قال سفيان الثوري : سألت الأعمش عن الخشوع فقال : يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال أعيمش تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس ، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. وقال علي بن أبي طالب : الخشوع في القلب ، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون : 1 - 2] فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق. قال سهل بن عبدالله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى : {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر : 23].
قلت : هذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا. وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان. روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الخاشعون هم المؤمنون حقا.
الآية : 46 {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} "الذين" في موضع خفض على النعت للخاشعين ، ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة : 20] وقوله : {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف : 53]. قال دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
(1/375)
________________________________________
وقال أبو داود :
رب هم فرجته بغريم ... وغيوب كشفتها بظنون
وقد قيل : إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية : وهذا تعسف. وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين ، كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر : أظن هذا إنسانا. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر ، وكقوله تعالى {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} . وقد يجيء اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول : سؤت به ظنا وأسأت به الظن. يدخلون الألف إذا جاؤوا بالألف واللام. ومعنى {مُلاقُو رَبِّهِمْ} جزاء ربهم. وقيل : إذا جاء على المفاعلة وهو من واحد ، مثل عافاه الله. {وَأَنَّهُمْ} بفتح الهمزة عطف على الأول ويجوز "وإنهم" بكسرها على القطع. {إِلَيْهِ} أي إلى ربهم ، وقيل إلى جزائه. {رَاجِعُونَ} إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى.
الآية : 47 {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} تقدم. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} يريد على عالمي زمانهم ، وأهل كل زمان عالم. وقيل : على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.
الآية : 48 {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
(1/376)
________________________________________
قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أمر معناه الوعيد ، وقد مضى الكلام في التقوى. "يوماً" يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة. وانتصب على المفعول بـ "اتقوا". ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزي على الإضافة. وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون : التقدير يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال :
ويوما شهدناه سليما وعامرا
أي شهدنا فيه. وقال الكسائي : هذا خطأ لا يجوز حذف "فيه" ولكن التقدير : واتقوا يوما لا تجزيه نفس ، ثم حذف الهاء. وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها قال : لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت ، ولا رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال : ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد. وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه. وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج.
ومعنى {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول : جزى عني هذا الأمر يجزي ، كما تقول قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به ، قال الشاعر :
فإن الغدر في الأقوام عار ... وأن الحر يجزأ بالكراع
أي يكتفي بها وفي حديث عمر "إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك" يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس. وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الأضحية "لن تجزي عن أحد بعدك" أي لن تغني. فمعنى لا تجزي لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء ، فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني ،
(1/377)
________________________________________
بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق ، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" . خرجه البخاري. ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم. وقرئ "تجزئ" بضم التاء والهمز. ويقال جزى وأجزى بمعنى واحد وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ ، وأجزى بمعنى أغنى وكفى. أجزأني الشيء يجزئني : أي كفاني قال الشاعر
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزئ إلا كامل وابن كامل
الثالثة : قوله تعالى : {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان ، تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها ، تقول منه : شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة واستشفعته إلى فلان سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة : مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق ، وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما : الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول ولم يبد من
(1/378)
________________________________________
أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة.
فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر : 18] قالوا : وأصحاب الكبائر ظالمون وقال {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء : 123] {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة : 48] قلنا : ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس ، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر : 48] وقال {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء : 28] وقال {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ : 23] فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله {يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء : 48] وقوله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
فإن قالوا : فقد قال تعالى : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال {لِمَنِ ارْتَضَى} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون ، بدليل قوله {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم 87] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما عهد الله مع خلقه قال "أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا" وقال المفسرون إلا من قال لا إله إلا الله
فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم ، وقال {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر : 7] وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا : عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة
(1/379)
________________________________________
فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} أي من الشرك "واتبعوا سبيلك" أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء : 48].
فإن قالوا جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم.
قلنا : إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده انه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم "لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل : ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" .
الخامسة : قوله تعالى : {وَلا يُقْبَلُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو "تقبل" بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع وقال الأخفش حسن التذكير لأنك قد فرقت ، كما تقدم في قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة : 37].
السادسة : قوله تعالى : {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فداء. والعدل "بفتح العين" الفداء و"بكسرها" المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر. ويقال : عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل "بالكسر" هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير
قوله تعالى : {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي يعانون والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران : 52] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وانتصر الرجل أنتقم والنصر الإتيان يقال نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر :
(1/380)
________________________________________
إذا دخل الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر
والنصر المطر يقال نصرت الأرض مطرت والنصر العطاء قال :
إني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصرا نصرا
وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي.
3الآية : 49 {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}
فيها ثلاثة عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} "إذ" في موضع نصب عطف على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم. والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة : 11] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال "نجيناكم" لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين. ومعنى "نجيناكم" ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرىء "وإذ نجيتكم" على التوحيد.
الثانية : قوله تعالى : {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} "آل فرعون" قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه. خلافا للرافضة حيث قالت : إن آل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة
(1/381)
________________________________________
والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة : 50] {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر : 46] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود : 46] وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول "ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين" وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صلت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : "اللهم صل عليهم" فأتاه أبي بصدقته فقال "اللهم صل على آل أبي أوفى"
الثالثة : اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا ؟ فقال الكسائي : إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه في البلدان قالوا : أهل المدينة وآل المدينة.
(1/382)
________________________________________
الرابعة : واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا ؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبدالمطلب :
لا هم إن العبد يمـ ... ـنع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
وقال ندبة :
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
الحقيقة [بقافين] ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته
الخامسة : واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت : أهيل وقال المهدوي : أصله أول وقيل : أهل ، قبلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي. وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس وقال أبو الحسن بن كيسان : إذا جمعت آلا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.
السادسة : قوله تعالى : {فِرْعَوْنَ} قيل : إنه اسم ذلك الملك بعينه وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي : وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون وكان فارسيا من أهل اصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن
(1/383)
________________________________________
وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفي الحديث "أخذنا فرعون هذه الأمة" "وفرعون" في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته
السابعة : قوله تعالى : {يَسُومُونَكُمْ} قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال الأخفش : وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم
الثامنة : قوله تعالى : {سُوءَ الْعَذَابِ} مفعول ثان لـ "يسومونكم" ومعناه أشد العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب.
التاسعة : قوله تعالى : {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} "يذبحون" بغير واو على البدل من قومه "يسومونكم" كما قال أنشده سيبويه :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
قال الفراء وغيره "يذبحون" بغير واو على التفسير لقوله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة : 49] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره : {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان : 68 - 69] وفي سورة إبراهيم {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو لأن المعنى
(1/384)
________________________________________
يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم
قلت قد يحتمل أن يقال إن الواو زائدة بدليل سورة "البقرة" والواو قد تزاد كما قال :
فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى
أي قد انتحى وقال آخر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير
العاشرة : قوله تعالى : {يُذَبِّحُونَ} قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيصن "يذبحون" بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح والذباح تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح أحد السعود والمذابح المحاريب والمذابح جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل وقالت طائفة {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله "نساءكم" والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم
الحادية عشرة : نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله قال الطبري : ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.
قلت : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقال الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود وفي المأمور
(1/385)
________________________________________
قولان : أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا يقتل السيد وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة يقتلان جميعا وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك يقتل لا واحد منهما عنده والله أعلم
الثانية عشرة : قرأ الجمهور "يذبحون" بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن "يذبحون" بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رآه في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب.
(1/386)
________________________________________
الثالثة عشرة : قوله تعالى : {وَفِي ذَلِكُمْ} إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و{بَلاءٌ} نعمة ومنه قوله تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال : 17] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة بـ "ذلكم" إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار أبتليته وبلوته قاله النحاس..
الآية 50 {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} "إذا" في موضع نصب و"فرقنا" فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه : {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} [المرسلات : 4] يعني الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال : 41] يعني يوم بدر كان ، فيه فرق بين الحق والباطل ومنه {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء : 106] أي فصلناه وأحكمناه. وقرأ الزهري "فرقنا" بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى "بكم" أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه "فانفلق".
(1/387)
________________________________________
قوله تعالى : {الْبَحْرَ} البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره ، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة "وإن وجدناه لبحرا" والبحر الماء الملح ويقال أبحر الماء ملح قال نصيب
وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني ... إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
والبحر : البلدة يقال هذه بحرتنا أي بلدتنا. قال الأموي والبحر السلال يصيب الإنسان. ويقولون لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال إن لله ملكا يقال له صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم في ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب.
قوله تعالى : {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة. وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما "وإذ نجيناكم" "فأنجيناكم".
قوله تعالى : {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} يقال غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم :
من بين مقتول وطاف غارق
وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى والتغريق : القتل قال الأعشى :
ألا ليت قيسا غرقته القوابل
وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة :
(1/388)
________________________________________
إذا غرقت أرباضها ثني بكرة ... بتيهاء لم تصبح رؤوما سلوبها
والأرباض الحبال والبكرة الناقة الفتية وثنيها بطنها الثاني ، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل
فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال : لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين كما قال تعالى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء : 60] وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف. وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف وقيل : إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت ، ثم قال : لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط ، قال : فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر لقد استكبرت يا موسى وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك قال : ومع موسى رجل على حصان له قال : فقال له ذلك الرجل : أين أمرت يا نبي الله ؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه قال فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمر ت يا نبي الله ؟ فقال ما أمرت
(1/389)
________________________________________
إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الأعراف 160] فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء 63] فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا ، لكل سبط طريق يتراءون ، وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفلق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد ذكره ابن أبي شيبة أيضا وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة "يونس والشعراء" زيادة بيان أن شاء الله تعالى.
فصل : ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم "ما هذا اليوم الذي تصومونه" فقالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : "أنتم أحق بموسى منهم فصوموا".
مسألة : ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبره به اليهود. وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم.
(1/390)
________________________________________
فإن قيل : يحتمل أن تكون قريش إنما صامته بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال "نحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه اتباعا لموسى. "وأمر بصيامه" أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار قلنا : هذه شبهة من قال : إن النبي صلى لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في "الأنعام" عند قوله تعالى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90]
مسألة : اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر ؟ فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له : أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن. ثم أردفه : أنبأنا قتيبة أنبأنا عبدالوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي : وروي عن ابن عباس أنه قال : صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره : وقول ابن عباس للسائل "فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما" ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا : فصيام اليومين جمع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له : هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط يبينه ما خرجه ابن ماجة في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع" .
(1/391)
________________________________________