[right]قال علماؤنا : "قضى" لفظ مشترك ، يكون بمعنى الخلق ، قال الله تعالى : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت : 12] أي خلقهن. ويكون بمعنى الإعلام ، قال الله تعالى : {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء : 4] أي أعلمنا. ويكون بمعنى الأمر ، كقوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء : 23]. ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام ، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق ، قال الله تعالى : {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص : 29]. ويكون بمعنى الإرادة ، كقوله تعالى : {فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر : 68] أي إذا أراد خلق شيء. قال ابن عطية : "قضى" معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى أمضى ، ويتجه في هذه الآية المعنيان على مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه. وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.
الرابعة- قوله تعالى : {أَمْراً} الأمر واحد الأمور ، وليس بمصدر أمر يأمر. قال علماؤنا : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها :
الأول : الدين ، قال الله تعالى : {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} [التوبة : 48] يعني دين الله الإسلام.
الثاني : القول ، ومنه قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} يعني قولنا ، وقوله : { فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه : 62] يعني قولهم.
الثالث- العذاب ، ومنه قوله تعالى : {لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [إبراهيم : 22] يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع : عيسى عليه السلام ، قال الله تعالى : {قَضَى أَمْراً} [آل عمران : 47] يعني عيسى ، وكان في علمه أن يكون من غير أب.
الخامس : القتل ببدر ، قال الله تعالى : {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر : 78] يعني القتل ببدر ، وقوله تعالى : {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال : 42] يعني قتل كفار مكة.
السادس : فتح مكة ، قال الله تعالى : {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة : 24] يعني فتح مكة.
(2/88)
________________________________________
السابع : قتل قريظة وجلاء بني الضير ، قال الله تعالى : {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة : 109].
الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل : 1].
التاسع : القضاء ، قال الله تعالى : {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس : 3] يعني القضاء.
العاشر : الوحي ، قال الله تعالى : {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة : 5] يقول : ينزل الوحي من السماء إلى الأرض ، وقوله : {يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق : 12] يعني الوحي.
الحادي عشر : أمر الخلق ، قال الله تعالى : {ألا إلى الله تَصَيرُ الأمُورُ} [الشورى : 53] يعني أمور الخلائق.
الثاني عشر : النصر ، قال الله تعالى : {يَقُولُونَ هَلْ لنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءِ} [آل عمران : 154] يعنون النصر ، {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران : 154] يعني النصر.
الثالث عشر : الذنب ، قال الله تعالى : {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق : 9] يعني جزاء ذنبها.
الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى : {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود : 97] أي فعله وشأنه ، وقال : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور : 63] أي فعله.
الخامسة- قوله تعالى : {كُنْ} قيل : الكاف من كينونه ، والنون من نوره ، وهي المراد بقوله عليه السلام : "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق". ويروى : "بكلمة الله التامة" على الإفراد. فالجمع لما كانت هذه الكلمة في الأمور كلها ، فإذا قال لكل أمر كن ، ولكل شيء كن ، فهن كلمات. يدل على هذا ما روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن الله تعالى : "عطائي كلام وعذابي كلام" . خرجه الترمذي في حديث فيه طول. والكلمة على الإفراد بمعنى الكلمات أيضا ، لكن لما تفرقت الكلمة الواحدة في الأمور في الأوقات صارت كلمات ومرجعهن إلى كلمة واحدة. وإنما قيل "تامة" لأن أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف : حرف مبتدأ ، وحرف تحشى به الكلمة ، وحرف يسكت عليه. وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص ، كيد
(2/89)
________________________________________
ودم وفم ، وإنما نقص لعلة. فهي من الآدميين المنقوصات لأنها على حرفين ، ولأنها كلمة ملفوظة بالأدوات. ومن ربنا تبارك وتعالى تامة ، لأنها بغير الأدوات ، تعالى عن شبه المخلوقين.
السادسة- قوله تعالى : {فيكون} قرئ برفع النون على الاستئناف. قال سيبويه. فهو يكون ، أو فإنه يكون. وقال غيره : هو معطوف على "يقول" ، فعلى الأول كائنا بعد الأمر ، وإن كان معدوما فإنه بمنزلة الموجود إذا هو عنده معلوم ، على ما يأتي بيانه. وعلى الثاني كائنا مع الأمر ، واختاره الطبري وقال : أمره للشيء بـ "كن" لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ، ولا موجودا إلا وهو مأمور بالوجود ، على ما يأتي بيانه. قال : ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم : 25]. وضعف ابن عطية هذا القول وقال : هو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود
وتلخيص المعتقد في هذه الآية : أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها ، قادرا مع تأخر المقدورات ، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم ولم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة "كن" : هو قديم قائم بالذات.
وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل : ففي أي حال يقول له كن فيكون ؟ أفي حال عدمه ، أم في حال وجوده ؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا ، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر ، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث ، لأنه موجود حادث ؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة :
أحدها : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود ، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين ، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات
(2/90)
________________________________________
الثاني : أن الله عز وجل عالم هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا ، كقول أبي النجم :
قد قالت الانساع للبطن الحق
ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن ، وكقول عمرو بن حممة الدوسي :
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارا يقال له قع
وكما قال الآخر :
قالت جناحاه لساقيه الحقا ... ونجيا لحمكما أن يمزقا
الآية : 118 {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس : هم اليهود. مجاهد : النصارى ، ورجحه الطبري ، لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال الربيع والسدي وقتادة : مشركو العرب. و"لولا" بمعنى "هلا" تحضيض ، كما قال الأشهب بن رميلة :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
(2/91)
________________________________________
وليست هذه "لولا" التي تعطي منع الشيء لوجود غيره ، والفرق بينهما عند علماء اللسان أن "لولا" بمعنى التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مقدرا ، والتي للامتناع يليها الابتداء ، وجرت العادة بحذف الخبر. ومعنى الكلام هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنعلم أنه نبي فنؤمن به ، أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوته. والآية : الدلالة والعلامة ، وقد تقدم. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} اليهود والنصارى في قول من جعل {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} كفار العرب ، أو الأمم السالفة في قول من جعل {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} اليهود والنصارى ، أو اليهود في قول من جعل "الذين لا يعلمون" النصارى. {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} قيل : في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان. وقال الفراء. "تشابهت قلوبهم" في اتفاقهم على الكفر. {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} تقدم.
الآية : 119 {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}
قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} "بشيرا" نصب على الحال ، "ونذيرا" عطف عليه ، قد تقدم معناهما. {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} قال مقاتل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا" ، فأنزل الله تعالى : {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} برفع تسأل ، وهي قراءة الجمهور ، ويكون في موضع الحال بعطفه على بشيرا ونذيرا والمعنى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسؤول. وقال سعيد الأخفش : ولا تسأل "بفتح التاء وضم اللام" ، ويكون في موضع الحال عطفا على "بشيرا ونذيرا". والمعنى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم ، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم. هذا معنى غير سائل. ومعنى غير مسؤول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار. وقال ابن عباس ومحمد بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ذات يوم : "ليت شعري ما فعل أبواي" . فنزلت هذه الآية ، وهذا على قراءة من قرأ "ولا تسأل" جزما على النهي ، وهي قراءة نافع وحده ، وفيه وجهان :
(2/92)
________________________________________
أحدهما : أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء ، لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان ، وعن المعصية إلى الطاعة.
والثاني : وهو الأظهر ، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته ، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه ، وهذا كما يقال : لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب. وقرأ ابن مسعود "ولن تسأل". وقرأ أبي "وما تسأل" ، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور ، نفى أن يكون مسؤولا عنهم. وقيل : إنما سأل أي أبويه أحدث موتا ، فنزلت. وقد ذكرنا في كتاب "التذكرة" أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به ، وذكرنا قول عليه السلام للرجل : "إن أبي وأباك في النار" وبينا ذلك ، والحمد لله.
الآية : 120 {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
قوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} المعنى : ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا ، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك ، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم. يقال : رضي يرضى رِضا ورُضا ورُضوانا ورِضوانا ومَرضاة ، وهو من ذوات الواو ، ويقال في التثنية : رِضوان ، وحكى الكسائي : رِضَيان. وحكي رضاء ممدود ، وكأنه مصدر راضى يراضي مُراضاة ورِضاء. "تتبع" منصوب بأن ولكنها لا تظهر مع حتى ، قاله الخليل. وذلك أن حتى خافضة للاسم ، كقوله : {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر : 5] وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل البتة ، وما يخفض اسما لا ينصب شيئا. وقال النحاس : "تتبع" منصوب بحتى ، و"حتى" بدل من أن. والملة : اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله.
(2/93)
________________________________________
فكانت الملة والشريعة سواء ، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة ، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله ، والدين ما فعله العباد عن أمره.
الثانية : تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : {مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة ، وبقوله تعالى : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون : 6] ، وبقوله عليه السلام : "لا يتوارث أهل ملتين" على أن المراد به الإسلام والكفر ، بدليل قوله عليه السلام : "لا يرث المسلم الكافر" . وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل ، فلا يرث اليهودي النصراني ، ولا يرثان المجوسي ، أخذا بظاهر قوله عليه السلام : "لا يتوارث أهل ملتين" ، وأما قوله تعالى : {مِلَّتَهُمْ} فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة ، كما تقول : أخذت عن علماء أهل المدينة - مثلا - علمهم ، وسمعت عليهم حديثهم ، يعني علومهم وأحاديثهم.
قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} المعنى ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي ، لا ما يدعيه هؤلاء.
قوله تعالى : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الأهواء جمع هوى ، كما تقول : جمل وأجمال ، ولما كانت مختلفة جمعت ، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم. وفي هذا الخطاب وجهان : أحدهما : أنه للرسول ، لتوجه الخطاب إليه. والثاني : أنه للرسول والمراد به أمته ، وعلى الأول يكون فيه تأديب لأمته ، إذ منزلتهم دون منزلته. وسبب الآية أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدية ، ويعدون النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام ، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأمره بجهادهم.
قوله تعالى : {مِنَ الْعِلْمِ} مثل أحمد بن حنبل عمن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر ، فقيل : بم كفرته ؟ فقال : بآيات من كتاب الله تعالى : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة : 145] والقرآن من علم الله. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.
(2/94)
________________________________________
الآية : 121- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
الآية : 122- {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}
الآية : 123- {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
قوله تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قال قتادة : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والكتاب على هذا التأويل القرآن. وقال ابن زيد : هم من أسلم من بني إسرائيل. والكتاب على هذا التأويل : التوراة ، والآية تعم. و"الذين" رفع بالابتداء ، "آتيناهم" صلته ، "يتلونه" خبر الابتداء ، وإن شئت كان الخبر {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
واختلف في معنى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} فقيل : يتبعونه حق اتباعه ، باتباع الأمر والنهي ، فيحللون حلاله ، ويحرمون حرامه ، ويعملون بما تضمنه ، قاله عكرمة. قال عكرمة : أما سمعت قول الله تعالى : {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس : 2 أي اتبعها ، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما. وقال الشاعر :
قد جعلت دلوي تستتليني
وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال : "يتبعونه حق اتباعه". في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر أحمد ، إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب
(2/95)
________________________________________
تعوذ.وقال الحسن : هم الذين يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقيل : يقرؤونه حق قراءته.
قلت : وهذا فيه بعد ، إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه ، ويفهمون معانيه ، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق.
الآية : 124 {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
فيه عشرون مسألة :
الأولى : لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام ، وأنه الذي بنى البيت ، فكان من حق اليهود - وهم من نسل إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه. والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ومعناه أمر وتعبد. وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم. قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ، لرحمته بالأطفال ، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين يموتون صغارا إلى يوم القيامة.
قلت : ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس. وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة ، والحمد لله.
وإبراهيم هو ابن تاريخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين. وفي التنزيل : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام : 74] وكذلك في صحيح البخاري ، ولا تناقض في ذلك ، على ما يأتي في "الأنعام" بيانه إن شاء الله تعالى. وكان له أربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن ، على ما ذكره السهيلي. وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب تبارك وتعالى
(2/96)
________________________________________
مبتليا معلوم ، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام ، فاعلمه. وقراءة العامة "إبراهيم" بالنصب ، "ربه" بالرفع على ما ذكرنا. وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس ، وزعم أن ابن عباس أقرأه كذلك. والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل ، وفيه بعد ، لأجل الباء في قوله : {بِكَلِمَاتٍ}
الثانية : قوله تعالى : {بِكَلِمَاتٍ} الكلمات جمع كلمة ، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى ، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما سمي عيسى كلمة ، لأنه صدر عن كلمة وهي "كن". وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز ، قاله ابن العربي.
الثالثة : واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال : أحدها : شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما ، عشرة منها في سورة براءة : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة : 112] إلى آخرها ، وعشرة في الأحزاب : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب : 35] إلى آخرها ، وعشرة في المؤمنون : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون : 1] إلى قوله : {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون : 9] وقوله في {سَأَلَ سَائِلٌ} : {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام ، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم : 37]. وقال بعضهم : بالأمر والنهي ، وقال بعضهم : بذبح ابنه ، وقال بعضهم : بأداء الرسالة ، والمعنى متقارب. وقال مجاهد : هي قوله تعالى : إني مبتليك بأمر ، قال : تجعلني للناس إماما ؟ قال نعم. قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم. قال : وأمنا ؟ قال نعم. قال : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم. قال : وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم. وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم. وأصح من هذا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن
(2/97)
________________________________________
ابن طاوس عن ابن عباس في قوله : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الشعر. وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاختتان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء ، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم ، وهو ظاهر القرآن. وروى مطر عن أبي الجلد أنها عشر أيضا ، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم ، وموضع الاستنجاء الاستحداد. وقال قتادة : هي مناسك الحج خاصة. الحسن : هي الخلال الست : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان. قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام.
قلت : وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم الأظفار ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقارا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله. قال غيره : وأول من ثرد الثريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل. وروى معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" .
قلت : وهذه أحكام يجب بيانها والوقف عليها والكلام فيها ، فأول ذلك "الختان" وما جاء فيه.
الرابعة : أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن. واختلف في السن التي اختتن فيها ، ففي الموطأ عن أبي هريرة موقوفا : "وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة". ومثل هذا لا يكون رأيا ، وقد رواه الأوزاعي مرفوعا عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش
(2/98)
________________________________________
بعد ذلك ثمانين سنة" . ذكره أبو عمر. وروي مسندا مرفوعا من غير رواية يحيى من وجوه : "أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم" . كذا في صحيح مسلم وغيره "ابن ثمانين سنة" ، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عكرمة : اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة. قال : ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون ، هكذا قال عكرمة وقال المسيب بن رافع ، ذكره المروزي. و"القدوم" يروي مشددا ومخففا. قال أبو الزناد : القدوم "مشددا" : موضع.
الخامسة : واختلف العلماء في الختان ، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال. وقالت طائفة : ذلك فرض ، لقوله تعالى : {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل : 123]. قال قتادة : هو الاختتان ، وإليه مال بعض المالكيين ، وهو قول الشافعي. واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة ، وقال : لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون. وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب ، والطب ليس بواجب إجماعا ، على ما يأتي في "النحل" بيانه إن شاء الله تعالى. وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" . والحجاج ليس ممن يحتج به.
(2/99)
[justify]