فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 3 أكتوبر - 23:39 | |
| في حجته من ميقاته ، وعرفوا مغزاه ومراده ، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته. الثانية : روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله ، لا يخالفون شيئا منه. واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته ، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق. قال الترمذي : هذا حديث حسن. وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق. وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ، وهذا هو الصحيح. ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته افتتحت ، فغفلة منه ، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لأهل الشام الجحفة. والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان ، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر ، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير. قال أبو عمر : كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته ، والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق ، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع. الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم ، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ، لأنه زاد ولم ينقص. (2/367) ________________________________________ الرابعة : في هذه الآية دليل على وجوب العمرة ، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي بن معبد : أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي ، وإني أهللت بهما جميعا. فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر : ولم ينكر عليه قوله : "وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي". وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس. وروى الدارقطني عن ابن جريج قال : أخبرني نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول : ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا ، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع. قال : ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا. قال ابن جريج : وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال : العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا. وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبدالله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري : سمعنا أنها واجبة. وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج ، فقال : صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت ، ذكره الدارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت" . وكان مالك يقوله : العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها. وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج ، وبأنها سنة ثابتة ، قاله ابن مسعود وجابر بن عبدالله. روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج : أواجب هو ؟ قال : "نعم" فسأله عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : "لا وأن تعتمر خير لك" . رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر (2/368) ________________________________________ عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا : وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب ، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل : 20]. وابتدأ بإيجاب الحج فقال : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران : 97] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها ، فلو حج عشر حجج ، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها ، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء ، والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال : عماد الحج الوقوف بعرفة ، وليس في العمرة وقوف ، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله ، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها. الخامسة : قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في "العمرة" ، وهي تدل على عدم الوجوب. وقرأ الجماعة "العمرة" بنصب التاء ، وهي تدل على الوجوب. وفي مصحف ابن مسعود {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إلى البيت لله} وروي عنه "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت". وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق ، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة ، ولا حظ بقصد ، ولا قربة بمعتقد ، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه ، ثم سامح في التجارة ، على ما يأتي. السادسة : لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة ـ والقلم جار له وعليه ـ أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه ، وأن النية تجب فرضا ، لقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا} ومن تمام العبادة حضور النية ، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام ، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته : "لبيك بحجة وعمرة معا" على ما يأتي. وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال : ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن (2/369) ________________________________________ حاجا ولا معتمرا ، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما ، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات". قال : ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية ، لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت ، بخلاف الصلاة. السابعة : واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة ، فقال مالك : لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة : جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما ، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام. واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه ، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه ، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة. وقال الشافعي : إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد. قال : ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام ، ولم يكن عليهما دم ، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي ، وليس ذلك بالبين عندي. واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج : "بم أهللت" قال قلت : لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإني أهللت بالحج وسقت الهدي" . قال الشافعي : ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران. وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج : أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد يعتق ، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم ، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات. (2/370) ________________________________________ وقال أبو حنيفة : يلزم العبد الدم. وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات ، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما. فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي ، ولا شيء عليهما في ترك الميقات. قوله تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فيه أثنتا عشرة مسألة : الأولى : قال ابن العربي : هذه آية مشكلة ، عُضْلة من العُضل. قلت : لا إشكال فيها ، ونحن نبينها غاية البيان فنقول : الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة ، فـ "جملة" أي بأي عذر كان ، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان. واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين : الأول : قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : هو المرض لا العدو. وقيل : العدو خاصة ، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي. قال ابن العربي : وهو اختيار علمائنا. ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن "أحصر" عرض للمرض ، و"حصر" نزل به العدو. قلت : ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده ، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا : الإحصار إنما هو المرض ، وأما العدو فإنما يقال فيه : حصر حصرا فهو محصور ، قاله الباجي في المنتقى. وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة ، على ما يأتي. وقال أبو عبيدة والكسائي : "أحصر" بالمرض ، و"حصر" بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس ، فحصر بالمرض ، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة : يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي ، حكاه أبو عمر. قلت : وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه "أحصر" فيهما ، فتأمله. وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض والعدو. قال القشيري أبو نصر : وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو ، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر ، والصحيح أنهما يستعملان فيهما. قلت : ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه. قال الخليل : حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته ، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه ، (2/371) ________________________________________ هكذا قال ، جعل الأول ثلاثيا من حصرت ، والثاني في المرض رباعيا. وعلى هذا خرج قول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن السكيت : أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به ، وحاصروه محاصرة وحصارا. قال الأخفش : حصرت الرجل فهو محصور ، أي حبسته. قال : وأحصرني بولي ، وأحصرني مرضي ، أي جعلني أحصر نفسي. قال أبو عمرو الشيباني : حصرني الشيء وأحصرني ، أي حبسني. قلت : فالأكثر من أهل اللغة على أن "حصر" في العدو ، و"أحصر" في المرض ، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى : {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة : 273]. وقال ابن ميادة : وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول وقال الزجاج : الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض ، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر ، يقال : حصر حصرا ، وفي الأول أحصر إحصارا ، فدل على ما ذكرناه. وأصل الكلمة من الحبس ، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير : الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره. الثانية : ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك. واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا ، قالوا : وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض ، قال صلى الله عليه وسلم : "الزكام أمان من الجذام" ، وقال : "من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص" . الشوص : وجع السن. واللوص : وجع الأذن. والعلوص : وجع البطن. أخرجه ابن ماجة في سننه. قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان (2/372) ________________________________________ في حكمه ، لا بدلالة الظاهر. وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة : المراد بالآية حصر العدو ، لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة. قال ابن عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه. ودل على هذا قوله تعالى : {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . ولم يقل : برأتم ، والله أعلم. الثالثة : جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه. وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة : دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر ، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله ، وخالفه صاحباه فقالا : يتوقف على يوم النحر ، وإن نحر قبله لم يجزه. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان. الرابعة : الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي ، وهو قول الشافعي ، وبه قال أشهب. وكان ابن القاسم يقول : ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه ، وهو قول مالك. ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة ، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر ، لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار ، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه ، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد ، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي. واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي ، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده ، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به ، وهو مقتضى قوله : {أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2/373) ________________________________________ وقد قيل : يحل ويهدي إذا قدر عليه ، والقولان للشافعي ، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه ، قولان. الخامسة : قال عطاء وغيره : المحصر بمرض كالمحصر بعدو. وقال مالك والشافعي وأصحابهما : من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق. وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال. قال مالك : وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق. قال : وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه ، فإذا برىء من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحل من حجته أو عمرته. وهذا كله قول الشافعي ، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد : إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق. وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه ، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة ، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل ، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه. ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم : فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل ، فإذا كان قابل حج وأهدى. وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها : لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا. واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالله بن بكير المالكي فقال : قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب ، لقول الله عز وجل : {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. قال : والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج ، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن (2/374) ________________________________________ نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه ، فإذا نحر فقد حل من إحرامه. كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق ، لقوله تعالى : {أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية. السادسة : قال مالك وأصحابه : لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم. والاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني من الأرض. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور : لا بأس أن يشترط وله شرطه ، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين ، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أردت الحج ، أأشترط ؟ قال : "نعم". قالت : فكيف أقول ؟ قال : "قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني" . أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. قال الشافعي : لو ثبت حديث ضباعة لم أعده ، وكان محله حيث حبسه الله. قلت : قد صححه غير واحد ، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر ، قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير : "حجي واشترطي" . وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق ، ثم وقف عنه بمصر. قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول. وذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال : جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج ، فكيف تأمرني أن أهل ؟ قال : "أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني" . قال : فأدركت. وهذا إسناد صحيح. (2/375) ________________________________________ السابعة : واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر ، فقال مالك والشافعي : من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته ، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج ، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه ، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا. وقال أبو حنيفة : المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة ، وهو قول الطبري. قال أصحاب الرأي : إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة ، لأن إحرامه بالحج صار عمرة. وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين. وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة. وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو ، على ما تقدم. واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال : خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي ، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم ، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت ، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي ، فأتيت ابن عباس فسألته ، فقال : أبدل الهدي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. واستدلوا بقوله عليه السلام : " من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى" . رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى" . قالوا : فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة ، قالوا : ولذلك قيل لها عمرة القضاء. واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها ، ولم ينقل ذلك عنه. قالوا : وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء ، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل ، فسميت بذلك عمرة القضية. (2/376) ________________________________________ الثامنة : لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو ، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه. وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر ، ولكن اختلفوا فيما به يحل ، فقال مالك وغيره : يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره. ومن خالفه من الكوفيين يقول : يحل بالنية وفعل ما يتحلل به ، على ما تقدم من مذهبه. التاسعة : لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة. وقال ابن سيرين : لا إحصار في العمرة ، لأنها غير مؤقتة. وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر ، وفي ذلك نزلت الآية. وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت ، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية. العاشرة : الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما ، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموضعه ، لقوله تعالى : {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما تقدم. ولو سأل الكافر جعلا لم يجز ، لأن ذلك وهن في الإسلام. فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه ، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإن الدين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما ، ولأن الحج مما ينفق فيه المال ، فيعد هذا من النفقة. الحادية عشرة : والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا ، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته. وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج ، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب : لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر ، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وجه قول ابن القاسم : أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب ، فجاز له أن يحل فيه ، أصل ذلك يوم عرفة. ووجه (2/377) ________________________________________ قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر ، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به فكان ذلك عليه. قوله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} "ما" في موضع رفع ، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر. ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، أي فانحروا أو فاهدوا. و {مَا اسْتَيْسَرَ} عند جمهور أهل العلم شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : "ما استيسر" جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما. وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة. وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء ، لقوله : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ولم يذكر قضاء. والله أعلم. الثانية عشرة : قوله تعالى : {مِنَ الْهَدْيِ} الهَدْي والهَدِيّ لغتان. وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها. والعرب تقول : كم هدي بني فلان ، أي كم إبلهم. وقال أبو بكر : سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله ، فسميت بما يلحق بعضها ، كما قال تعالى : {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء : 25]. أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت ، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار ، لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن. والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج ، يجب عليها الرجم إذا زنت ، والرجم لا يتبعض ، فيكون على الأمة نصفه ، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج. وقال الفراء : أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدي ، قال : وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون : هدي. قال الشاعر : حلفت برب مكة والمصلى ... وأعناق الهدي مقلدات قال : وواحد الهدي هدية. ويقال في جمع الهدي : أهداء. قوله تعالى : {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فيه سبع مسائل : (2/378) | |
|