________________________________________
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، ويشرب الماء البارد العذب ، وسيأتي هذا المعنى في "المائدة" و"النحل" إن شاء الله مستوفى.
قوله تعالى : {اهْبِطُوا مِصْراً} تقدم معنى الهبوط ، وهذا أمر معناه التعجيز ، كقوله تعالى : {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء : 50] لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم. وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه. و"مصرا" بالتنوين منكرا قراءة الجمهور ، وهو خط المصحف ، قال مجاهد وغيره : فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : {اهْبِطُوا مِصْراً} قال : مصرا من هذه الأمصار. وقالت طائفة ممن صرفها أيضا : أراد مصر فرعون بعينها. استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه. واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث ، بني إسرائيل ديار آل فرعون وأثارهم ، وأجازوا صرفها. قال الأخفش والكسائي : لخفتها وشبهها بهند ودعد ، وأنشد :
لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعد ولم تسق دعد في العلب
فجمع بين اللغتين. وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا ، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف. وقال غير الأخفش : أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة : "مصر" بترك الصرف. وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود. وقالوا : هي مصر فرعون. قال أشهب قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ، ذكره ابن عطية. والمصر أصله في اللغة الحد. ومصر الدار : حدودها. قال ابن فارس ويقال : إن أهل هجر يكتبون في شروطهم "اشترى فلان الدار بمصورها" أي حدودها ، قال عدي :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
(1/429)
________________________________________
قوله تعالى : {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} "ما" نصب بإن ، وقرأ ابن وثاب والنخعي "سألتم" بكسر السين ، يقال : سألت وسلت بغير همز. وهو من ذوات الواو ، بدليل قولهم : يتساولان.
قوله تعالى : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي ألزموهما وقضي عليهم بهما ، مأخوذ من ضرب القباب ، قال الفرزدق في جرير :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
وضرب الحاكم على اليد ، أي حمل وألزم. والذلة : الذل والصغار. والمسكنة : الفقر. فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته. وقيل : الذلة فرض الجزية ، عن الحسن وقتادة. والمسكنة الخضوع ، وهي مأخوذة من السكون ، أي قلل الفقر حركته ، قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة : الذلة الصغار. والمسكنة مصدر المسكين. وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال : هم أصحاب القبالات.
قوله تعالى : {وَبَاءُوا} أي انقلبوا ورجعوا ، أي لزمهم ذلك. ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته : "أبو ء بنعمتك علي" أي أقر بها وألزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع ، يقال باء بكذا ، أي رجع به ، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع. والبواء : الرجوع بالقود. وهم في هذا الأمر بواء ، أي سواء ، يرجعون فيه إلى معنى واحد. وقال الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود. وقال :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
أي رجعوا ورجعنا. وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة.
(1/430)
________________________________________
قوله تعالى : {ذَلِكَ} تعليل. {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي يكذبون ، {بآيَاتِ اللَّهِ} أي بكتابه ومعجزات أنبيائه ، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام. و {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} معطوف على "يكفرون" وروي عن الحسن "يقتلون" وعنه أيضا كالجماعة. وقرأ نافع "النبيئين" بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [الأحزاب. 50]. و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ} [الأحزاب : 53] فإنه قرأ بلا مد ولا همز. وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين. وترك الهمز في جميع ذلك الباقون. فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخر ، واسم فاعله منبئ. ويجمع نبيء أنبياء ، وقد جاء في جمع نبي نبآء ، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكا
هذا معنى قراءة الهمز. واختلف القائلون بترك الهمز ، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز ، ثم سهل الهمز. ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر. فالنبي من النبوة وهو الارتفاع ، فمنزلة النبي رفيعة. والنبي بترك الهمز أيضا الطريق ، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق ، قال الشاعر :
لأصبح رتما دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب
رتمت الشيء : كسرته ، يقال : رتم أنفه ورثمه ، بالتاء والثاء جميعا. والرتم أيضا المرتوم أي المكسور. والكاثب اسم جبل. فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض. ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله" ولم يهمز. قال أبو علي : ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح : يا خاتم النبآء...ولم يؤثر في ذلك إنكار.
(1/431)
________________________________________
قوله تعالى : {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه".
فإن قيل : هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به. قيل له : ليس كذلك ، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق ، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن يقتل على الحق ، فصرح قوله : {بِغَيْرِ الْحَقِّ} عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله.
فإن قيل : كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء ؟ قيل : ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر.
قوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} "ذلك" رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه. والباء في "بما" باء السبب. قال الأخفش : أي بعصيانهم. والعصيان : خلاف الطاعة. واعتصت النواة إذا اشتدت. والاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء ، وعرف في الظلم والمعاصي.
الآية 62 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
فيه ثماني مسائل
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان : المراد المنافقون. كأنه قال : الذين أمنوا في ظاهر أمرهم ، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم
الثانية- قوله تعالى : {وَالَّذِينَ هَادُوا} معناه صاروا يهودا ، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام ، فقلبت العرب الذال دالا ، لأن الأعجمية إذا عربت غيرت
(1/432)
________________________________________
عن لفظها. وقيل : سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد : تاب. والهائد : التائب ، قال الشاعر :
إني امرؤ من حبه هائد
أي تائب. وفي التنزيل : {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف : 156] أي تبنا. وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا. وقال ابن عرفة : "هدنا إليك" أي سكنا إلى أمرك. والهوادة السكون والموادعة. قال : ومنه قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} وقرأ أبو السمال : "هادوا" بفتح الدال.
الثالثة- قوله تعالى : {وَالنَّصَارَى} جمع واحده نصراني. وقيل : نصران بإسقاط الياء ، وهذا قول سيبويه. والأنثى نصرانة ، كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرف بالألف واللام ، قال الشاعر :
صدت كما صد عما لا يحل له ... ساقي نصارى قبيل الفصح صوام
فوصفه بالنكرة. وقال الخليل : واحد النصارى نصري ، كمهري ومهارى. وأنشد سيبويه شاهدا على قوله :
تراه إذا دار العشا متحنفا ... ويضحي لديه وهو نصران شامس
وأنشد :
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما أسجدت نصرانة لم تحنف
يقال : أسجد إذا مال. ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب ، لأنهم قالوا : رجل نصراني وامرأة نصرانية. ونصره : جعله نصرانيا. وفي الحديث : "فأبواه يهودانه أو ينصرانه". وقال عليه السلام : "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني
(1/433)
________________________________________
ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها ، وقياسه النصرانيون. ثم قيل : سموا بذلك لقرية تسمى "ناصرة" كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى ، قاله ابن عباس وقتادة. وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة. وقيل : سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا ، قال الشاعر :
لما رأيت نبطا أنصارا ... شمرت عن ركبتي الإزارا
كنت لهم من النصارى جارا
وقيل : سموا بذلك لقول : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران : 52].
الرابعة- قوله تعالى : {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابئ ، وقيل : صاب ، ولذلك اختلفوا في همزه ، وهمزه الجمهور إلا نافعا. فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال. فالصابئ في اللغة : من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ. فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب.
الخامسة- لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم على ما يأتي بيانه في المائدة وضرب الجزية عليهم ، على ما يأتي في ، سورة "براءة" إن شاء الله. واختلف في الصابئين ، فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب ، وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر وقال إسحاق : لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة : لا بئس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام. وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم. وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور ويصلون الخمس ، رآهم زياد
(1/434)
________________________________________
ابن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة. والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة ، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم.
السادسة : قوله تعالى : {مَنْ آمَنَ} بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم "أي صدق. و"من" في قوله : {مَنْ آمَنَ} في موضع نصب بدل من "الذين". والفاء في قوله {فَلَهُمْ} داخلة بسبب الإبهام الذي في "من". و"لهم أجرهم" ابتداء وخبر في موضع خبر إن. ويحسن أن يكون "من" في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط. و"آمن" في موضع جزم بالشرط ، والفاء الجواب. و"لهم أجرهم" خبر "من" ، والجملة كلها خبر "إن" ، والعائد على "الذين" محذوف ، تقديره من آمن منهم بالله. وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث.
السابعة : إن قال قائل : لم جمع الضمير في قوله تعالى : {لهُمْ أَجْرُهُمْ} و"آمن" لفظ مفرد ليس بجمع ، وإنما كان يستقيم لو قال : له أجره. فالجواب أن "من" يقع على الواحد والتثنية والجمع ، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا ، قال الله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس : 42] على المعنى. وقال : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} على اللفظ. وقال الشاعر :
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما ... وقولا لها عوجي على من تخلفوا
وقال الفرزدق :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال : يصطحب وتخلف. قال تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} فحمل على اللفظ. ثم قال : {خَالِدِينَ} فحمل على المعنى ، ولو راعى اللفظ لقال : خالدا فيها. وإذا جرى ما بعد "من" على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية. وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ لأن الإلباس يدخل في الكلام. وقد مضى الكلام في قوله تعالى : {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والحمد لله
(1/435)
________________________________________
الثامنة : روي عن ابن عباس أن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [الحج : 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران : 85] الآية. وقال غيره : ليست بمنسوخة. وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام.
الآية 63 {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
الآية 64 {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى : {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف : 171]. قال أبو عبيدة : المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال : وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته. وقيل : نتقناه رفعناه. قال ابن الأعرابي : الناتق الرافع ، والناتق الباسط ، والناتق الفاتق. وامرأة ناتق ومنتاق : كثيرة الولد. وقال القتبي : أخذ ذلك من نتق السقاء ، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه. قال وقوله : {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} قال : قلع من أصله.
واختلف في الطور ، فقيل : الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره ، رواه ابن جريج عن ابن عباس. وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت. وقال مجاهد وقتادة : أي جبل كان. إلا أن مجاهدا قال : هو اسم لكل جبل بالسريانية ، وقال أبو العالية. وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وزعم البكري أنه سمي بطور بن إسماعيل عليه السلام ، والله تعالى أعلم.
القول في سبب رفع الطور
وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها. فقالوا : لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم : خذوها. فقالوا لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله
(1/436)
________________________________________
فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة الله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق. وكان سجودهم على شق ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا ، فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده ، فأمروا سجودهم على شق واحد. قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
قوله تعالى : {خُذُوا} أي فقلنا خذوا ، فحذف. {مَا آتَيْنَاكُمْ} أعطيناكم. {بِقُوَّةٍ} أي بجد واجتهاد ، قال ابن عباس وقتادة والسدي. وقيل : بنية وإخلاص. مجاهد : القوة العمل بما فيه. وقيل : بقوة ، بكثرة درس. {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ، ولا تنسوه ولا تضيعوه.
قلت : هذا هو المقصود من الكتب ، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها ، فإن ذلك نبذ لها ، على ما قاله الشعبي وابن عيينة ، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى : {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة : 101]. وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من شر الناس وجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه" . فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا. وقال مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا. قال الله تعالى : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر : 55] فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه ، لكن تركنا ذلك ، كما تركت اليهود والنصارى ، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا ، لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء. روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال : "هذا أوان
(1/437)
________________________________________
يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء". فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا. فقال : "ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم" وذكر الحديث ، وسيأتي. وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد : "ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى" . وفي الموطأ عن عبدا لله بن مسعود قال لإنسان : "إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة ، يبدؤون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم". وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا. وقد قال يحيى : سألت ابن نافع عن قوله. يبدؤون أهواءهم قبل أعمالهم ؟ قال يقول : يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم.
قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وتقدم القول في معناه فلا معنى لإعادته.
قوله تعالى : {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} تولى تفعل ، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم ، ثم ا ستعمل في الإعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا.قوله تعالى : {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد البرهان ، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل قوله تعالى : {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} "فضل" مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره ، لأن العرب استغنت عن إظهاره ، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاؤوا بأن ، فإذا جاؤوا بها لم يحذفوا الخبر. والقدير فلولا فضل الله تدارككم. و {وَرَحْمَتُهُ} عطف على "فضل" أي
(1/438)
________________________________________
لطفه وإمهاله. {لَكُنْتُمْ} جواب "لولا" {مِنَ الْخَاسِرِينَ} خبر كنتم. والخسران : النقصان ، وقد تقدم. وقيل : فضله قبول التوبة ، و"رحمته" العفو. والفضل : الزيادة على ما وجب. والإفضال : فعل ما لم يجب. قال ابن فارس في المجمل : الفضل الزيادة والخير ، والإفضال : الإحسان.
الآية 65 {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} "علمتم" معناه عرفتم أعيانهم. وقيل : علمتم أحكامهم. والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى. والعلم متوجه إلى أحوال المسمى. فإذا قلت : عرفت زيدا ، فالمراد شخصه وإذا قلت : علمت زيدا ، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص. فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد ، وهو قول سيبويه : "علمتم" بمعنى عرفتم. وعلى الثاني إلى مفعولين وحكى الأخفش ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه. وفي التنزيل : "لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال : 60] كل هذا بمعنى المعرفة ، فاعلم. {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة : 65] صلة "الذين". والاعتداء. التجاوز ، وقد تقدم.
الثانية : روى النسائي عن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال له صاحبه : لا تقل نبي لو سمعك فإن له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات ، فقال لهم : "لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرفوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت" . فقبلوا يديه ورجليه وقالوا : نشهد أنك نبي. قال : "فما
(1/439)
________________________________________
يمنعكم أن تتبعوني " قالوا : إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود. وخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. وسيأتي لفظه في سورة "سبحان" إن شاء الله تعالى.
الثالثة : قوله تعالى : {فِي السَّبْتِ} معناه في يوم السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت. والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال. وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى ، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة ، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم فتقول برأسها نعم. قال قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. وسيأتي في "الأعراف" قول من قال : إنهم كانوا ثلاث فرق. وهو أصح من قول من قال : إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين. والله أعلم.
والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع ، فقيل : إن الأشياء سبتت وتمت خلقتها. وقيل : هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة.
واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين. قال الزجاج : قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم. واختاره القاضي أبو بكر بن العربي. وقال الجمهور : الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك ، والذين مسخهم الله قد هلكوا
(1/440)
________________________________________
ولم يبق لهم نسل ، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب ، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. قال ابن عباس : لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
قلت : هذا هو الصحيح من القولين. وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم : "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته". رواه أبو هريرة أخرجه مسلم ، وبحديث الضب رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر ، قال جابر : أتي ، النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه ، وقال : "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" فمتأول على ما يأتي. قال ابن العربي : وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال : رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها ، وثبت في نص الحديث "قد زنت" وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي : فإن قيل : وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو ؟ قلنا : نعم كذلك كان ، لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم ، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون ، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون.
قلت : هذا كلامه في الأحكام ، ولا حجة في شيء منه. وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين : حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة.
(1/441)
________________________________________
فرجموها فرجمتها معهم. كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه ، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها ، فذكر في كتاب أيام الجاهلية. وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة ، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري. والذي قال البخاري في التاريخ الكبير : قال نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن أبي بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال : رأيت في الجاهلية فردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم. وليس فيه "قد زنت". فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية. وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبدالله "معدود في كبار التابعين من الكوفيين ، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك ، لأن رواته مجهولون. وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودي مختصرا قال : رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها - يعني القردة - فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا. وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبدالملك بن مسلم عن عيسى بن حطان ، وليسا ممن يحتج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف ، وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن ، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما". وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة : "ولا أراها إلا الفأر" وفي الضب : "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" وما كان مثله ، فإنما كان ظنا وخوفا لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ ، وكان هذا حدسا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا ، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف ، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير : هي مما مسخ ؟ فقال : "إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" . وهذا نص صريح صحيح رواه عبدالله بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القدر. وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر ،
(1/442)
________________________________________
فدل على صحة ما ذكرنا. وبالله توفيقنا. وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط ، وردت أفهامهم كأفهام القردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم ، والله أعلم.
قوله تعالى : {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} "قردة" خبر كان. {خَاسِئِينَ} نعت ، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان ، أوحالا من الضمير في "كونوا". ومعناه مبعدين. يقال : خسأته فخسأ وخسئ ، وانخسأ أي أبعدته فبعد. وقوله تعالى : {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً} [الملك : 4] أي مبعدا وقوله تعالى : {اخْسَأُوا فِيهَا} [المؤمنون : 108] أي تباعدوا. تباعد سخط. قال الكسائي : خسأ الرجل خسوءا ، وخسأته خسأ. ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القميء. يقال : قمؤ الرجل قماء وقماءة صار قميئا ، وهو الصاغر الذليل. وأقمأته : صغرته وذللته ، فهو قميء على فعيل.
الآية 66 {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى : {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} نصب على المفعول الثاني. وفي المجعول نكالا أقاويل ، قيل : العقوبة. وقيل : القرية ، إذ معنى الكلام يقتضيها وقيل : الأمة التي مسخت. وقيل : الحيتان ، وفيه بعد. والنكال : الزجر والعقاب. والنكل والأنكال : القيود. وسميت القيود أنكالا لأنها ينكل بها ، أي يمنع. ويقال للجام الثقيل : نَكل ونِكل ، لأن الدابة تمنع به ونكل عن الأمر ينكل ، ونكل ينكل إذا امتنع. والتنكيل : إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم ، أي تجبنهم. وقال الأزهري : النكال العقوبة. ابن دريد : والمنكل : الشيء الذي ينكل بالإنسان ، قال :
فارم على أقفائهم بمنكل
(1/443)
________________________________________
قوله تعالى : {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قال ابن عباس والسدي : لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم.
قوله تعالى : {وما خلفها} لمن يعمل مثل تلك الذنوب. قال الفراء : جعلت المسخة نكالا لما مضى من الذنوب ، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم. قال ابن عطية : وهذا قول جيد ، والضميران للعقوبة. وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس : لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم. واختاره النحاس ، قال : وهو أشبه بالمعنى ، والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا. "لما بين يديها وما خلفها" من القرى. وقال قتادة : "لما بين يديها" من ذنوبهم "وما خلفها" من صيد الحيتان.
قوله تعالى : {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} عطف على نكال ، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار. والوعظ : التخويف. والعظة الاسم. قال الخليل : الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الماوردي : وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين قال ابن عطية : واللفظ يعم كل متق من كل أمة وقال الزجاج "وموعظة للمتقين" لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله جل وعز ما نهاهم عنه : فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم.
الآية 67 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {إن الله يأمركم} حكي عن أبي عمرو أنه قرأ "يأمركم" بالسكون ، وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد : لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب ، وإنما الصحيح عن أبي عمرو انه كان يختلس الحركة. {أَنْ تَذْبَحُوا} في موضع نصب بـ "يأمركم" أي تَذْبَحُوا {بَقَرَةً} نصب "تذبحوا". وقد تقدم معنى الذبح فلا معنى لإعادته.
(1/444)
________________________________________