منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن 103798

منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن 103798

منتديات ابناء الدويم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ابناء الدويم

واحة ابناء الدويم
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب الجامع لأحكام القرآن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فوزي عبد القادر موسى عبد
دويمابي برتبة لواء
فوزي عبد القادر موسى عبد


عدد الرسائل : 2478

كتاب الجامع لأحكام القرآن Empty
مُساهمةموضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن   كتاب الجامع لأحكام القرآن I_icon_minitimeالسبت 28 أغسطس - 17:12

[right]________________________________________
الخامسة : سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا ، فقال : " إن من البيان لسحرا" أخرجه مالك وغيره. وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق ، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : "إن من البيان لسحرا" خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسحر. وقيل : خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان ، قاله جماعة من أهل العلم. والأول أصح ، والدليل عليه قوله عليه السلام : "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" ، وقوله : "إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون" . الثرثرة : كثرة الكلام وترديده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار. والمتفيهق نحوه. قال ابن دريد. فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع ، قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء ، كأنه ملأ به فمه.
قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : "إن من البيان لسحرا" فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين ، والحمد لله.
السادسة : من السحر ما يكون كفرا من فاعله ، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه ، قاله أبو نصر عبدالرحيم القشيري. قال أبو عمرو : من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة ، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه ، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها ، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء ، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم ، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به.
(2/45)
________________________________________
السابعة : ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به ، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ، كما قال تعالى : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه : 66] ولم يقل تسعى على الحقيقة ، ولكن قال {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} . وقال أيضا : {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف : 116]. وهذا لا حجة فيه ، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر ، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع ، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون : {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وسورة "الفلق" ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم ، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، الحديث. وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : "إن الله شفاني" . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقا وحقيقة ، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله. وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : الفرما ، فمن كذب به فهو كافر ، مكذب لله ورسوله ، منكر لما علم مشاهدة وعيانا
الثامنة : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على
(2/46)
________________________________________
خيط مستدق ، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك ، ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا ، ولا يكون الساحر مستقلا به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه ، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم : "يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل". فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر. قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب
التاسعة : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه.
العاشرة : في الفرق بين السحر والمعجزة ، قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها ، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة ، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها ، كما تقدم في مقدمة الكتاب.
الحادية عشرة : واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي ، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ، ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله : {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي
(2/47)
________________________________________
وأبي حنيفة. وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " حد الساحر ضربه بالسيف" خرجه الترمذي وليس بالقوي ، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم ، رواه ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب. قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب ، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله ، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك ، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك. قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة ، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا. فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : "حد الساحر ضربه بالسيف" فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا ، فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ...." .
قلت : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى اعلم. وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة أن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار ، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير ، والله تعالى اعلم. وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل ، وإن قال لم أتعمده لم يقتل ، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر. قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين ، أحدهما : أنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام
(2/48)
________________________________________
مؤلف يعظم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني : أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بقول السحر {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} به وبتعليمه ، وهاروت وماروت يقولان : {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وهذا تأكيد للبيان.
احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته ، لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق ، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا ، قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما ، والحجة لذلك قوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر : 85] فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب ، فكذلك هذان.
الثانية عشرة : وأما ساحر الذمة ، فقيل يقتل. وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه. وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك ، فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة : يقتل وإن أسلم. وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب ، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم. وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر : يعاقب ، إلا أن يكون قتل بسحره ، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره. وقال غيره : يقتل ، لأنه قد نقض العهد. ولا يرث الساحر ورثته ، لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل.
الثالثة عشرة : واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور ، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري ، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة. قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر
(2/49)
________________________________________
أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
الرابعة عشرة : أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن ، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم ، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ، ونص الشرع على ثبوته ، قال الله تعالى : {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} وقال : {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء : 82] إلى غير ذلك من الآي ، وسورة "الجن" تقضي بذلك ، وقال عليه السلام : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس ، وأحالوا روحين في جسد ، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم ، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم ، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم ، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء.
الخامسة عشرة : قوله تعالى : {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} "ما" نفي ، والواو للعطف على قوله : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن ، قال الله تعالى : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق : 4]. وقال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ... ت..................
السادسة عشرة : إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل ، فالجواب من وجوه ثلاثة : الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم
(2/50)
________________________________________
الجمع ، كما قال تعالى : {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء : 11] ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا ، على ما يأتي بيانه في "النساء". الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما ، كما قال تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر : 30]. الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68] وقوله : {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران : 68] وقوله : {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة : 98] ، وإما لطيبه كقوله : {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68] ، وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا" ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى اعلم. وقد قيل : إن "ما" عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون "ما" بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت. وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة ، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم ، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم ، فقالوا : سبحانك! ما كان ينبغي لنا ذلك ، قال : فاختاروا ملكين من خياركم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة ، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية "بيدخت" وبالفارسية "ناهيل" وبالعربية "الزهرة" اختصمت إليهما ، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله ، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها ، فرآهما رجل فقتلاه ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به
(2/51)
________________________________________
فعرجت فمسخت كوكبا. وقال سالم عن أبيه عن عبدالله : فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما. وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض. قيل : بابل العراق. وقيل : بابل نهاوند ، وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما ، ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس ، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت.
قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم : 6]. {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء : 26 - 27]. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء : 20]. وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ، ففي الخبر : "أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر". وهذا معنى قول الله تعالى : {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء : 33]. فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم ، ثم إن قول الملائكة : {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} عورة : لا تقدر على فتنتنا ، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين ، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
السابعة عشرة : قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن : "الملكين" بكسر اللام. قال ابن أبزى : هما داود وسليمان. "فما" على هذا القول أيضا نافية ، وضعف هذا القول ابن العربي. وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين ، فـ "ما" على هذا القول مفعولة غير نافية..
(2/52)
________________________________________
الثامنة عشرة : قوله تعالى : {بِبَابِلَ} بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة ، وهي قطر من الأرض ، قيل : العراق وما والاه. وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل. وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين. وقال قوم : هي بالمغرب. قال ابن عطية : وهذا ضعيف. وقال قوم : هو جبل نهاوند ، فالله تعالى اعلم.
واختلف في تسميته ببابل ، فقيل : سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ. وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل ، فبلبل الله ألسنتهم بها ، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد. والبلبلة : التفريق ، قال معناه الخليل. وقال أبو عمر بن عبدالبر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان العربي ، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض.
التاسعة عشرة : روى عبدالله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت" . قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها ، وتكتمك فتنتها ، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها ، والجمع لها والمنع ، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى ، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته ، فالدنيا أسحر منهما ، تأخذ بقلبك عن الله ، وعن القيام بحقوقه ، وعن وعده ووعيده. وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها ، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبك الشيء يعمي ويصم".
الموفيه عشرين : قوله تعالى : {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} لا ينصرف "هاروت" ، لأنه أعجمي معرفة ، وكذا "ماروت" ، ويجمع هواريت ومواريت ، مثل طواغيت ، ويقال : هوارتة وهوار ، وموارتة وموار ، ومثله جالوت وطالوت ، فاعلم. وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف. قال الزجاج : وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل
(2/53)
________________________________________
على الملكين ، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج : وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي ، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا ، فـ "يعلمان" بمعنى يعلمان ، كما قال : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي أكرمنا.
الحادية والعشرون : قوله تعالى : {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} "من" زائدة للتوكيد ، والتقدير : وما يعلمان أحدا. {حَتَّى يَقُولا} نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ؛ ولغة هذيل وثقيف "عتى" بالعين المعجمة والضمير في "يعلمان" لهاروت وماروت. وفي "يعلمان" قولان ، أحدهما : أنه على بابه من التعليم. الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم ، فـ "يعلمان" بمعنى يعلِمْان ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم ، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري. قال كعب بن مالك :
تعلم رسول الله أنك مدركي ... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقال القطامي :
تعلم أن بعد الغي رشدا ... وأن لذلك الغي انقشاعا
وقال زهير :
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما ... فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
وقال آخر :
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. {فَلا تَكْفُرْ} قالت فرقة بتعليم السحر ، وقالت فرقة باستعماله. وحكى المهدوي أنه استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله.
(2/54)
________________________________________
الثانية والعشرون : قوله تعالى : {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال ومثله {كُنْ فَيَكُونُ} . وقيل : هو معطوف على موضع {مَا يُعَلِّمَانِ} ، لأن قوله : {وَمَا يُعَلِّمَانِ} وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم. وقال الفراء : هي مردودة على قوله : {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيتعلمون ، ويكون "فيتعلمون" متصلة بقول {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فيأتون فيتعلمون. قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، فإن أبى أن يرجع قالا له : ائت هذا الرماد فبل فيه ، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء ، وهو الإيمان ، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر ، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه.ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة ، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب ، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب ، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه ، ويحول بين المرء وقلبه ، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام ، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة ، وقد تقدم هذا ، والحمد الله.
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} "ما هم" ، إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود ، وقيل إلى الشياطين. "بضارين به" أي بالسحر. "من أحد" أي أحدا ، ومن زائدة. "إلا بإذن الله" بإرادته وقضائه لا بأمره ، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها. وقال الزجاج : "إلا بإذن الله" إلا بعلم الله. قال النحاس : وقول أبي إسحاق "إلا بإذن الله" إلا بعلم الله غلط ، لأنه إنما يقال في العلم أذن ، وقد أذنت أذنا. ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا.
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} يريه في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا. وقيل : يضرهم في الدنيا ، لأن ضرر السحر
(2/55)
________________________________________
والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ، لأنه يؤدب ويزجر ، ويلحقه شؤم السحر. وباقي الآي بين لتقدم معانيها. "ولقد علموا" لام توكيد. {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} لام يمين ، وهي للتوكيد أيضا. وموضع "من" رفع بالابتداء ، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيعمل بعدها. و"من" بمعنى الذي. وقال الفراء. هي للمجازاة. وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط ، و"من" بمعنى الذي ، كما تقول : لقد علمت ، لمن جاءك ما له عقل. {مِنْ خَلاقٍ} "من" زائدة ، والتقدير ما له في الآخرة خلاق ، ولا تزاد في الواجب ، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب ، واستدلوا بقوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح : 4] والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد. قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة ، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير. وسئل عن قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} فأخبر أنهم قد علموا ؛ ثم قال : {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فأخبر أنهم لا يعلمون ، فالجواب وهو قول قطرب والأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين ، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون. قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون "ولقد علموا" للملكين ، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال : "علموا" كما يقال : الزيدان قاموا. وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود ، ولكن قيل : "لو كانوا يعلمون" أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم ، لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر.
الآية : 103 {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أي اتقوا السحر. {لَمَثُوبَةٌ} المثوبة الثواب ، وهي جواب {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} عند قوم. قال الأخفش سعيد : ليس لـ "لو" هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى ، والمعنى لأثيبوا. وموضع "أن" من قوله : "ولو أنهم" موضع رفع ، أي لو وقع إيمانهم ، لأن "لو" لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا ، لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد له من جواب ، و"أن" يليه فعل. قال محمد بن يزيد :
(2/56)
________________________________________
وإنما لم يجاز بـ "لو" لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل ، فلما لم يكن هذا في "لو" لم يجز أن يجازى بها.
3 الآية : 104 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} ذكر شيئا آخر من جهالات اليهود والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك. وحقيقة "راعنا" في اللغة أرعنا ولنرعك ، لأن المفاعلة من اثنين ، فتكون من رعاك الله ، أي احفظنا ولنحفظك ، وارقبنا ولنرقبك. ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك ، أي فرغ سمعك لكلامنا. وفي المخاطبة بهذا جفاء ، فأمر المؤمنين أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقها. قال ابن عباس : كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا. على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا ، وكان هذا بلسان اليهود سبا ، أي اسمع لا سمعت ، فاغتنموها وقالوا : كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا ، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم ، فقال لليهود : عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه ، فقالوا : أولستم تقولونها ؟ فنزلت الآية ، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه.
الثانية : في هذه الآية دليلان : [أحدهما] على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض ، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض ، وذلك يوجب الحد عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا : التعريض محتمل للقذف وغيره ، والحد مما يسقط بالشبهة. وسيأتي في "النور" بيان هذا ، إن شاء الله تعالى.
[الدليل الثاني] التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه ، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة. والذريعة عبارة عن أمر
(2/57)
________________________________________
غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع. أما الكتاب فهذه الآية ، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم ، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ ، لأنه ذريعة للسب ، وقوله تعالى : {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام : 108] فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك ، وقوله تعالى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف : 163] الآية ، فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا ، أي ظاهرة ، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد ، وكان السد ذريعة للاصطياد ، فمسخهم الله قردة وخنازير ، وذكر الله لنا ذلك معنى التحذير عن ذلك ، وقوله تعالى لآدم وحواء : {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة : 35] وقد تقدم. وأما السنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة ، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير [فذكرتا ذلك] لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" . أخرجه البخاري ومسلم. قال علماؤنا : ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم ، فمضت لهم بذلك أزمان ، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم ، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها ، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك ، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال : "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" وقال : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" . وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" الحديث ، فمنع من الإقدام
(2/58)
________________________________________
على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات ، وذلك سدا للذريعة. وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس". وقال صلى الله عليه وسلم : "إن من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : "نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" . فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء. وقال صلى الله عليه وسلم : "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم" . وقال أبو عبيد الهروي : العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال : فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة ، وهي أهون من الأولى ، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة ، وذلك لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره. وروى ابن وهب عن مالك أن أم ولد لزيد بن الأرقم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبدا بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعته منه بستمائة نقدا ، فقالت عائشة : بئس ما شريت ، وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. ومثل هذا لا يقال بالرأي ، لأن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي ، فثبت أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعوا الربا والريبة. ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريزة.
قلت : فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع ، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها. وليس عند الشافعية كتاب الآجال. لأن ذلك عندهم
(2/59)
________________________________________
عقود مختلفة مستقلة ، قالوا : وأصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها ، وهذا هو الربا بعينه ، فاعلمه.
الثالثة : {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} نهي يقتضي التحريم ، على ما تقدم. وقرأ الحسن "راعنا" منونة. وقال : أي هجرا من القول ، وهو مصدر ونصبه بالقول ، أي لا تقولوا رعونة. وقرأ زر بن حبيش والأعمش "راعونا" ، يقال لما نتأ من الجبل : رعن ، والجبل أرعن. وجيش أرعن أي متفرق. وكذا رجل أرعن ، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا ، عن النحاس. وقال ابن فارس : رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن ، أي أهوج. والمرأة رعناء. وسميت البصرة رعناء لأنها تشبه برعن الجبل ، قال ابن دريد ذلك ، وأنشد للفرزدق :
لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له ... ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا
الرابعة : قوله تعالى : {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أمروا أن يخاطبوه صلى الله عليه وسلم بالإجلال ، والمعنى : أقبل علينا وانظر إلينا ، فحذف حرف التعدية ، كما قال :
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما ينظر الأراك الظباء
أي إلى الأراك. وقال مجاهد : المعنى فهمنا وبين لنا. وقيل : المعنى انتظرنا وتأن بنا ، قال :
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر ينفعني لدى أم جندب
والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى راعنا ، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود. وقرأ الأعمش وغيره "انظرنا" بقطع الألف وكسر الظاء ، بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك ، قال الشاعر :
أبا هند فلا تعجل علينا ... وانظرنا نخبرك اليقينا
الخامسة : قوله تعالى : {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما نهى وأمر جل وعز ، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما.
(2/60)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب الجامع لأحكام القرآن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ابناء الدويم :: المنتدى الإسلامي-
انتقل الى: