فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 8 أغسطس - 16:07 | |
| الثالث : نصبت على تقدير إسقاط الجار ، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة ، فحذفت "بين" وأعربت بعوضة بإعرابها ، والفاء بمعنى إلى ، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا ، وأنشد أبو العباس : يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ... ولا حبال محب واصل تصل أراد ما بين قرن ، فلما أسقط "بين" نصب. الرابع : أن يكون "يضرب" بمعنى يجعل ، فتكون "بعوضة" المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج "بعوضة" بالرفع ، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح : ووجه ذلك أن "ما" اسم بمنزلة الذي ، و"بعوضة" رفع على إضمار المبتدأ ، التقدير : لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا ، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم : {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي هو قائل. قال النحاس : والحذف في "ما" أقبح منه في "الذي" ، لأن "الذي" إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال : إن معنى ضربت له مثلا ، مثلت له مثلا. وهذه الأبنية على ضرب واحد ، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة : فعولة من بَعَض إذا قطع اللحم ، يقال : بضع وبعض بمعنى ، وقد بعضته تبعيضا ، أي جزأته فتبعض. والبعوض : البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها. قال الجوهري وغيره. قوله تعالى : {فَمَا فَوْقَهَا} قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى ، ومن جعل "ما" الأولى صلة زائدة فـ "ما" الثانية عطف عليها. وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : معنى "فما فوقها" - والله أعلم - ما دونها ، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي : وهذا كقولك في الكلام : أتراه قصيرا ؟ فيقول القائل : أو فوق ذلك ، أي هو أقصر مما ترى. وقال قتادة وابن جريج : المعنى في الكبر.الضمير في "أنه" عائد على المثل أي إن المثل حق.(1/243) والحق خلاف الباطل. والحق : واحد الحقوق. والحقة "بفتح الحاء" أخص منه ، يقال : هذه حقتي ، أي حقي. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} لغة بني تميم وبني عامر في "أما" أيما ، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف ، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة : رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر قوله تعالى : {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} اختلف النحويون في "ماذا" ، فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، فيكون في موضع نصب بـ "أراد". قال ابن كيسان : وهو الجيد. وقيل : "ما" اسم تام في موضع رفع بالابتداء ، و"ذا" بمعنى الذي وهو خبر الابتداء ، ويكون التقدير : ما الذي أراده الله بهذا مثلا ، ومعنى كلامهم هذا : الإنكار بلفظ الاستفهام. و"مثلا" منصوب على القطع ، التقدير : أراد مثلا ، قاله ثعلب. وقال ابن كيسان : هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال. قوله تعالى : {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} قيل : هو من قول الكافرين ، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى. وقيل : بل هو خبر من الله عز وجل ، وهو أشبه ، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده ، فالمعنى : قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا ، أي يوفق ويحذل ، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم : إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا : ومعنى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} التسمية هنا ، أي يسميه ضالا ، كما يقال : فسقت فلانا ، يعني سميته فاسقا ، لأن الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الإضلال ، وهو خلاف أقاويل المفسرين ، وهو غير محتمل في اللغة ، لأنه يقال : ضلله إذا سماه ضالا ، ولا يقال : أضله إذا سماه ضالا ، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم.ولا خلاف أن قوله : (1/244) {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} أنه من قول الله تعالى. و"الفاسقين" نصب بوقوع الفعل عليهم ، والتقدير : وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال نوف البكالي : قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل : إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل : يا عزير اعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة ، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك ، يقال منه : ضل الماء في اللبن إذا استهلك ، ومنه قوله تعالى : {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة : 10] وقد تقدم في الفاتحة. والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ، والفأرة من جحرها. والفويسقة : الفأرة ، وفي الحديث : "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا" . روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه مسلم. وفي رواية "العقرب" مكان "الحية". فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذيتها ، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا - فسقا وفسوقا ، أي فجر. فأما قوله تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال : وهذا عجب ، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري. قلت : قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب "الزاهر" له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر : يذهبن في نجد وغورا غائرا ... فواسقا عن قصدها جوائرا(1/245) والفِسّيق : الدائم الفسق. ويقال في النداء : يا فسق ويا خبث ، يريد : يا أيها الفاسق ، ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي : الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان. الآية : 27 {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وفيه سبع مسائل : الأولى- قوله تعالى : {الَّذِينَ} "الذين" في موضع نصب على النعت للفاسقين ، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف ، أي هم الذين. وقد تقدم. الثانية- قوله تعالى : {يَنْقُضُونَ} النقض : إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول : أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر : ما ينقض به. والنقض : المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد ، فقيل : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره. وقيل : هو وصية الله تعالى إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به. وقيل : بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد ، ونقضهم ترك النظر في ذلك. وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج : عهده جل وعز ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران : 81] إلى قوله تعالى : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران : 81] أي عهدي. قلت : وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال ، والقول الثاني يجمعها.(1/246) الثالثة- قوله تعالى : {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الميثاق : العهد المؤكد باليمين ، مفعال من الوثاقة والمعاهدة ، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل ، لأن أصل ميثاق موثاق ، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها - والمياثق والمياثيق أيضا ، وأنشد ابن الأعرابي : حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ... ولا نسأل الأقوام عهد المياثق والموثق : الميثاق. والمواثقة : المعاهدة ، ومنه قوله تعالى : {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} . الرابعة- قوله تعالى : {وَيَقْطَعُونَ} القطع معروف ، والمصدر - في الرحم - القطيعة ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطَع وقطعة ، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قُطوعا وقُطاعا وقِطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة : إذا قلت مياههم. ورجل به قطع : أي انبهار. الخامسة- قوله تعالى : {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} "ما" في موضع نصب بـ "يقطعون". و"أن" إن شئت كانت بدلا من "ما" وإن شئت من الهاء في "به" وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل ، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله ؟ فقيل : صلة الأرحام. وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم. وقيل : الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور ، والرحم جزء من هذا. السادسة- قوله تعالى : {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا غاية الفساد.(1/247) {أولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ابتداء وخبر. و"هم" زائدة ، ويجوز أن تكون "هم" ابتداء ثان ، "الخاسرون" خبره ، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم. والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره ، قال جرير : إن سليطا في الخسار إنه ... أولاد قوم خلقوا أقنّه يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري : وخسرت الشيء "بالفتح" وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى : الضلال والهلاك. فقيل للهالك : خاسر ، لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة. السابعة- في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره ، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة : 1] وقد قال لنبيه عليه السلام : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال : 58] فنهاه عن الغدر وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. الآية : 28 {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} "كيف" سؤال عن الحال ، وهي اسم في موضع نصب بـ "تكفرون" ، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة ، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف ، واختير لها الفتح لخفته ، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل : كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله ؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أم محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد(1/248) أشركوا ، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد. وقيل : "كيف" لفظه لفظ الاستفهام وليس به ، بل هو تقرير وتوبيخ ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه قال الواسطي : وبخهم بهذا غاية التوبيخ ، لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شيء ، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية. قوله تعالى : {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} هذه الواو واو الحال ، وقد مضمرة. قال الزجاج : التقدير وقد كنتم ، ثم حذفت قد. وقال الفراء : "أمواتا" خبر "كنتم". {فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} هذا وقف التمام ، كذا قال أبو حاتم. ثم قال : {ثُمَّ يُحيِيكُمْ} . واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين ، وكم من موتة وحياة للإنسان ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود : أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم - أي خلقكم - ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية : وهذا القول هو المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ، ثم للإحياء في الدنيا ، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره : والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل : لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا. وقيل : كنتم أمواتا - أي نطفا - في ثم أخرجكم من ظهره كالذر ، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل : كنتم أمواتا - أي نطفا - في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم ، ثم يميتكم بعده هذه الحياة ، ثم يحييكم في القبر للمسألة ، ثم يميتكم في القبر ، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر ، وهي الحياة التي ليس بعدها موت. قلت : فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات ، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم ، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل : إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم ، فيكون على هذا خمس موتات ، وخمس إحياءات. وموتة سادسة(1/249) للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار ، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذِن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل" . فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم. قلت : فقوله "فأماتهم الله" حقيقة في الموت ، لأنه أكده بالمصدر ، وذلك تكريما لهم. وقيل : يجوز أن يكون "أماتهم" عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم ، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة ، والأول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، وإنما هو على الحقيقة ، ومثله : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء : 164] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل : المعنى وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم ، ثم يميتكم فيموت ذكركم ، ثم يحييكم للبعث. قوله تعالى : {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم. وقيل : إلى الحياة وإلى المسألة ، كما قال تعالى : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء : 104] فإعادتهم كابتدائهم ، فهو رجوع. و"تُرجَعون" قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت. الآية : 29 {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1/250) قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} وفيه عشر مسائل : الأولي- قوله : "خلق" معناه اخترع وأوجد بعد العدَم. وقد يقال في الإنسان : "خلق" عند إنشائه شيئا ، ومنه قول الشاعر : من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن كيسان : "خلق لكم" أي من أجلكم. وقيل : المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم. وقيل : إنه دليل على التوحيد والاعتبار. قلت وهذا هو الصحيح على ما نبينه. ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء. الثانية- استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله : {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية : 13] الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا : إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا ، فلا بد لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته ، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذتها ، أو في اجتنابها لنختبر بذلك ، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها ، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد ، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة ، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة ، بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق ، بل قد استدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة ، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقف آخرون وقالوا : ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه ، ولا معين قبل ورود الشرع ، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه(1/251) المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال ، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء ، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه. قال ابن عطية : وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به ، أو لها حال تستصحب. قال : فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف. الثالثة- الصحيح في معنى قوله تعالى : {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها ، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض ، لا تبعد منه القدرة على الإعادة. فإن قيل : إن معنى "لكم" الانتفاع ، أي لتنفعوا بجميع ذلك ، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا. فان قيل : وأي اعتبار في العقارب والحيات ، قلنا : قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي ، وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي : وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا ، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته. وقال أرباب المعاني في قوله : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} لتتقووا به على طاعته ، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده ، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد. الرابعة- روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا" فقال له عمر : هذا أعطيت إذا كان(1/252) عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بذلك أمرت" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فخوف الإقلال من سوء الظن بالله ، لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم ، وقال في تنزيله : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية : 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه ، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا ، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه ، كما قال تعالى : {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ : 39] وقال : {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل : 40] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى : سبقت رحمتي غضبي يا ابن آدم أنْفِق أنفق عليك يمين الله ملأى سحّا لا يغيضها شيء الليل والنهار" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" . وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا ، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره ، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال ، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته ، وانقطعت مشيئته لنفسه ، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء ، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئه في شيء خاف ألا يصيب غدا ، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك" . وروى النسائي عن عائشة قالت : دخل علي(1/253) سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك" قلت : نعم ، قال : " مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك" . الخامسة- قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى} "ثم" لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. والاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء ، قال الله تعالى : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون : 28] ، وقال {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف : 13] ، وقال الشاعر : فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى أي ارتفع وعلا ، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي ، بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات ، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه ، قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، وذهب إليه كثير من الأئمة ، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] قال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رجل سوء أخرجوه. وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة. وقال بعضهم : نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. وقال الفراء في قوله عز وجل : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} قال : الاستواء في كلام العرب على وجهين ، أحدهما : أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول : كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى أقبل إلي وعلي. فهذا معنى قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس : ثم استوى إلى السماء صعد. وهذا كقولك : كان قاعدا فاستوى قائما ، وكان قائما فاستوى قاعدا ، وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين : قوله : (1/254) "استوى" بمعنى أقبل صحيح ، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء ، والقصد هو الإرادة ، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة "ثم" تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي ، والكلبي ضعيف. وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} : قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه ، فهذا قول. وقيل : على دون تكييف ولا تحديد ، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال : استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي : ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل : إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية : وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل : المعنى استولى ، كما قال الشاعر : قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق قال ابن عطية : وهذا إنما يجيء في قوله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5]. قلت : قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة "الأعراف" إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة. السادسة- يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء ، وكذلك في "حم السجدة". وقال في النازعات : {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات : 27] فوصف خلقها ، ثم قال : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات : 30]. فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وقال تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام : 1] وهذا قول قتادة : إن السماء خلقت أولا ، حكاه عنه الطبري. وقال مجاهد وغيره من المفسرين : إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع ، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء ، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وكانت إذ خلقها غير مدحوة.(1/255) | |
|