فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الثلاثاء 5 أكتوبر - 15:56 | |
| ________________________________________ "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك" . أخرجه مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين ، عند من رأى ذلك ، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى ، وروي عن علي وابن مسعود ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد. واحتجوا بأحاديث عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. أخرجهما الدارقطني في سننه وضعفها كلها ، وإنما جعل القران من باب التمتع ، لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى ، ويتمتع بجمعهما ، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته ، وضم الحج إلى العمرة ، فدخل تحت قول الله عز وجل : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه. وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي ، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها. ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر : إنما جعل القران لأهل الآفاق ، وتلا قول الله جل وعز : {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. قال مالك : وما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك. وقال عبدالملك بن الماجشون : إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع. والوجه الثالث من التمتع : هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال : "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج" وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم جرا ، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية. فهذا هو الوجه الذي (2/392) ________________________________________ تواردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم "فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة" وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولم يدفعوا شيئا منها ، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها ، لأنها عندهم خصوص خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته تلك. قال أبو ذر : "كانت المتعة لنا في الحج خاصة" أخرجه مسلم. وفي رواية عنه أنه قال : "لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ، يعني متعة النساء ومتعة الحج" والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال : "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال : "الحل كله". أخرجه مسلم. وفي المسند الصحيح لأبي حاتم عن ابن عباس قال : "والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون : إذا عفا الوبر ، وبرأ الدبر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر. فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ، فما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم" ففي هذا دليل علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها. وكان ذلك له ولمن معه خاصة ، لأن الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من (2/393) ________________________________________ دخل فيها أمرا مطلقا ، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة. واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : "بل لنا خاصة" . وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام ، إلا شيء يروى عن ابن عباس والحسن والسدي ، وبه قال أحمد بن حنبل. قال أحمد : لا أرد تلك الآثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر. قال : ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر ، ولو أجمعوا كان حجة ، قال : وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا. واحتج أحمد بالحديث الصحيح ، حديث جابر الطويل في الحج ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة" فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال : "دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد" لفظ مسلم. وإلى هذا والله أعلم مال البخاري حيث ترجم [باب من لبى بالحج وسماه] وساق حديث جابر بن عبدالله : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : لبيك بالحج ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة. وقال قوم : إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال كان على وجه آخر. وذكر مجاهد ذلك الوجه ، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا ، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به ، وكذلك أهل علي باليمن. وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل عليه قوله عليه السلام : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلتها عمرة" فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر ؟ ؟ أصحابه بذلك ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام : "أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة" . (2/394) ________________________________________ والوجه الرابع من المتعة : متعة المحصر ومن صد عن البيت ، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبدالله بن الزبير وهو يخطب يقول : أيها الناس ، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج ، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي. وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا ، والحمد لله فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر ، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة. والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} بعد قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل ، وأمرهم بالإحلال واختلف العلماء أيضا لم سمي المتمتع متمتعا ، فقال ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج. وقال غيره : سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر ، وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا ، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد ، والوجه الأول أعم ، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله ، وسقط عنه السفر بحجه من بلده ، وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج. وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود ، وقالا أو قال أحدهما : يأتي أحدكم مني وذكره يقطر منيا ، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا. وقد قال جماعة من العلماء : إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين : مرة في الحج ، ومرة في العمرة. ورأى الإفراد أفضل ، فكان يأمر به ويميل إليه (2/395) ________________________________________ وينهى عن غيره استحبابا ، ولذلك قال : "افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج" الخامسة : اختلف العلماء فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه ، فقال الجمهور من العلماء : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ولا صيام. وقال الحسن البصري : هو متمتع وإن رجع إلى أهله ، حج أو لم يحج. قال لأنه كان يقال : عمرة في أشهر الحج متعة ، رواه هشيم عن يونس عن الحسن. وقد روي عن يونس عن الحسن : ليس عليه هدي. والصحيح القول الأول ، هكذا ذكر أبو عمر حج أو لم يحج ولم يذكره ابن المنذر. قال ابن المنذر : وحجته ظاهر الكتاب قوله عز وجل : {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ولم يستثن : راجعا إلى أهله وغير راجع ، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل قول الحسن. قال أبو عمر : وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا ، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم. وذلك أنه قال : من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة. وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن ، أحدهما : أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج ، ثم حج من عامه أنه متمتع. هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره ، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار. وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة ، لأن العمرة جائزة في السنة كلها ، والحج إنما موضعه شهور معلومة ، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به ، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها ، رحمة منه ، وجمل فيه ما استيسر من الهدي. والوجه الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي ، وهذا لم يعرج عليه ، لظاهر قوله تعالى : {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها ، وبالله توفيقنا. (2/396) ________________________________________ السادسة : أجمع العلماء على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع ، عليه ما على المتمتع. وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة ، ثم ينشئ الحج من مكة وأهله بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه ، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها. وأجمعوا على أنه إن انتقل من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع. السابعة : واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ، وعليه بعد أيضا طواف آخر بحجة وسعي بين الصفا والمروة. وروي عن عطاء وطاوس أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة ، والأول المشهور ، وهو الذي عليه الجمهور ، وأما طواف القارن فقد تقدم. الثامنة : واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج ، فقال مالك : عمرته في الشهر الذي حل فيه ، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع ، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه. وقال الشافعي : إذا طاف بالبيت في الأشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه ، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت ، وإنما ينظر إلى كمالها ، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة وسفيان الثوري. وقال قتادة وأحمد وإسحاق : عمرته للشهر الذي أهل فيه ، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبدالله. وقال طاوس : عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال أصحاب الرأي : إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان ، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع. وإن طاف في رمضان أربعة أشواط ، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا. وقال أبو ثور : إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا. وهو معنى قول أحمد وإسحاق : عمرته للشهر الذي أهل فيه (2/397) ________________________________________ التاسعة : أجمع أهل العلم على أن لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت ، ويكون قارنا بذلك ، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا. واختلقوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف ، فقال مالك : يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم يتم طوافه ، وروي مثله عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف ، وقد قيل : له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف. وكل ذلك قول مالك وأصحابه. فإذا طاف المعتمر شوطا واحد لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا ، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران. وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه. وقال بعضهم : له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة. قال أبو عمر : وهذا كله شذوذ عند أهل العلم. وقال أشهب : إذا طاف لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الإحرام به ولم يكن قارنا ، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج ، وهذا قول الشافعي وعطاء ، وبه قال أبو ثور العاشرة : واختلفوا في إدخال العمرة على الحج ، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق : لا تدخل العمرة على الحج ، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء ، قاله مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو المشهور عنه بمصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في القديم : يصير قارنا ، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا ، فإن طاف لم يلزمه ، لأنه قد عمل في الحج. قال ابن المنذر : وبقول مالك أقول في هذه المسألة. الحادية عشرة : قال مالك : من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجز ذلك ، وعليه هدي آخر لمتعته ، لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته ، وحينئذ يجب على الهدي. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق : لا ينحر هديه إلا يوم النحر. وقال أحمد : إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه ، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر ، وقاله عطاء. وقال الشافعي : يحل من عمرته إذا طاف وسعى ، ساق هديا أو لم يسقه. (2/398) ________________________________________ الثانية عشرة : واختلف مالك والشافعي في المتمتع يموت ، فقال الشافعي : إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك ، حكاه الزعفراني عنه. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها ، أترى عليه هديا ؟ قال : من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا ، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي. قيل له : من رأس المال أو من الثلث ؟ قال : بل من رأس المال. الثالثة عشرة : قوله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قد تقدم الكلام فيه قوله تعالى : {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيه عشرة مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} يعني الهدي ، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان ، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة ، هذا قول طاوس ، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي ، حكاه ابن المنذر. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة ، لأنه أحد إحرامي التمتع ، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه : يصوم قبل يوم التروية يوما ، ويوم التروية ويوم عرفة. وقال ابن عباس ومالك بن أنس : له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر ، لأن الله تعالى قال : {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل : يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر وعائشة ، وروي هذا عن مالك ، وهو مقتضى قوله في موطئه ، ليكون يوم عرفة مفطرا ، فذلك أتبع للسنة ، وأقوى على العبادة ، وسيأتي. وعن أحمد أيضا : جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم. وقال الثوري والأوزاعي : يصومهن من أول أيام العشر ، وبه قال عطاء. وقال عروة : يصومها ما دام بمكة في أيام منى ، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة. (2/399) ________________________________________ وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلي يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول : "الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة ، فإن لم يصم صام أيام منى". وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة ، وأن ذلك مبدأ ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء ، على ما يقول أصحاب الشافعي ، وإما لأن في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة ، وذلك مأمور به. والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء ، وإن كان الصوم قبلها أفضل ، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء ، فإن قوله : {أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يحتمل أن يريد موضع الحج ويحتمل أن يريد أيام الحج ، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح ، لأن آخر أيام الحج يوم النحر ، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي ، لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى ، كما قال عروة ، ويقوى جدا. وقد قال قوم : له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق ، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدي يوم النحر. فإن قيل هي : الثانية : فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام منى ، قيل له : إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا : لم يرخص في أيام التشريف أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. وقال الدارقطني : إسناده صحيح ، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها ، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي. قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق ، وقال الحسن وعطاء. قال ابن المنذر : وكذلك نقول. (2/400) ________________________________________ وقالت طائفة : إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد ، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه ، فتأمله. الثالثة : أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي ، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه ، فذكر ابن وهب عن مالك قال : إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي ، فإن لم يفعل أجزاه الصيام. وقال الشافعي : يمضي في صومه وهو فرضه ، وكذلك قال أبو ثور ، وهو قول الحسن وقتادة ، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة : إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي ، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد. الرابعة : قوله تعالى : {وَسَبْعَةٍ} قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد بن علي "وسبعة" بالنصب ، على معنى : وصوموا سبعة. الخامسة : قوله تعالى : {إِذَا رَجَعْتُمْ} يعني إلى بلادكم ، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء ، وقاله مالك في كتاب محمد ، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلا أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان. وقال أحمد وإسحاق : يجزيه الصوم في الطريق ، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد : إن شاء صامها في الطريق ، إنما هي رخصة ، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة : إذا رجعتم من الحج ، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل. وقال مالك في الكتاب : إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم وقال ابن العربي : إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص ، ولا ظاهر أنه أراد البلاد ، وأنها المراد في الأغلب. (2/401) ________________________________________ قلت : بل فيه ظاهر يقرب إلى النص ، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده ، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس : "ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي ، كما قال الله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم...} [البقرة : 196] الحديث وسيأتي. قال النحاس : وكان هذا إجماعا. السادسة : قوله تعالى : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} يقال : كمل يكمل ، مثل نصر ينصر. كمل يكمل ، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل ، مثل حمد يحمد ، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله : {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وقد علم أنها عشرة ، فقال الزجاج : لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها ، لأنه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله "تلك عشرة" ثم قال : "كاملة". وقال الحسن : "كاملة" في الثواب كمن أهدى. وقيل : "كاملة" في البدل عن الهدي ، يعني العشرة كلها بدل عن الهدي. وقيل : "كاملة" في الثواب كمن لم يتمتع. وقيل : لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر ، أي أكملوها فذلك فرضها. وقال المبرد : "عشرة" دلالة على انقضاء العدد ، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي (2/402) ________________________________________ منه شيء بعد ذكر السبعة. وقيل : هو توكيد ، كما تقوله : كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر : ثلاث واثنتان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمامي فقول "خمس" تأكيد. ومثله قول الآخر : ثلاث بالغداة فذاك حسي ... وست حين يدركني العشاء فذلك تسعة في اليوم ريي ... وشرب المرء فوق الري داء وقوله : "كاملة" تأكيد آخر ، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها ، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال : الله الله لا تقصر. السابعة : قوله تعالى : {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري "عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي" طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : "من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله" ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي ، كما قال الله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أمصاركم ، الشاة تجزي ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله عز وجل : {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم. والرفث : الجماع والفسوق : المعاصي. والجدال : المراء. (2/403) | |
|