا يكون المستقبل إذا جعلت "ما" للشرط إلا مجزوما ؛ إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء ، على تقدير : وما عملت من سوء فهي تود. أبو علي : هو قياس قول الفراء عندي ؛ لأنه قال في قوله تعالى : {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام : 121] : إنه على حذف الفاء. والأمد : الغاية ، وجمعه آماد. ويقال : استولى على الأمد ، أي غلب سابقا. قال النابغة : إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد والأمد : الغضب. يقال : أمِد أمَدا ، إذا غضب غضبا. الآية : 31 {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الحب : المحبة ، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب ؛ مثل الخِدن والخَدين ؛ يقال أحبه فهو محب ، وحبه يحبه "بالكسر" فهو محبوب. قال الجوهري : وهذا شاذ ؛ لأنه (4/59) ________________________________________ لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال أبو الفتح : والأصل فيه حَبُب كظرف ، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية. قال ابن الدهان سعيد : في حَبّ لغتان : حَبّ وأحَبّ ، وأصل "حب" في هذا البناء حَبُب كظرف ؛ يدل على ذلك قولهم : حَبُبْت ، وأكثر ما ورد فعيل من فعل. قال أبو الفتح : والدلالة على أحب قوله تعالى : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة : 54] بضم الياء. و {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران : 31] و"حَبّ" يرد على فعل لقولهم حبيب. وعلى فعل كقولهم محبوب : ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي ، فلا يقال : أنا حاب. ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا ؛ كقوله : مني بمنزلة المحب المكرم وحكى أبو زيد : حببته أحبه. وأنشد : فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عويف وهاشم وأنشد : لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الياء وحدها. والحب الخابية ، فارسي معرب ، والجمع حِباب وحِبَبَة ؛ حكاه الجوهري. والآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عز وجل ؛ قاله محمد بن جعفر بن الزبير. وقال الحسن وابن جريج : نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا : نحن الذين نحب ربنا. وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، والله إنا لنحب ربنا ؛ فأنزل الله عز وجل : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} . قال ابن عرفة : المحبة عند العرب إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما ؛ قال الله تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} . ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ؛ قال الله تعالى : {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 32] أي لا يغفر لهم. وقال سهل بن عبدالله : علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب (4/60) ________________________________________ القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ؛ وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه ، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} قال : "على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس" خرجه أبو عبدالله الترمذي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض" . وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة "مريم" إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو رجاء العطاردي {فَاتَّبِعُونِي} بفتح الباء ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} عطف على "يحببكم". وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من "يغفر" في اللام من "لكم". قال النحاس : لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام ، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا ، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة. الآية : 32 {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} قوله تعالى : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} يأتي بيانه في "النساء". {فَإِنْ تَوَلَّوْا} شرط ، إلا أنه ماض لا يعرب. والتقدير فإن تولوا على كفرهم وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله " {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} " أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم. (4/61) ________________________________________ وقال "فإن الله" ولم يقل "فإنه" لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره ؛ وأنشد سيبويه : لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا الآية : 33 {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} اصطفى اختار ، وقد تقدم في البقرة. وتقدم فيها اشتقاق آدم وكنيته ، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام ؛ فحذف المضاف. وقال الزجاج : اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. "ونوحا" قيل إنه مشتق من ناح ينوح ، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف ، وهو شيخ المرسلين ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات ، ومن قال : إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في "الأعراف" إن شاء الله تعالى. قوله تعالى : {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى. وفي البخاري عن ابن عباس قال : آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد ؛ يقول الله تعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 68] وقيل : آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم. وقيل : آل إبراهيم نفسه ، وكذا آل عمران ؛ ومنه قوله تعالى : {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة : 248]. وفي الحديث : "لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود" ؛ وقال الشاعر : (4/62) ________________________________________ ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه ... علي وعباس وآل أبي بكر وقال آخر : يلاقي من تذكر آل ليلى ... كما يلقى السليم من العداد أراد من تذكر ليلى نفسها. وقيل : آل عمران آل إبراهيم ؛ كما قال : {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران : 34]. وقيل : المراد عيسى ، لأن أمه ابنة عمران. وقيل : نفسه كما ذكرنا. قال مقاتل : هو عمران أبو موسى وهارون ، وهو عمران بن يصهر لن فاهاث بن لاوى بن يعقوب. وقال الكلبي : هو عمران أبو مريم ، وهو من ولد سليمان عليه السلام. وحكى السهيلي : عمران بن ماتان ، وامرأته حنة "بالنون". وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم. ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين. ومعنى قوله : "على العالمين" أي على عالمي زمانهم ، في قول أهل التفسير. وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي : جميع الخلق كلهم. وقيل "على العالمين" : على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور ، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق ؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة. قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] فالرسل خلقوا للرحمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة ، فلذلك صار أمانا للخلق ، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور. وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل ؛ ولذلك قال عليه السلام : "أنا رحمة مهداة" يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله. وقوله "مهداة" أي هدية من الله للخلق. ويقال : اختار آدم بخمسة أشياء : أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته ، والثاني أنه علمه الأسماء كلها ، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له ، والرابع أسكنه الجنة ، والخامس جعله أبا البشر. واختار نوحا بخمسة (4/63) ________________________________________ أشياء : أولها أنه جعله أبا البشر ؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين ، والثاني أنه أطال عمره ؛ ويقال : طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين ، والرابع أنه حمله على السفينة ، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع ؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات. واختار إبراهيم بخمسة أشياء : أولها أنه جعله أبا الأنبياء ؛ لأنه روى أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني أنه اتخذه خليلا ، والثالث أنه أنجاه من النار ، والرابع أنه جعله إماما للناس ، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن. ثم قال : "وآل عمران" فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم. وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم. والله أعلم. الآية : 34 {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها. وهي نصب على الحال ؛ قاله الأخفش. أي في حال كون بعضهم من بعض ، أي ذرية بعضها من ولد بعض. الكوفيون : على القطع. الزجاج : بدل ، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض ، ومعنى بعضها من بعض ، يعني في التناصر في الدين ؛ كما قال : {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة : 67] يعني في الضلالة ؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل : المراد به التناسل ، وهذا أضعفها. الآية : 35 {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآية : 36 {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (4/64) ________________________________________ فيه ثمان مسأئل : الأولى : -قوله تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} " قال أبو عبيدة : "إذ" زائدة. وقال محمد بن يزيد : التقدير : اذكر إذ. وقال الزجاج : المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران. وهي حنة "بالحاء المهملة والنون" بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام ، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة. وفي العربية أبو حنة البدري ، ويقال فيه : أبو حبة "بالباء بواحدة" وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشأم ، ودير آخر أيضا يقال له كذلك ؛ قال أبو نواس : يا دير حنة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي وحبة في العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاري ، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة ، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يعرف جنة "بالجيم" إلا أبو جنة ، وهو خال ذي الرمة الشاعر. كل هذا من كتاب ابن ماكولا. الثانية : -قوله تعالى : {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} تقدم معنى النذر ، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويقال : إنها لما حملت قالت : لئن نجاني الله ووضعت (4/65) ________________________________________ ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى "لك" أي لعبادتك. "محررا" نصب على الحال ، وقيل : نعت لمفعول محذوف ، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا ، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والإعراب : أما الإعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع ، ويجوز على المجاز في أخرى ، وأما التفسير فقيل أن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد ، وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك ، ودعت ربها أن يهب لها ولدا ، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا : أي عتيقا خالصا لله تعالى ، خادما للكنيسة حبيسا عليها ، مفرغا لعبادة الله تعالى. وكان ذلك جائزا في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت : {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة. قيل لما يصيبها من الحيض والأذى. وقيل : لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت. الثالثة : -قال ابن العربي : "لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة ، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله ؛ فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك ؛ وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له ، وكذلك المرأة مثله ؛ فأي وجه للنذر فيه ؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي ، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه ؛ فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه ، وهو على خدمة الله تعالى موقوف ، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. وأرادت به محررا من جهتي ، محررا من رق الدنيا وأشغالها ؛ وقد قال رجل من الصوفية لأمه : يا أمه : ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم ، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب ، فقالت من ؟ فقال لها : ابنك فلان ، قالت : قد تركناك لله ولا نعود فيك. الرابعة : -قوله تعالى : {مُحَرَّراً} مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية ؛ من هذا تحرير الكتاب ، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد. وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد : (4/66) ________________________________________ أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص : حر ، ومحرر بمعناه ؛ قال ذو الرمة : والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب وطين حر لا رمل فيه ، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة ؛ فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء. الخامسة : -قوله تعالى : {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} قال ابن عباس : إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور ، فقبل الله مريم. "وأنثى" حال ، وإن شئت بدل. فقيل : إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها ؛ رواه أشهب عن مالك : وقيل : لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد ، فوفت بنذرها وتبرأت منها. ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام ؛ ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت. الحديث. السادسة : -قوله تعالى : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هو على قراءة من قرأ "وضعت" بضم التاء من جملة كلامها ؛ فالكلام متصل. وهي قراءة أبي بكر وابن عامر ، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء ، ولم تقله على طريق الإخبار لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن ، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم ، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران : 36] والله أعلم بما وضعت ؛ قاله المهدوي. وقال مكي : هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال : والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله. ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام : وأنت أعلم بما وضعت ؛ لأنها نادته في أول الكلام في قولها : رب إني وضعتها أنثى. وروي عن ابن عباس "بما وضعت" بكسر التاء ، أي قيل لها هذا. (4/67) ________________________________________ السابعة : -قوله تعالى : {لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها ، ابن العربي ، وهذه منه غفلة ، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به ، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها ، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها ، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها. ولم ينصرف "مريم" لأنه مؤنث معرفة ، وهو أيضا أعجمي ؛ قاله النحاس. والله تعالى أعلم. الثامنة - قوله تعالى : {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} يعني خادم الرب في لغتهم. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} يعني مريم. {وَذُرِّيَّتَهَا} يعني عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه" ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم ، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها. قال قتادة : كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شيء ، قال علماؤنا : وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما ، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد ؛ فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان ، كما قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر : 42]. هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته. والله أعلم. (4/68)
| |
|