فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 16 أغسطس - 16:23 | |
| قلت : وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك ، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ، وكان يختم الصلاة بالتسليم. قلت : ولهذا الحديث - والله أعلم - قال ابن عمر : إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي "ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى" ، لحديث وائل بن حجر ، وكذلك قال الشافعي وأحمد وإسحاق في الجلسة الوسطى. وقالوا في الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك لحديث أبي حميد الساعدي رواه البخاري قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته". قال الطبري إن فعل هذا فحسن كل ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. الموفية الثلاثين : مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبدالرحمن المعاوي أنه قال : رآني عبدالله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة ، فلما انصرف نهاني فقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قال : كان "إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه(1/360) كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال : هكذا كان يفعل". قال ابن عبدالبر : "وما وصفه ابن عمر من وضعه كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع ، كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجمع عليه ولا خلاف علمته بين العلماء فيها وحسبك بهذا. إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميعه مباح والحمد لله. وروى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه قال سفيان وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال "هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا". قلت : روى أبو داود في حديث ابن الزبير أنه عليه السلام "كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها" وإلى هذا ذهب بعض العراقيين فمنع من تحريكها وبعض علمائنا رأوا أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين تأول من والاه بأن قال إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة وتأول في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد والله أعلم. الحادية والثلاثون : واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة فقال مالك هي كالرجل ولا تخالفه فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر وقال الثوري تسدل المرأة جلبابها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النخعي وقال أبو حنيفة وأصحابه تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها وهو قول الشعبي تقعد كيف تيسر لها وقال الشافعي تجلس بأستر ما يكون لها.(1/361) الثانية والثلاثون : روى مسلم عن طاوس قال قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين ، فقال : "هي السنة فقلنا له إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم" وقد اختلف العلماء في صفة الإقعاء فقال أبو عبيد : "الإقعاء جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع" قال ابن عبدالبر وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه. وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه. وقال أبو عبيد : وأما أهل الحديث فانهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين قال القاضي عياض : والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السنة ، الذي فسر به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين ، وكذا جاء مفسرا عن ابن عباس : من السنة أن تمس عقبك أليتك. رواه إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عنه ، ذكره أبو عمر قال القاضي : وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه ، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار وسموه إقعاء. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يقعون بين السجدتين. الثالثة والثلاثون : لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض إلا ما روي عن الحسن بن حي أنه أوجب التسليمتين معا. قال أبو جعفر الطحاوي : لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره. قال ابن عبدالبر من حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعا وقوله إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته - قوله صلى الله عليه وسلم "تحليلها التسليم" ثم بين كيف التسليم فكان يسلم عن يمينه وعن يساره ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم "تحليلها التسليم" قالوا : والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم.(1/362) قلت : هذه المسألة مبنية على الأخذ بأقل الاسم أو بآخره ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة إلا أنه تواردت السنن الثابتة من حديث ابن مسعود - وهو أكثرها تواترا - ومن حديث وائل بن حجر الحضرمي وحديث عمار وحديث البراء بن عازب وحديث بن عمر وحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين. روى ابن جريج وسليمان بن بلال وعبدالعزيز بن محمد الدرداوردي كلهم عن عمرو ابن يحيى المازني. عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : قلت لابن عمر : حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت ؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله عن يساره قال ابن عبدالبر وهذا إسناد مدني صحيح ، والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عنهم أيضا وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان ، وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف وحديث التسليمة الواحدة رواه سعد بن أبي وقاص وعائشة وأنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث. الرابعة والثلاثون : روى الدارقطني عن ابن مسعود أنه قال : من السنة أن يخفى التشهد. واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو التحيات لله الزكيات لله الطيبات الصلوات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. واختار الشافعي وأصحابه والليث بن سعد تشهد ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول : "التحيات المباركات الصلوات الطيبات(1/363) لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله". واختار الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضا ، قال : كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله السلام على فلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم : "إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسول ثم يتخير من المسألة ما شاء" وبه قال أحمد وإسحاق وداود. وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد ابن مسعود. وهذا كله اختلاف في مباح ليس شيء منه على الوجوب والحمد لله وحده فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمنها قوله جل وعز {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة : 43] وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : 238]. ويأتي هناك حكم الإمام المريض وغيره من أحكام الصلاة ويأتي في "آل عمران" حكم صلاة المريض غير الإمام ويأتي في "النساء" في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل ويأتي في سورة "مريم" حكم الإمام يصلي أرفع من المأموم إلى غير ذلك من الأوقات والأذان والمساجد وهذا كله بيان لقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وقد تقدم في أول السورة جملة من أحكامها والحمد لله على ذلك. الآية 44 {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فيه تسع مسائل : (1/364) الأولى : قوله تعالى : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} هذا استفهام التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود. قال ابن عباس "كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمد صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه" وعن ابن عباس أيضا "كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم" وقال ابن جريج : كان الأحبار يحضون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الإشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالقون عن ظواهر رسومها. الثانية : في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا" . قلت : وهذا الحديث وإن كان فيه لين ، لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الإمام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو - فيما حكى يحيى بن معين - حزور القرشي مولى خالد بن عبدالله بن أسيد وقيل مولى باهلة. وقيل مولى عبدالرحمن الحضرمي. كان يختلف إلى(1/365) الشام في تجارته قال يحيى بن معين هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه" القصب "بضم القاف" المعى وجمعه أقصاب والأقتاب الأمعاء واحدها قتب ومعنى "فتندلق" : فتخرج بسرعة. وروينا "فتنفلق". قلت : فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" أخرجه ابن ماجه في سننه. الثالثة : اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال "أتأمرون الناس بالبر" الآية وقال منصور الفقيه فأحسن : إن قوما يأمرونا ... بالذي لا يفعلونا لمجانين وإن هم ... لم يكونوا يصرعونا وقال أبو العتاهية : وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابك تسطع(1/366) وقال أبو الأسود الدؤلي : لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم وقال أبو عمرو بن مطر : حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير ، فسكت حتى طال سكوته ، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس : ترى أن تقول في سكوتك شيئا ؟ فأنشأ يقول : وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض قال : فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج. قال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات ، قوله تعالى : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة : 44] الآية ، وقوله : {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف : 2] ، وقوله : {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود : 88]. وقال سلم بن عمرو : ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الدنيا فما باله ... يستمنح الناس ويسترفد والرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود وقال الحسن لمطرف بن عبدالله : عظ أصحابك ، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال : يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا ، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ، ما أمر(1/367) أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك : وصدق ، من ذا الذي ليس فيه شيء. الخامسة قوله تعالى : {الْبِرَّ} البر هنا الطاعة والعمل الصالح. والبر : الصدق. والبر : ولد الثعلب. والبر : سوق الغنم ، ومنه قولهم : "لا يعرف هرا من بر" أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها. فهو مشترك ، وقال الشاعر : لا هم رب إن بكرا دونكا ... يبرك الناس ويفجرونكا أراد بقوله "يبرك الناس" : أي يطيعونك. ويقال : إن البر الفؤاد في قوله : أكون مكان البر منه ودونه ... واجعل ما لي دونه وأوامره والبر "بضم الباء" معروف ، و"بفتحها" الإجلال والتعظيم ، ومنه ولد بر وبار ، أي يعظم والديه ويكرمهما. قوله تعالى : {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون. والنسيان "بكسر النون" يكون بمعنى الترك ، وهو المراد هنا ، وفي قوله تعالى : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة : 67] ، وقوله : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام : 44] ، وقوله : {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة : 237]. ويكون خلاف الذكر والحفظ ، ومنه الحديث : "نسي آدم فنسيت ذريته" . وسيأتي. يقال : رجل نسيان "بفتح النون" : كثير النسيان للشيء. وقد نسيت الشيء نسيانا ، ولا تقل نَسَيانا "بالتحريك" ، لأن النسَيان إنما هو تثنية نسا العرق. وأنفس : جمع نفس ، جمع قلة. والنفس : الروح ، يقال : خرجت نفسه ، قال أبو خراش : نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر : 42] يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي ، وذلك(1/368) بين في قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم "إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا" رواهما مالك. وهو أولى ما يقال به. والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر : تسيل على حد السيوف نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس أيضا الجسد قال الشاعر : نبئت أن بني سحيم أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر والتامور أيضا : الدم. السابعة : قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} توبيخ عظيم لمن فهم. "وتتلون" : تقرؤون "الكتاب" التوراة. وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم وأصل التلاوة الاتباع ، ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه : يقال : تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتلية والتلاوة "بضم التاء" البقية يقال تليت لي من حقي تلاوة وتلية أي بقيت. وأتليت أبقيت وتتّليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه. قال أبو زيد تلى الرجل إذا كان بآخر رمق. الثامنة- قوله تعالى : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل المنع ، ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ، ومنه اعتقال البطن واللسان ، ومنه يقال للحصن معقل والعقل نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج. قال علقمة : عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه ... كأنه من دم الأجواف مدموم(1/369) المدموم "بالدال المهملة" الأحمر وهو المراد هنا والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره. ويقال هما ضربان من البرود قال ابن فارس : والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم. وقال الزجاج : العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل. التاسعة- اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوما لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه ، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى. وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم محله الدماغ لأن الدماغ محل الحس ، وقالت طائفة أخرى محله القلب لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا وقيل إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت. وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ، وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد. واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة. وحكى الأستاذ(1/370) أبو بكر عن الشافعي وأبي عبدالله بن مجاهد أنهما قال : العقل آلة التمييز. وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز. وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال : والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة. والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر ، وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى. الآية : 45 {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} فيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الصبر الحبس في اللغة : وقتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف. وصبرت نفسي على الشيء : حبستها. والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت ، وهي المجثَّمة. وقال عنترة : فصبرتُ عارفةً لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع الثانية : أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال "واصبروا" يقال فلان صابر عن المعاصي ، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة ، هذا أصح ما قيل. قال النحاس ولا يقال لمن صبر على المصيبة : صابر ، إنما يقال صابر على كذا. فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا ، قال الله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]. الثالثة : قوله تعالى : {وَالصَّلاةِ} خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها ، وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ومنه ما روي أن عبدالله(1/371) بن عباس نعي له أخوه قثم - وقيل بنت له - وهو في سفر فاسترجع وقال : "عورة سترها الله ، ومؤونة كفاها الله ، وأجر ساقه الله. ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية ، وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللغة ، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال 45] لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء. وقول ثالث قال مجاهد الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم. الرابعة : الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين ، قال يحيى بن اليمان : الصبر ألا تتمنى حال سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك. وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبري : وصدق علي رضي الله منه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به. الخامسة : وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام 160] وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة : 261] الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10] وقال {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى : 43]. وقد قيل أن المراد بالصابرين في قوله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر : 10] أي الصائمون ، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الصيام لي وأنا أجزي به" . فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر والله اعلم.(1/372) السادسة : من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى ، إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم". أخرجه البخاري. قال علماؤنا : وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قال ابن فورك وغيره : وجاء في أسمائه "الصبور" للمبالغة في الحلم عمن عصاه. السابعة : قوله تعالى : {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله : "وإنها" ، فقيل : على الصلاة وحدها خاصة ، لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم. والصبر هنا الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق ، فيتسلى بتلك الأشياء عما منع والمصلي يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} وقيل عليهما ، ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة ، كقوله {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة : 34] وقوله {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة : 11]. فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم. وقيل إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها كما قال : {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة : 62] ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ومنه قول الشاعر : إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ... ـود ما لم يعاص كان جنونا(1/373) ولم يقل يعاصيا ، رد إلى الشباب لأن الشعر داخل فيه وقيل رد الكناية إلى كل واحد منهم لكن حذف اختصارا ، قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون : 50] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر : فمن يك أمسى بالمدينة ... رحله فإني وقيار بها لغريب وقال آخر : لكل هم من الهموم سعه ... والصبح والمسي لا فلاح معه أراد : لغريبان ، لا فلاح معهما ، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة وقيل على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله : {وَاسْتَعِينُوا} وقيل على أجابه محمد عليه السلام ، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه. وقيل على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها. "وكبيرة" معناه ثقيلة شاقة ، خبر "إن" ويجوز في غير القرآن : "وإنه لكبيرة إلا على الخاشعين" فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى. الثامنة : قوله تعالى : {عَلَى الْخَاشِعِينَ} الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع. وقال قتادة الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة. قال الزجاج الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقوان ؟ هذا هو الأصل قال النابغة : رماد ككحل العين لأيا أبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع ومكان خاشع : لا يهتدى له. وخشعت الأصوات أي سكنت ، وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة قطعة من الأرض رخوة. وفي الحديث "كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد". وبلدة خاشعة مغبرة لا منزل بها.(1/374) | |
|