________________________________________
الآية : 96 {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} يعني اليهود. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قيل : المعنى وأحرص ، فحذف "من الذين أشركوا" لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله ، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة ، ألا ترى قول شاعرهم :
تمتع من الدنيا فإنك فان ... من النشوات والنساء الحسان
والضمير في {أَحَدُهُمْ} يعود في هذا القول على اليهود. وقيل : إن الكلام تم في "حياة" ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين. قيل : هم المجوس ، وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه "عش ألف سنة". وخص الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب. وذهب الحسن إلى أن "الذين أشركوا" مشركو العرب ، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، فهم يتمنون طول العمر. وأصل سنة سنهة. وقيل : سنوة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة.
قوله تعالى : {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أصل "يود" يودد ، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ، وقلبت حركة الدال على الواو ، ليدل ذلك على أنه يفعل. وحكى الكسائي : وددت ، فيجوز على هذا يود بكسر الواو. ومعنى يود : يتمنى.
قوله تعالى : {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} اختلف النحاة في هو ، فقيل : هو ضمير الأحد المتقدم ، التقدير ما أحدهم بمزحزحه ، وخبر الابتداء في المجرور. "أن يعمر" فاعل بمزحزح وقالت فرقة : هو ضمير التعمير ، والتقدير وما التعمير بمزحزحه ، والخبر في المجرور ، "أن يعمر" بدل من التعمير على هذا القول. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : "هو" عماد.
(2/34)
________________________________________
قلت : وفيه بُعدٌ ، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين ، مثل قوله : {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال : 32] ، وقوله : {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف : 76] ونحو ذلك. وقيل : "ما" عاملة حجازية ، و"هو" اسمها ، والخبر في {بِمُزَحْزِحِهِ} . وقالت طائفة : "هو" ضمير الأمر والشأن. ابن عطية : وفيه بعد ، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر. وقوله : "بمزحزحه" الزحزحة : الإبعاد والتنحية ، يقال : زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد ، يكون لازما ومتعديا قال الشاعر في المتعدي :
يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت ... وغافر الذنب زحزحني عن النار
وأنشده ذو الرمة :
يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا ... وغافر الذنب زحزحني عن النار
وقال آخر في اللازم :
خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا" .
قوله تعالى : {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة. ومن قرأ بالتاء فالتقدير عنده. قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون. وقال العلماء : وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب : العالم بالشيء الخبير به ، ومنه قولهم : فلان بصير بالطب ، وبصير بالفقه ، وبصير بملاقاة الرجال ، قال :
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
قال الخطابي : البصير العالم ، والبصير المبصر. وقيل : وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار ، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة ، فالله بصير بعباده ، أي جاعل عباده مبصرين.
(2/35)
________________________________________
الآية : 97 {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي ، فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ قال : "جبريل" قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ، ذاك عدونا! لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك ، فأنزل الله الآية إلى قوله : "للكافرين" أخرجه الترمذي.قوله تعالى : {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} الضمير في "إنه" يحتمل معنيين ، الأول : فإن الله نزل جبريل على قلبك. الثاني : فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك. وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف. ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذم معاديه.قوله تعالى : {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإرادته وعلمه. { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني التوراة. {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} تقدم معناه والحمد لله.
الآية : 98 {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}
قوله تعالى : {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ} شرط ، وجوابه {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . وهذا وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام ، وإعلان أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم. وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ، ومعاداة أوليائه. وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه.
فإن قيل : لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما ؟
قيل له : خصهما بالذكر تشريفا لهما ، كما قال : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68]. وقيل : خصا لأن اليهود ذكروهما ، ونزلت الآية بسببهما ، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود : إنا لم نعاد
(2/36)
________________________________________
الله وجميع ملائكته ، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص. ولعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات ، فأما التي في جبريل فعشر :
الأولى : جبريل ، وهي لغة أهل الحجاز ، قال حسان بن ثابت :
وجبريل رسول الله فينا
الثانية : جبريل "بفتح الجيم" وهي قراءة الحسن وابن كثير ، وروي عن ابن كثير أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك.
الثالثة : جبرئيل "بياء بعد الهمزة ، مثال جبرعيل" ، كما قرأ أهل الكوفة ، وأنشدوا :
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة ... مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
وهي لغة تميم وقيس.
الرابعة : جبرئل "على وزن جبرعل" مقصور ، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.
الخامسة : مثلها ، وهي قراءة يحيى بن يعمر ، إلا أنه شدد اللام.
السادسة : جبرائل "بألف بعد الراء ثم همزة" وبها قرأ عكرمة.
السابعة : مثلها ، إلا أن بعد الهمزة ياء.
الثامنة : جبرييل "بياءين بغير همزة" وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا.
التاسعة : جبرئين "بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون".
العاشرة : جبرين "بكسر الجيم وتسكين الباء بنون من غير همزة" وهي لغة بني أسد. قال الطبري : ولم يقرأ بها. قال النحاس - وذكر قراءة ابن كثير - : "لا يعرف في كلام العرب فَعليل ، وفيه فِعليل ، نحو دهليز وقطمير وبرطيل ، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب ، وليس ينكر أن يكثر تغيره ، كما قالوا : إبراهيم وإبرهم وإبراهم
(2/37)
________________________________________
وإبراهام". قال غيره : جبريل اسم أعجمي عربته العرب ، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف.
قلت : قد تقدم في أول الكتاب أن الصحيح في هذه الألفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين. قال النحاس : ويجمع جبريل على التكسير جباريل. وأما اللغات التي في ميكائيل فست :
الأولى : ميكاييل ، قراءة نافع.
الثانية : وميكائيل "بياء بعد الهمزة" قراءة حمزة.
الثالثة : ميكال ، لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه ، قال كعب بن مالك :
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النصر ميكال وجبريل
وقال آخر :
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
الرابعة : ميكئيل ، مثل ميكعيل ، وهي قراءة ابن محيصن.
الخامسة : ميكاييل "بياءين" وهي قراءة الأعمش باختلاف عنه.
السادسة : ميكاءل ، كما يقال "إسراءل بهمزة مفتوحة" ، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف. وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى : عبد ومملوك. وإيل : اسم الله تعالى ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إل ، وفي التنزيل : {لا يَرْقُبُون فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً} في أحد التأويلين ، وسيأتي. قال الماوردي : إن جبريل وميكائيل اسمان ، أحدهما عبدالله ، والآخر عبيدالله ، لأن إيل هو الله تعالى ، وجبر هو عبد ، وميكا هو عبيد ، فكأن جبريل عبدالله ، وميكائيل عبيدالله ، هذا قول ابن عباس ، وليس له في المفسرين مخالف.
(2/38)
________________________________________
قلت : وزاد بعض المفسرين : وإسرافيل عبدالرحمن. قال النحاس : ومن تأول الحديث "جبر" عبد ، و"إل" الله وجب عليه أن يقول : هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبرئل ، وهذا لا يقال ، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا. قال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفا ، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف. وروى عبدالغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة - وهو فليت العامري وهو أبو حسان - عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم رب جبريل وميكايل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر".
الآية : 99 {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ}
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها ؟ فأنزل الله هذه الآية ، ذكره الطبري.
الآية : 100 {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً} الواو واو العطف ، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ} [المائدة : 50] ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [الزخرف : 40] ، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف : 50]. وعلى ثم كقوله : {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس : 51] هذا قول سيبويه. وقال الأخفش : الواو زائدة. ومذهب الكسائي أنها أو ، حركت الواو منها تسهيلا. وقرأها قوم أو ، ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل ، كما يقول القائل : لأضربنك ، فيقول المجيب : أو يكفي الله. قال ابن عطية : وهذا كله متكلف ، والصحيح قول سيبويه. "كلما" نصب على الظرف ، والمعني
(2/39)
________________________________________
في الآية مالك بن الصيف ، ويقال فيه ابن الضيف ، كان قد قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق ، فنزلت الآية. وقيل : إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء : هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير ، دليله قوله تعالى : {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال : 56].
قوله تعالى : {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} النبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه النبيذ والمنبوذ ، قال أبو الأسود :
وخبرني من كنت أرسلت إنما ... أخذت كتابي معرضا بشمالكا
نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
آخر :
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابك واستحلوا المحرما
وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به ، تقول العرب : اجعل هذا خلف ظهرك ، ودبرا منك ، وتحت قدمك ، أي اتركه وأعرض عنه ، قال الله تعالى : {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود : 92]. وأنشد الفراء :
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها
قوله تعالى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ} ابتداء. {لا يُؤْمِنُونَ} فعل مستقبل في موضع الخبر.
الآية : 101 {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
(2/40)
________________________________________
قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} نعت لرسول ، ويجوز نصبه على الحال. {نَبَذَ فَرِيقٌ} جواب "لما" {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} نصب بـ "نبذ" ، والمراد التوراة ، لأن كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها. قال السدي : نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف ، وسحر هاروت وماروت. وقيل : يجوز أن يعني به القرآن. قال الشعبي : هو بين أيديهم يقرؤونه ، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه في الحرير والديباج ، وحلوه بالذهب والفضة ، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه ، فذلك النبذ. وقد تقدم بيانه مستوفا. {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
الآية : 102 {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
فيه أربع وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا ، وهم اليهود. وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت. وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود
(2/41)
________________________________________
كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله عز وجل : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}. قال عطاء : "تتلو" تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس : "تتلو" تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا. وقال الطبري : "اتبعوا" بمعنى فضلوا.
قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره ، ومعنى "تتلو" يعني تلت ، فهو بمعنى المضي ، قال الشاعر :
وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذبائح
أي فلقد كان. و"ما" مفعول بـ "اتبعوا" أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته. وقيل : "ما" نفي ، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته ، قال ابن العربي. {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج : قال الفراء على عهد ملك سليمان. وقيل : المعنى في ملك سليمان ، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء : تصلح على وفي ، في مثل هذا الموضع. وقال "على" ولم يقل بعد لقوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
(2/42)
________________________________________
وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج : 52] أي في تلاوته. وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه ، فلا معنى لإعادته. والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن ، وهو المفهوم من هذا الاسم. وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال ، كقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي ... وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
الثانية : قوله تعالى : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر ، ولكن اليهود نسبته إلى السحر ، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} فأثبت كفرهم بتعليم السحر. و"يعلمون" في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان. وقرأ الكوفيون سوى عاصم "ولكن الشياطين" بتخفيف "لكن" ، ورفع النون من "الشياطين" ، وكذلك في الأنفال {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] ووافقهم ابن عامر. الباقون بالتشديد والنصب. و"لكن" كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي ، وإثبات الخبر المستقبل ، وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا ، ك ، إن. "لا" نفي ، و"الكاف" خطاب ، و"إن" إثبات وتحقيق ، فذهبت الهمزة استثقالا ، وهي تثقل وتخفف ، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة ، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة
الثالثة : السحر ، قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وكذلك إذا عللته ، والتسحير مثله ، قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
(2/43)
________________________________________
آخر :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود ... وأجرأ من مجلحة الذئاب
وقوله تعالى : {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء : 153] يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر ، ويقال من المعللين ، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب. وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله في خفية. وقيل : أصله الصرف ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي ما صرفك عنه ، فالسحر مصروف عن جهته. وقيل : أصله الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك. وقيل في قوله تعالى : {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر : 15] أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا. وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ، وقد سحره يسحره سحرا. والساحر : العالم ، وسحره أيضا بمعنى خدعه ، وقد ذكرناه. وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه. والعضه عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب ، قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثات ... في عضه العاضه المعضه
الرابعة : واختلف هل له حقيقة أم لا ، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون ، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر.
قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء ، على ما يأتي. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة. والشعوذي : البريد لخفة سيره. قال ابن فارس في المجمل : الشعوذة ليست من كلام أهل البادية ، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر ، ومنه ما يكون كلاما يحفظ ، ورقى من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين ، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك.
(2/44)