________________________________________
الرابعة : هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة ، كالحج والجهاد. ومن السنة حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام ، أخرجهما الأئمة : مالك وغيره. روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس ، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام ، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس. هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار ، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء ، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي اللّه عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسنة يرد هذا القول ، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع. وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها ، وأما في أداء الفرائض فلا. ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن اللّه تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ، فسهل اللّه سبيله بالفلك ، قاله ابن العربي. قال أبو عمر : وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر ، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة يرد قوله ، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ، فلذلك كره مالك ذلك. وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال : والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالا ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص بحرا من بر
(2/195)
________________________________________
قلت : فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا : العبادة والتجارة ، فهي الحجة وفيها الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق ، وآخر يشق عليه ويضعف به ، كالمائد المفرط الميد ، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ، فالأول ذلك له جائز ، والثاني يحرم عليه ويمنع منه.ولا خلاف بين أهل العلم هي :
الخامسة : أن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون.
السادسة : قوله تعالى : {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح ، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا. وقد قال بعض من طعن في الدين : إن اللّه تعالى يقول في كتابكم : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام : 38] فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}
السابعة : قوله تعالى : {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون : 18].
الثامنة : قوله تعالى : {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي فرق ونشر ، ومنه {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة : 4] ودابة تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير ، وهو مردود ،
(2/196)
________________________________________
قال اللّه تعالى : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود : 6] فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته ، قال الأعشى :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال علقمة بن عبدة :
صواعقها لطيرهن دبيب
التاسعة : قوله تعالى : {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تصريفها : إرسالها عقيما وملقحة ، وصرا ونصرا وهلاكا ، وحارة وباردة ، ولينة وعاصفة. وقيل : تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنهما ما يضر بهما ، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا. روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "الريح من روح اللّه تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها" . وأخرجه أيضا ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا اللّه من خيرها وتعوذوا باللّه من شرها" . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" . المعنى : أن اللّه تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح ، والإضافة من طريق الفعل. والمعنى : أن اللّه تعالى جعلها كذلك. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن اللّه سبحانه وتعالى
(2/197)
________________________________________
فرج عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب ، فقال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب : 9]. ويقال : نفس اللّه عن فلان كربة من كرب الدنيا ، أي فرج عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه : "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة" . أي فرج عنه. وقال الشاعر :
كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على كبد مهموم تجلت هموهما
قال ابن الأعرابي : النسيم أول هبوب الريح. وأصل الريح روح ، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح ، ولا يقال : أرياح ، لأنها من ذوات الواو ، وإنما قيل : رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة "وتصريف الأرواح".
العاشرة : قوله تعالى : {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} قرأ حمزة والكسائي "الريح" على الإفراد ، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية ، لا خلاف بينهما في ذلك 0 ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى. وأفرد حمزة {الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر : 22]. وأفرد ابن كثير {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [الفرقان : 48] في الفرقان وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع ، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع. والذي ذكرناه في الروم هو الثاني {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم : 48]. ولا خلاف بينهم في {الرَّيَاحَ مُبَشِّراتٍ} [الروم : 46]. وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن ، سوى {تَهوِي بِه الرَّيحُ} [الحج : 31] و { الرَّيحَ العَقِيم} [الذاريات : 41] فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد. فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن ، نحو : "الرياح مبشرات" والريح العقيم" فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس : 22]. وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح : "اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا". وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم
(2/198)
________________________________________
واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح. فأفردت مع الفلك في "يونس" ، لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب.
الحادية عشرة : قال العلماء : الريح تحرك الهواء ، وقد يشتد ويضعف. فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح : "الصبا". وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح : "الدبور". وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها : "ريح الجنوب". وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها : "ريح الشمال". ولكل واحدة من هذه الرياح طبع ، فتكون منفعتها بحسب طبعها ، فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن اللّه تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء ، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا ، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه ، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها ، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع ، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة ، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة ، لأن الهواء في الصيف حار يابس ، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس ، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة ، لأن الهواء في الخريف بارد يابس ، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار ، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار. فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة ، ومباين له في الأخرى وهو اليبس ، لأن الهواء في الشتاء بارد رطب ، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح ، فلا تتحرك إلا أن يعيد اللّه تبارك وتعالى إليها حرارة
(2/199)
________________________________________
الربيع ، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن اللّه سبحانه وتعالى. وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه ، إلا أن الأصول هذه الأربع. فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى "النكباء".
الثانية عشرة : قوله تعالى : {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء 0 وسحبت ذيلي سحبا. وتسحب فلان على فلان : اجترأ. والسحب : شدة الأكل والشرب. والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر. وقيل : تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب ، روى مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : " بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبدالله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبدالله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه" . وفي رواية "وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل" . وفي التنزيل : {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر : 9] ، وقال : {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف : 57] وهو في التنزيل كثير. وخرج ابن ماجة عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول : "اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به" فإن أمطر قال : " اللهم سيبا نافعا" مرتين أو ثلاثا ، وإن كشفه اللّه ولم يمطر حمد اللّه على ذلك. أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه
(2/200)
________________________________________
وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة : فسألته فقال : "إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي" . ويقول إذا رأى المطر : "رحمة". في رواية فقال : "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف : 24]. فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها ، واللّه تعالى أعلم. فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال ، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح ، لقوله "بين" وهي مع ذلك مسخرة محمولة ، وذلك اعظم في القدرة ، كالطير في الهواء ، قال اللّه تعالى : {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ} [النحل : 79] وقال : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} [الملك : 19].
الثالثة عشرة : قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، رواه عنه ابن عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبدالله بن خبيب الجهني قال : رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة ، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس : هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال : نعم ، قال : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قال : سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت عاما قابلا غيره ؟ قال نعم ، سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء. قال ابن عباس : وقد سمعت ذلك من كعب
الرابعة عشرة : قوله تعالى : {لآياتٍ} أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله : {وإلهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه ، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها" أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها.
فإن قيل : فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها. قيل له : هذا محال ، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة ، فإن أحدثتها وهي
(2/201)
________________________________________
معدومة كان محالا ، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد ، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك ، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج ، وذلك محال ، وما أدى إلى المحال محال. ثم أن اللّه تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن ، فقال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس : 101] والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ، وقال : {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف : 185] يعني بالملكوت الآيات. وقال : {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات : 21]. يقول : أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون : 12] يعني آدم عليه السلام ، {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} أي جعلنا نسله وذريته {نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون : 13] إلى قوله {تُبْعَثُونَ} . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة. كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما ، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال ، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة ، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب ، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه ، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر. وقال بعض الحكماء : إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ، الذي هو بدن الإنسان ، ولذلك قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين : 4] وقال : {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
(2/202)
________________________________________
تُبْصِرُونَ} [الذاريات : 21]. فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة ، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها ، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض ، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن ، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس ، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء. وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض ، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار ، لأن العروق تستمد من الكبد. ومثانته بمنزلة البحر ، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار ، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان ، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد ، لا إله إلا هو.
الآية 165 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}
لما أخبر اللّه سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا ، وواحدها ند ، وقد تقدم. والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة اللّه مع عجزها ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : {يحبونهم كحب الله} أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق ، قاله المبرد ، وقال معناه الزجاج. أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. وقال ابن عباس والسدي : المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي اللّه. وجاء الضمير في "يحبونهم" على هذا على الأصل ، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام
(2/203)
________________________________________
ضمير من يعقل على غير الأصل. وقال ابن كيسان والزجاج أيضا : معنى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يسوون بين الأصنام وبين اللّه تعالى في المحبة. قال أبو إسحاق : وهذا القول الصحيح ، والدليل على صحته : {والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُ حُباً لله} وقرأ أبو رجاء "يحبونهم" بفتح الياء. وكذلك ما كان منه في القرآن ، وهي لغة ، يقال : حببت الرجل فهو محبوب. قال الفراء : أنشدني أبو تراب :
أحب لحبها السودان حتى ... حببت لحبها سود الكلاب
و"من" في قوله "من يتخذ" في موضع رفع بالابتداء ، و"يتخذ" على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن "يتخذون" على المعنى ، و"يحبونهم" على المعنى ، و"يحبهم" على اللفظ ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في "يتخذ" أي محبين ، وإن شئت كان نعتا للأنداد ، أي محبوبة. والكاف من "كحب" نعت لمصدر محذوف ، أي يحبونهم حبا كحب اللّه. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم. وقيل : إنما قال {والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُ حُباً لله} لأن اللّه تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه. ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم ، قال اللّه تعالى : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة : 54]. وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة "آل عمران" إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى : {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء ، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء ، وهو اختيار أبي عبيد. وفي الآية إشكال وحذف ، فقال أبو عبيد : المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا. و"يرى" على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب "معاني القرآن" له : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب "إعراب القرآن" له : وروي عن محمد بن يزيد أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة ، لأنه يقدر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه اللّه تعالى ، ولكن التقدير وهو قول الأخفش :
(2/204)
________________________________________
ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله. و"يرى" بمعنى يعلم ، أي لو يعلمون حقيقة قوة اللّه عز وجل وشدة عذابه ، فـ "يرى" واقعة على أن القوة لله ، وسدت مسد المفعولين. و"الذين" فاعل "يرى" ، وجواب "لو" محذوف ، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة ، كما قال عز وجل. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام : 30] ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام : 27] ولم يأت لـ "لو" جواب. قال الزهري وقتادة : الإضمار أشد للوعيد ، ومثله قول القائل : لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ومن قرأ بالتاء فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله ، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في "أن". وتقدير آخر : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا. وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمد للظالم هذا. وقيل : "أن" في موضع نصب مفعول من أجله ، أي لأن القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
أي لادخاره ، والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت "إذ" وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه. وقرأ ابن عامر وحده "يرون" بضم الياء ، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر "إن القوة ، وإن اللّه" بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول ، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله. وثبت بنص هذه الآية القوة لله ، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة ، تعالى اللّه عن قولهم.
الآية : 166 {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}
(2/205)
________________________________________
قوله تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} يعني السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر. عن قتادة وعطاء والربيع. وقال قتادة أيضا والسدي : هم الشياطين المضلون تبرؤوا من الإنس. وقل : هو عام في كل متبوع. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا. وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة.
قلت : كلاهما حاصل ، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان ، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال.
قوله تعالى : {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره ، عن مجاهد وغيره. الواحد سبب ووصلة. وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا وقال السدي وابن زيد : إن الأسباب أعمالهم. والسبب الناحية ، ومنه قول زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
الآية : 167 {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} "أن" في موضع رفع ، أي لو ثبت أن لنا رجعة {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} جواب التمني. والكرة : الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، أي قال الأتباع : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم {كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} أي تبرأ كما ، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نصبا على الحال ، تقديرها متبرئين ، والتبرؤ الانفصال.
قوله تعالى : {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} الكاف في موضع رفع ، أي الأمر كذلك. أي كما أراهم اللّه العذاب كذلك يريهم اللّه أعمالهم. و {يُرِيهِمُ اللَّهُ} قيل :
(2/206)
________________________________________
هي ، من رؤية البصر ، فيكون متعديا لمفعولين : الأول الهاء والميم في "يريهم" ، والثاني "أعمالهم" ، وتكون "حسرات" حال. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب ، فتكون "حسرات" المفعول الثالث. "أعمالهم" قال الربيع : أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدي : الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة ، ورويت في هذا القول أحاديث. قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون. وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها ، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. والحسرة واحدة الحسرات ، كتمرة وتمرات ، وجفنة وجفنات ، وشهوة وشهوات. هذا إذا كان اسما ، فإن نعته سكنت ، كقولك : ضخمة وضخمات ، وعبلة وعبلات. والحسرة أعلى درجات الندامة على شيء فائت. والتحسر : التلهف ، يقال : حسرت عليه "بالكسر" أحسر حسرا وحسرة. وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته ، كالبعير إذا عيي. وقيل : هي مشتقة من حسر إذا كشف ، ومنه الحاسر في الحرب : الذي لا درع معه. والانحسار. الانكشاف.
قوله تعالى : {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة ، لهذه الآية ولقوله تعالى : {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف : 40]. وسيأتي.
الآية : 168 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
وفيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قيل : إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام ، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال ، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي : الطيب المستلذ ، فهو
(2/207)
________________________________________
تنويع ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في "الأنعام" و"الأعراف" إن شاء اللّه تعالى.
الثانية : قوله تعالى : {حَلالاً طَيِّباً} "حلالا" حال ، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبدالله : النجاة في ثلاثة : أكل الحلال ، وأداء الفرائض ، والاقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو عبدالله الساجي واسمه سعيد بن يزيد : خمس خصال بها تمام العلم ، وهي : معرفة اللّه عز وجل ، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله ، والعمل على السنة ، وأكل الحلال ، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل : ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم ، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال : الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة.
الثالثة : قوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا} نهي {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} "خطوات" جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء : الخطوات جمع خطوة ، بالفتح. وخطوة "بالضم" : ما بين القدمين. وقال الجوهري : وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات ، والكثير خطا. والخطوة "بالفتح" : المرة الواحدة ، والجمع خطوات "بالتحريك" وخطاء ، مثل ركوة وركاء ، قال امرؤ القيس :
لها وثبات كوثب الظباء ... فواد خطاء وواد مطر
وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير "خطوات" بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش "خطؤات" بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش : وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة ، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور : ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله ، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس : "خطوات الشيطان" أعماله. مجاهد : خطاياه. السدي : طاعته. أبو مجلز : هي النذور في المعاصي.
(2/208)
________________________________________
قلت : والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في "الشيطان" مستوفى.
الرابعة : قوله تعالى : {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أخبر تعالى بأن الشيطان عدو ، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم ، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم ، وقد أمر اللّه تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل : {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 169] وقال : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة : 268] وقال : { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء : 60] وقال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة : 91] وقال : {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص : 15] وقال : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6]. وهذا غاية في التحذير ، ومثله في القرآن كثير. وقال عبدالله بن عمر : إن إبليس موثق في الأرض السفلى ، فإذا تحرك فإن كل شر الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه : "وآمركم أن تذكروا اللّه فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه" الحديث. وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب.
الآية : 169 {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن ، قال اللّه تعالى : {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك : 27]. وقال الشاعر :
(2/209)
________________________________________
إن يك هذا الدهر قد ساءني ... فطالما قد سرني الدهر
الأمر عندي فيهما واحد ... لذاك شكر ولذاك صبر
والفحشاء أصله قبح المنظر ، كما قال :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح ، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل : إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى ، إلا قوله : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة : 268] فإنه منع الزكاة.
قلت : فعلى هذا قيل : السوء ما لا حد فيه ، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره ، واللّه تعالى أعلم.
قوله تعالى : {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} قال الطبري : يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا. {وَأَنْ تَقُولُوا} في موضع خفض عطفا على قوله تعالى : {بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} .
الآية : 170 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} يعني كفار العرب. ابن عباس : نزلت في اليهود. الطبري : الضمير في "لهم" عائد على الناس من قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا} .
(2/210)
________________________________________
وقيل : هو عائد على "من" في قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة : 165] الآية. وقوله : {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي بالقبول والعمل. {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ألفينا : وجدنا. وقال الشاعر :
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
الثانية : قوله تعالى : {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} الألف للاستفهام ، وفتحت الواو لأنها واو عطف ، عطفت جملة كلام على جملة ، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزامهم هذا ، إذ هي حال آبائهم.
مسألة : قال علماؤنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد ، ونظيرها : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة : 104] الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما ، وذلك أن اللّه سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة ، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك ، وتركوا ما أنزل اللّه على رسوله وأمر به في دينه ، فالضمير في "لهم" عائد عليهم في الآيتين جميعا.
الثالثة : تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم اللّه تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل ، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح ، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين ، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي ، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح.
الرابعة : التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة ، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا ، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا.
(2/211)