فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 30 سبتمبر - 17:11 | |
| وقيل : عليه القضاء والكفارة. وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا. قلت : هذا حسن. الموفية عشرين - قوله تعالى : {إِلَى اللَّيْلِ} إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم : "إذا جاء الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم" . وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى ، لأنه مقتضى الكتاب والسنة. الحادية والعشرون - فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء. وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : لا بد من قضاء ؟ . قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول اللّه تعالى : {إِلَى اللَّيْلِ} يرد هذا القول ، واللّه أعلم. الثانية والعشرون - فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء ، قال مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال ابن المنذر. وقال الكيا الطبري : وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال مجاهد وجابر (2/328) ________________________________________ بن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه. الثالثة والعشرون - قوله تعالى : {إِلَى اللَّيْلِ} فيه ما يقتضي النهي عن الوصال ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل عبدالله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى اللّه عليه وسلم : " إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم" . خرجه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس : "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم" . خرجه مسلم أيضا. وقال صلى اللّه عليه وسلم : " إياكم والوصال إياكم والوصال" تأكيدا في المنع لهم منه ، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى اللّه عليه وسلم : "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" . خرجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر" قالوا : فإنك تواصل يا رسول اللّه ؟ قال : "لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم وساق يسقيني" . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو الغاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد (2/329) ________________________________________ وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : "لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" . فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء اللّه وألزموا أنفسهم أعلى المقامات واللّه أعلم. قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة : أنه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : " أطعم وأسقى" المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى اللّه عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" . وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى. وباللّه التوفيق. الرابعة والعشرون : ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه أبو داود عن أنس قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (2/330) ________________________________________ يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أفطر قال : "لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم" . وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا أفطر : "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه" . خرجه أبو داود أيضا. وقال الدارقطني : تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن. وروى ابن ماجة عن عبدالله بن الزبير قال : أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال : " أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة" . وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا" . وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد" . قال ابن أبي مليكة : سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه" . الخامسة والعشرون : ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام ، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر" هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : " جعل اللّه الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة" . رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان (2/331) ________________________________________ ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان. وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي ، وكرهه أبو يوسف. السادسة والعشرون : قوله تعالى : {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن البصري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر : وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال مالك والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قال المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم. السابعة والعشرون : قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز : عكف النبيط يلعبون الفنزجا وقال الشاعر : وظل بنات الليل حولي عكفا ... عكوف البواكي بينهن صريع ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع (2/332) ________________________________________ مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه. الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقول اللّه تعالى : {فِي الْمَسَاجِدِ} واختلفوا في المراد بالمساجد ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء ، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها. وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي مالك. وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما. وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي مالك ، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر. وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح" . قال الدارقطني : والضحاك لم يسمع من حذيفة. التاسعة والعشرون : وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة ، فإن قال : لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة. وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال سحنون. قال الشافعي : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما. قال الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره. وقال بعض (2/333) ________________________________________ أصحاب أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول داود بن علي وابن علية ، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول اللّه تعالى في كتابه : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى قوله : {فِي الْمَسَاجِدِ} وقالا : فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا. واحتجوا بما رواه عبدالله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : "اعتكف وصم" . أخرجه أبو داود. وقال الدارقطني : تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "لا اعتكاف إلا بصيام" . قال الدارقطني : تفرد به سويد بن عبدالعزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها. الموفية ثلاثين : وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن عائشة قالت : "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه (2/334) ________________________________________ فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن علي وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة. وقال الشافعي : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس. وقال الأوزاعي كما قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له. الحادية والثلاثون : واختلفوا في خروجه للجمعة ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع. وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه. وقال عبدالملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه. قلت : وهو صحيح لقوله تعالى : {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فعم. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان. (2/335) ________________________________________ الثانية والثلاثون : المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ، لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك. الثالثة والثلاثون : روى مسلم عن عائشة قالت : "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه..." الحديث. واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه ، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه ، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين. وقال أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر. وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبدالملك ، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم. وقال الشافعي : إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر. وقال الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء. وروي مثل ذلك عن أبي يوسف ، وبه قال القاضي عبدالوهاب ، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل. قلت : وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته. الرابعة والثلاثون : استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال أحمد. وقال الشافعي والأوزاعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه سحنون عن ابن القاسم ، لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي (2/336) ________________________________________ بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. وقال سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه. وقال ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر ، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر ، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات ، فيها لممن اقتصر عليها كفاية ، واللّه الموفق للهداية. الخامسة والثلاثون : قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي هذه الأحكام حدود اللّه فلا تخالفوها ، "فتلك" إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي. والحدود : الحواجز. والحد : المنع ، ومنه سمي الحديد حديدا ، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسجان حدادا ، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها ، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود اللّه لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج منها ما هو منها ، ومنها سميت الحدود في المعاصي ، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة ، لأنها تمتنع من الزينة. السادسة والثلاثون : قوله تعالى : {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها. والآيات : العلامات الهادية إلى الحق. و {لَعَلَّهُمْ} ترج في حقهم ، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره اللّه للهدى ، بدلالة الآيات التي تتضمن أن اللّه يضل من يشاء. الآية : 188 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه ثماني مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} قيل : إنه نزل في عبدان بن أشوع الحضرمي ، ادعى مالا على امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، (2/337) ________________________________________ فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت هذه الآية ، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه. الثانية : الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والمعنى : لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا : القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه ، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه ، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة ، على ما يأتي بيانه في سورة "النساء". وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه ، كما قال : {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة : 85]. وقال قوم : المراد بالآية {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء : 29] أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة ، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين. الثالثة : من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل ، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل ، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي ، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال ، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا ، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها" . وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن ، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج ، إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج ، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده ، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره (2/338) ________________________________________ سواء ، لأن قضاء القاضي قطع عصمتها ، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا ، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. واحتج بحكم اللعان وقال : معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب ، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما ، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام : "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه..." الحديث. الرابعة : وهذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز ، فيستدل عليه بقوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء : 29]. فجوابه أن يقال له : لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل ، وحينئذ يدخل في هذا العموم ، فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز ، وليس فيها تعيين الباطل. الخامسة : قوله تعالى : {بِالْبَاطِلِ} الباطل في اللغة : الذاهب الزائل ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا ، وجمع الباطل بواطل. والأباطيل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللّهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى : {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت : 42] قال قتادة : هو إبليس ، لا يزيد في القرآن ولا ينقص. وقوله : {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى : 24] يعني الشرك والبطلة : السحرة. السادسة : قوله تعالى : {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الآية. قيل : يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة ، عن ابن عباس والحسن. وقيل : هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء ، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له الظاهر حجة. وقال الزجاج : تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال : أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال : أدلى دلوه : أرسلها. ودلاها : أخرجها. وجمع الدلو والدلاء : أدل ودلاء ودلي. والمعنى في الآية : لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وهو كقوله : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة : 42]. وهو من قبيل قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل : (2/339) ________________________________________ المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها ، فالباء إلزاق مجرد. قال ابن عطية : وهذا القول يترجح ، لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان : تدلوا من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة. قلت : ويقوي هذا قوله : {وَتُدْلُوا بِهَا} تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفي مصحف أبي "ولا تدلوا" بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيد جزم "تدلوا" في قراءة الجماعة. وقيل : "تدلوا" في موضع نصب على الظرف ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه "أن" مضمرة. والهاء في قوله "بها" ترجع إلى الأموال ، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر ، فقوي القول الثاني لذكر الأموال ، واللّه أعلم. في الصحاح. "والرشوة معروفة ، والرشوة بالضم مثله ، والجمع رُشى ورِشى ، وقد رشاه يرشوه. وارتشى : أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه : طلب الرشوة عليه". قلت : فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه. السابعة : قوله تعالى : { لِتَأْكُلُوا } نصب بلام كي. { فَرِيقاً } أي قطعة وجزءا ، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق : القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : لتأكلوا أموال فريق من الناس. { بِالإثْمِ } معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله. { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي بطلان ذلك وإثمه ، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية. الثامنة : اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك ، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا : إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجبائي حيث قال : إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال : يفسق بأخذ خمسة دراهم. وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال : يفسق بأخذ درهم فما (2/340) ________________________________________ فوق ، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الأمة ، قال صلى اللّه عليه وسلم : "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" الحديث ، متفق على صحته. الآية : 189 {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فيه أثنا عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال معاذ : يا رسول اللّه ، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ، ثم ينتقص حتى يعود كما كان ؟ فأنزل اللّه هذه الآية. وقيل : إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم. الثانية : قوله تعالى : {عَنِ الأَهِلَّةِ} الأهلة جمع الهلال ، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر ، غير كونه هلالا في آخر ، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها ، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه ، كما قال : أخوان من نجد على ثقة ... والشهر مثل قلامة الظفر وقيل : سمي شهرا لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر ، وليلتين من أوله. وقيل : لثلاث من أوله. وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل : بل هو هلال حتى يبهر بضوئه (2/341) ________________________________________ السماء ، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس : وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير : وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل ويقال : أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري : "وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا : استهل بمعنى تبين ، ولا يقال : أهل ويقال : أهللنا عن ليلة كذا ، ولا يقال : أهللناه فهل ، كما يقال : أدخلناه فدخل ، وهو قياسه" : قال أبو نصر عبدالرحيم القشيري في تفسيره : ويقال : أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا. الثالثة : قال علماؤنا : من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال ، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي. قوله تعالى : {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية ، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء : 12] على ما يأتي. وقوله : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس : 5]. وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام. الرابعة : وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم : إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة ، واحتجوا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير توقيت. وهذا (2/342) ________________________________________ لا دليل فيه ، لأنه عليه السلام قال لليهود : "أقركم فيها ما أقركم اللّه" . وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له ، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه ، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات ، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة ، وقال به علماء الأمة. الخامسة : قوله تعالى : { مَوَاقِيتُ } المواقيت : جميع الميقات وهو الوقت. وقيل : الميقات منتهى الوقت. و"مواقيت" لا تنصرف ، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية جمع ، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت "قوارير" في قوله : {قَوارِيراً} [الإنسان : 16] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي ، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم. السادسة : قوله تعالى : { وَالْحَجِّ } بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وفي قوله : {حَجَّ الْبَيْتَ} [آل عمران : 97] في "آل عمران". سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى وقيل : الفتح مصدر ، والكسر الاسم. السابعة : أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته ، بخلاف ما رأته العرب ، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور ، فأبطل اللّه قولهم وفعلهم ، على ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء اللّه تعالى. الثامنة : استدل مالك رحمه اللّه وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية ، لأن اللّه تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك ، فصح أن يحرم في جميعها بالحج ، وخالف في ذلك الشافعي ، لقوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة : 197] على ما يأتي. وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس ، وبعضها مواقيت للحج ، وهذا كما تقول : الجارية لزيد وعمرو ، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو ، ولا يجوز أن يقال : جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال : إن ظاهر قوله {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ (2/343) ________________________________________ وَالْحَجِّ} يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج ، ولو أراد التبعيض لقال : بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول : إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح ، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل ، وليس كذلك في مسألتنا ، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو ، فبطل ما قالوه. التاسعة : لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك ، فقال مالك : ذلك جائز لأنه معروف ، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد : أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز ، لأن اللّه تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس ، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر : قول ابن عباس صحيح. العاشرة : إذا رئي الهلال كبيرا فقال علماؤنا : لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال : خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال : تراءينا الهلال ، فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين. قال : فلقينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال : أي ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا : ليلة كذا وكذا. فقال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "إن اللّه مده للرؤية" فهو لليلة رأيتموه. الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها ، فنزلت الآية فيهما جميعا. وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين (2/344) ________________________________________ السماء حائل ، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك ، أي من بعد إحرامه من بيته ، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء ، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر ، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا ، فرد عليهم فيها ، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج ، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام الخيمة ، إلا من كان من الحمس. وروى الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لم دخلت وأنت قد أحرمت" . فقال : دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إني أحمس" أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية ، وقال ابن عباس وعطاء وقتادة ، وقيل : إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري. والحمس : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج : وكم قطعنا من قفاف حمس أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها ، فقيل ما ذكرنا ، وهو الصحيح. وقيل : إنه النسيء وتأخير الحج به ، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه ، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه ، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. (2/345) | |
|
ابوايه دويمابي برتبة عريف
عدد الرسائل : 69
| موضوع: رد: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 30 سبتمبر - 21:15 | |
| بارك الله فيك أستاذي فوزي وجعل أجرها في ميزان حسناتك يارب | |
|
أبوآيه دويمابي برتبة مقدم
عدد الرسائل : 1150
| موضوع: رد: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 17 أكتوبر - 16:16 | |
| - ابوايه كتب:
- بارك الله فيك أستاذي فوزي وجعل أجرها في ميزان حسناتك يارب
| |
|