فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن السبت 7 أغسطس - 15:04 | |
| فإن قيل : كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ؟ قيل له : لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع ، فهي رزق. الخامسة- قلت : ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق ، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى : "والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه". أخرجه مسلم. ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا. وقال علماء الصوفية : أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر ، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء ، والماء طيبا والكلأ طعاما ، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا ، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه ، من غير منة فيه لأحد عليك. وقال نوف البكالي : رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بل رامق يا أمير المؤمنين ، قال : طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا ، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام... وذكر باقي الخبر ، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة : 186] إن شاء الله تعالى. السادسة - قوله تعالى : {فَلا تَجْعَلُوا} نهي. {لِلَّهِ أَنْدَاداً} أي أكفاء وأمثالا ونظراء ، واحدها ند ، وكذلك قرأ محمد بن السميقع "ندا" ، قال الشاعر : نحمد الله ولا ند له ... عنده الخير وما شاء فعل وقال حسان : أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء(1/230) ويقال : ند ونديد ونديدة على المبالغة ، قال لبيد : ليكلا يكون السندري نديدتي ... وأجعل أقواما عموما عماعما وقال أبو عبيدة "أندادا" أضدادا. النحاس : "أندادا" مفعول أول ، و"لله" في موضع الثاني. الجوهري : والند "بفتح النون" : التل المرتفع في السماء. والند من الطيب ليس بعربي. وند البعير يند ندا وندادا وندودا : نفر وذهب على وجهه ، ومنه قرأ بعضهم {يَوْمَ التَّنَادِ} . وندد به أي شهره وسمع به. السابعة- قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والخطاب للكافرين والمنافقين ، عن ابن عباس. فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى. فالجواب من وجهين : أحدهما - "وأنتم تعلمون" يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق ، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد. الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، والله أعلم. وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد. وقال ابن فورك : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. الآية : 23 {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قوله تعالى : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي في شك. {مِمَّا نَزَّلْنَا} يعني القرآن ، والمراد المشركون الذين تُحدوا ، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، (1/231) وإنا لفي شك منه ؛ فنزلت الآية. ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه ، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده. قوله تعالى : {عَلَى عَبْدِنَا} يعني محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل ، فسمى المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه ، قال طرفة : إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد أي المذلل. قال بعضهم : لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط ، سمى نبيه عبدا ، وأنشدوا : يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي قوله : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} الفاء جواب الشرط ، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء ، قاله ابن كيسان. وهو أمر معناه التعجيز ، لأنه تعالى علم عجزهم عنه. والسورة واحدة السور. وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن ، فلا معنى للإعادة. "ومن" في قوله {مِّنْ مِثْلِهِ} زائدة ، كما قال {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} والضمير في "مثله" عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء ، كقتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل : يعود على التوراة والإنجيل. فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى : من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ. فمن على هذين التأويلين للتبعيض والوقف على "مثله" ليس بتام ، لأن "وادعوا" نسق عليه. قوله تعالى : {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} معناه أعوانكم ونصراءكم. الفراء : آلهتكم. وقال ابن كيسان : فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا ، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا ، أو ليخبروا بأمر شهدوه ، وإنما قيل لهم : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ؟ فالجواب : أن(1/232) المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم ، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم. قلت : هذا هو معنى قول مجاهد. قال مجاهد : معنى : {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} أي ادعوا ناسا يشهدون لكم ، أي يشهدون أنكم عارضتموه. النحاس : "شهداءكم" نصب بالفعل جمع شهيد ، يقال : شاهد وشهيد ، مثل قادر وقدير. وقوله" { مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من غيره ، ودون نقيض فوق ، وهو تقصير عن الغاية ، ويكون ظرفا. والدون : الحقير الخسيس ، قال : إذا ما علا المرء رام العلاء ... ويقنع بالدون من كان دونا ولا يشتق منه فعل ، وبعضهم يقول منه : دان يدون دونا. ويقال : هذا دون ذاك ، أي أقرب منه. ويقال في الإغراء بالشيء : دونكه. قالت تميم للحجاج : أقبرنا صالحا - وكان قد صلبه - فقال : دونكموه. قوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، لقولهم في آية أخرى : {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال : 31] والصدق : خلاف الكذب ، وقد صدق في الحديث. والصدق : الصلب من الرماح. ويقال : صدقوهم القتال. والصديق : الملازم للصدق. ويقال : رجل صدق ، كما يقال : نعم الرجل. والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود. الآية : 24 {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} يعني فيما مضى {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي تطيقوا ذلك فيما يأتي. والوقف على هذا على "صادقين" تام. وقال جماعة من المفسرين : معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا ، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على "صادقين".(1/233) فإن قيل : كيف دخلت "إن" على "لم" ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أن "إن" ههنا غير عاملة في اللفظ ، فدخلت على "لم" كما تدخل على الماضي ، لأنها لا تعمل في "لم" كما لا تعمل في الماضي ، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل. قوله تعالى "ولن تفعلوا" نصب بلن ، ومن العرب من يجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة : فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه : فقيل لي : "لن تُرَع" . هذا على تلك اللغة. وفي قوله : {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان : {وَلَنْ تَفْعَلُوا} توقيفا لهم على أنه الحق ، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب ، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين ، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله. وقوله {فَاتَّقُوا النَّارَ} جواب {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها. ويقال : إن لغة تميم وأسد "فتقوا النار". وحكى سيبويه : تقى يتْقي ، مثل قضى يقضي. "النار" مفعولة. "التي" من نعتها. وفيها ثلاث لغات : التي واللتِ "بكسر التاء" واللتْ "بإسكانها". وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير ، ولا تتم إلا بصلة. وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا : اللتان واللتا "بحذف النون" واللتان "بتشديد النون" وفي جمعها خمس لغات : (1/234) اللاتي ، وهي لغة القرآن. واللات "بكسر التاء بلا ياء". واللواتي. واللوات "بلا ياء" ، وأنشد أبو عبيدة : من اللواتي واللتي واللاتي ... زعمن أن قد كبرت لداتي واللوا "بإسقاط التاء" ، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري : اللائي "بالهمز وإثبات الياء". واللاء "بكسر الهمزة وحذف الياء". واللا "بحذف الهمزة" فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي وفي اللائي : اللوائي. قال الجوهري : وتصغير التي اللتيا "بالفتح والتشديد" ، قال الراجز : بعد اللتيا واللتيا والتي ... إذا علتها أنفس تردت وبعض الشعراء أدخل على "التي" حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله ، وحده. فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها ، وقال : من أجلك يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلة بالود عني ويقال : وقع فلان في اللتيا والتي ، وهما اسمان من أسماء الداهية. والوقود "بالفتح" : الحطب. وبالضم : التوقد. و"الناس" عموم ، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها ، أجارنا الله منها. "والحجارة" هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، نتن الرائحة ، كثرة الدخان ، شدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت. وليس في قوله تعالى : {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها. وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لقوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء : 98] أي حطب جهنم. وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس.(1/235) وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة. وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كل مؤذ في النار" . وفي تأويله وجهان : أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار. الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة. والله أعلم. روى مسلم عن العباس بن عبدالمطلب قال قلت : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : "نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" . "وقودها" مبتدأ. "الناس" خبره. "والحجارة" عطف عليهم. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف : "وُقودها" "بضم الواو". وقرأ عبيد بن عمير : {وقيدها النَّاسِ} . قال الكسائي والأخفش : الوقود "بفتح الواو" : الحطب ، و"بالضم" : الفعل ، يقال : وقدت النار تقد وقودا "بالضم" ووَقَدا وقِدة ووقيدا ووقْدا ووقدانا ، أي توقدت. وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والاتقاد مثل التوقد ، والموضع موقد ، مثل مجلس ، والنار موْقَدة. والوقدة : شدة الحر ، وهي عشرة أيام أو نصف شهر. قال النحاس : يجب على هذا ألا يقرأ إلا "وقودها" بفتح الواو لأن المعنى حطبها ، إلا أن الأخفش قال : وحكي أن بعض العرب يجعل الوَقود والوُقود بمعنى الحطب والمصدر. قال النحاس : وذهب إلى أن الأول أكثر ، قال : كما أن الوضوء الماء ، والوضوء المصدر. قوله تعالى : {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك ، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة ، على ما يأتي. وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن. وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي. روى مسلم عن عبدالله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة ، (1/236) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تدرون ما هذا" قال قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها" . وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه : أنت عذابي أعذب به من أشاء وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها" . وأخرجه مسلم بمعناه. يقال : احتجت بمعنى تحتج ، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف ، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة ، فلا معنى لما خالف ذلك. وبالله التوفيق. و {أُعِدَّتْ} يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : {أو جاؤوكم أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء : 90] فمعناه قد حصرت صدورهم ، فمع "حصرت" قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد ، فعلى هذا لا يتم الوقف على "الحجارة". ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله ، كما قال : {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت : 23]. وقال السجستاني : {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} من صلة "التي" كما قال في آل عمران : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران : 131]. ابن الأنباري : وهذا غلط ، لأن التي في سوره البقرة قد وصلت بقوله : {وَقُودُهَا النَّاسُ} فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، وفي آل عمران ليس لها صله غير "أعدت". الآية : 25 {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1/237) وقوله تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيه ثلاث مسائل : الأولى- ما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر يرد عليك ، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به ، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به ، قال الله تعالى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق : 24] ويقال : بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة "بكسر الباء" فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة "بفتح الباء". والبشرى : ما يعطاه المبشر. وتباشير الشيء : أوله. الثانية- أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال : من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر ، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال : من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول ، فقال أصحاب الشافعي : نعم ، لأن كل واحد منهم مخبر. وقال علماؤنا : لا ، لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة ، وذلك يختص بالأول ، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد بن الحسن بين قوله : أخبرني ، أو حدثني ، فقال : إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا ، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر - ولا نية له - فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق ، لأن هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق ، لأنه قال : أي غلام أخبرني فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا ، وإن كان عنى - حين حلف - بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال : وإذا قال أي غلام لي حدثني ، فهذا على المشافهة ، لا يعتق واحد منهم. الثالثة- قوله تعالى : {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} رد على من يقول : إن الإيمان بمجرده يقتضي الطاعات ، لأنه لو كان ذلك ما أعادها فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل : الجنة تنال بالإيمان ، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات. والله أعلم.(1/238) {أَنَّ لَهُمْ} في موضع نصب بـ "بشر" والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم ، أو لأن لهم ، فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقال الكسائي وجماعة من البصريين : "أن" في موضع خفض بإضمار الباء. {جَنَّاتٍ} في موضع نصب اسم "أن" ، "وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني. والجنات : البساتين ، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها ، ومنه : المجن والجنين والجنة. {تَجْرِي} في موضع النعت لجنات وهو مرفوع ، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها ، ولم يجر لها ذكر ، لأن الجنات دالة عليها. {الأَنْهَارُ} أي ماء الأنهار ، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا ، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا ، كما قال تعالى : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] أي أهلها. وقال الشاعر : نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس أراد : أهل المجلس ، فحذف. والنهر : مأخوذ من أنهرت ، أي وسعت ، ومنه قول قيس بن الخطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها أي وسعتها ، يصف طعنة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". معناه : ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر. وجمع النهر : نهر وأنهار. ونهر نهر : كثير الماء ، قال أبو ذؤيب : أقامت به فابتنت خيمة ... على قصب وفرات نهر(1/239) وروي : أن أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على "الأنهار" حسن وليس بتام ، لأن قوله : {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ} من وصف الجنات. {رِزْقاً ً} مصدره ، وقد تقدم القول في الرزق. ومعنى {مِنْ قَبْلُ} يعني في الدنيا ، وفيه وجهان : أحدهما : أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني : هذا الذي رزقنا في الدنيا ، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل : "من قبل" يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون ، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، يعني أطعمنا في أول النهار ، لأن لونه يشبه ذلك ، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول. قوله : {وَأُتُوا} فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور "وأتوا" بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة ، وفي الثانية للخدام. {بِهِ مُتَشَابِهاً} حال من الضمير في "به" ، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة : يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس : هذا على وجه التعجب ، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء ، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة : خيارا لا رذل فيه ، كقوله تعالى : {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر : 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه ، لأن فيها خيارا وغير خيار. قوله : {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} ابتداء وخبر. وأزواج : جمع زوج. والمرأة : زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي : ولا تكاد العرب تقول زوجة. وحكى الفراء أنه يقال : زوجة ، وأنشد الفرزدق : وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها(1/240) وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري ، واختاره الكسائي. {مُطَهَّرَةٌ} نعت للأزواج ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبدالرزاق قال أخبرني الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : "مطهرة" قال : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفة الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله. {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "هم" مبتدأ. "خالدون" خبره ، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود : البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول ، ومنه قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير : ألا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة. الآية : 26 {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} قال ابن عباس في رواية أبي صالح : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين : يعني {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة : 17] وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} [البقرة : 19] قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال : لما ذكر الله آلهة المشركين فقال : {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج : 73] وذكر كيد الآلهة(1/241) فجعله كبيت العنكبوت ، قالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد ، أي شيء يصنع ؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، فأنزل الله الآية. و {يَسْتَحْيِي} أصله يستحيِيُ ، عينه ولامه حرفا علة ، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا : مستحيٍ ، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن "يستحي" بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة ، وروى عن ابن كثير ، وهي لغة تميم وبكر ابن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما للالتقاء ، واسم الفاعل مستح ، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى "يستحيي" في هذه الآية فقيل : لا يخشى ، ورجحه الطبري ، وفي التنزيل : {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب : 37] بمعنى تستحي. وقال غيره : لا يترك. وقيل : لا يمتنع. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يمتنع من ذكره. قوله تعالى : {نْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} "يضرب" معناه يبين ، و"أن" مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. "مثلا" منصوب بيضرب "بعوضة" في نصبها أربعة أوجه : الأول : تكون "ما" زائدة ، و"بعوضة" بدلا من "مثلا". الثاني : تكون "ما" نكرة في موضع نصب على البدل من قوله : "مثلا". و"بعوضة" نعت لما ، فوصفت "ما" بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل ، قاله الفراء والزجاج وثعلب.(1/242) | |
|