فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 4 أغسطس - 16:30 | |
| أي أثر والأرض : النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال : زلزلت الأرض بالبصرة ، فقال ابن عباس : والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرْض ؟ أي أم بي رعدة ، وقال ذو الرمة يصف صائدا : إذا توجس ركزا من سنابكها ... أو كان صاحب أرض أو به الموم والأرض : الزكام. وقد آرضه الله إيراضا ، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض ، وودية مستأرضة "بكسر الراء" وهو أن يكون له عرق في الأرض ، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والإراض "بالكسر" : بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض ، أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال : هو آرضهم أن يفعل ذلك ، أي أخلقهم. وشيء عريض أريض إتباع له ، وبعضهم يفرده ويقول : جدي أريض أي سمين. قوله : {نَحْنُ} أصل "نَحْن" نَحُن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء ، قاله هشام بن معاوية النحوي. وقال الزجاج : "نحن" لجماعة ، ومن علامة الجماعة الواو ، والضمة من جنس الواو ، فلما اضطروا إلى حركة "نحن" لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال : لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} [البقرة : 16] وقال محمد بن يزيد : "نحن" مثل قبل وبعد ، لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر ، فـ "أنا" للواحد "نحن" للتثنية والجمع ، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله : نحن قمنا ، قال الله تعالى : {قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف : 32] والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر ، تقول المرأة : قمت وذهبت ، وقمنا وذهبنا ، وأنا فعلت ذاك ، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فاعلم. قوله تعالى : {مُصْلِحُونَ} اسم فاعل من أصلح. والصلاح : ضد الفساد. وصلح الشيء "بضم اللام وفتحها" لغتان ، قال ابن السكيت. والصلوح "بضم الصاد" مصدر صلح "بضم اللام" ، قال الشاعر : (1/203) فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح وصلاح من أسماء مكة. والصلح "بكسر الصاد" : نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم ، لأن إفسادهم عندهم إصلاح ، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره. 3الآية : 12 {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} قوله عز وجل : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} ردا عليهم وتكذيبا لقولهم. قال أرباب المعاني : من أظهر الدعوى كذب ، ألا ترى أن الله عز وجل يقول : ألا إنهم هم المفسدون وهذا صحيح. وكسرت "إن" لأنها مبتدأة ، قال النحاس. وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها ، كما أجاز سيبويه : حقا أنك منطلق ، بمعنى ألا. و"هم" يجوز أن يكون مبتدأ و"المفسدون" خبره والمبتدأ وخبره خبر "إن". ويجوز أن تكون "هم" توكيدا للهاء والميم في "إنهم". ويجوز أن تكون فاصلة - والكوفيون يقولون عمادا - و"المفسدون" خبر "إن" ، والتقدير ألا إنهم المفسدون ، كما تقدم في قوله : {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان : 5]. قوله تعالى : {وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} قال ابن كيسان يقال : ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم ، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم ، قال : ففيه جوابان : أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر : أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد ، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه "ولكن" حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات ، إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب ، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الإيجاب ، ولكنك تذكر جملة(1/204) مضادة لما قبلها كما في هذه الآية ، وقولك : جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ ، ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت ، لأنهم قد استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن ، وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك : ما جاءني زيد لكن عمرو. الآية : 13 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ، كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب. وألف "آمنوا" ألف قطع ، لأنك تقول : يؤمن ، والكاف في موضع نصب ، لأنها نعت لمصدر محذوف ، أي إيمانا كإيمان الناس. قوله تعالى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، عن ابن عباس. وعنه أيضا : مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك ، وقرر أن السفه ورِقَّة الحُلوم وفساد البصائر إنما هي في حيزهم وصفة لهم ، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على قلوبهم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود ، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس : عبد الله بن سلام وأصحابه ، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء! يعني الجهال والخرقاء. وأصل السَّفَه في كلام العرب : الخفة والرقة ، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر : مالت به ، قال ذو الرمة : مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم(1/205) وتسفهت الشيء : استحقرته. والسفه : ضد الحلم. ويقال : إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه ، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة ، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا. قوله تعالى : {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} مثل {وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} ، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به ، تقول : علمت الشيء أعلمه علما عرفته ، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه "بالضم في المستقبل". غلبته بالعلم. الآية : 14 {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} قوله تعالى : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لقوا : لقيوا ، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السميقع اليماني : "لاقوا الذين آمنوا". والأصل لاقيوا ، تحركت الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا ، اجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ثم حركت الواو بالضم. وإن قيل : لم ضمت الواو في لاقوا في الإدراج وحذفت من لقوا ؟ فالجواب : أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها ، وحركت في لاقوا لأن قبلها فتحة. قوله تعالى : {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} إن قيل : لم وصلت "خلوا" بـ "إلى" وعرفها أن توصل بالباء ؟ قيل له : "خلوا" هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا ، ومنه قول الفرزدق : كيف تراني قالبا مجني ... أضرب أمري ظهره لبطن قد قتل الله زيادا عني(1/206) لما أنزل منزلة صَرَف. وقال قوم : "إلى" بمعنى مع ، وفيه ضعف. وقال قوم : "إلى" بمعنى الباء ، وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وقيل : المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم ، فـ "إلى" على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير ، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا ، فقال ابن عباس والسدي : هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي : هم شياطين الجن. وقال جمع من المفسرين : هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم. قوله تعالى : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي مكذبون بما ندعى إليه. وقيل : ساخرون. والهزء : السخرية واللعب ، يقال : هزئ به واستهزأ ، قال الراجز : قد هزئت مني أم طيسلة ... قالت أراه معدِما لا مال له وقيل : أصل الاستهزاء : الانتقام ، كما قال الآخر : قد استهزؤوا منهم بألفي مدجج ... سراتهم وسط الصحاصح جثّم الأية 15 : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قوله تعالى : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي ينتقم منهم ويعاقبهم ، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم ، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء ، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم ، من ذلك قول عمرو بن كلثوم : ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فسمى انتصاره جهلا ، والجهل لا يفتخر به ذو عقل ، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه ، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال(1/207) الله عز وجل : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى : 40]. وقال : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194] والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء ، لأنه حق وجب ، ومثله : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران : 54]. و {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ، وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق : 15 - 16]. و {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وليس منه سبحانه مكر ولا هزء إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم ، وكذلك {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء : 142]. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة : 79]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا" . قيل : حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون. وقيل : المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل. وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر ، حسب ما روى : "إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم". وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} هم منافقو أهل الكتاب ، فذكرهم وذكر استهزاءهم ، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر - على ما تقدم قالوا : إنا معكم على دينكم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ} في الآخرة ، يفتح لهم باب جهنم من الجنة ، ثم يقال لهم : تعالوا ، فيقبلون يسبحون في النار ، والمؤمنون على الأرائك - وهي السرر - في الحجال ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم ، فيضحك المؤمنون منهم ، فذلك قول الله عز وجل : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي في الآخرة ، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب ، فذلك قوله تعالى : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين : 34 - 35] إلى أهل النار {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين : 36]. وقال قوم : الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم ، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ، ويستر عنهم من عذاب الآخرة ، فيظنون أنه راض عنهم ، وهو تعالى(1/208) قد حتم عذابهم ، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع ، ودل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج" . ثم نزع بهذه الآية : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام : 44 - 45]. وقال بعض العلماء في قوله تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} : [الأعراف : 182] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة. قوله تعالى : {وَيَمُدُّهُمْ} أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم ، كما قال : {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران : 178] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب : يقال مد لهم في الشر ، وأمد في الخير ، قال الله تعالى : {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء : 6]. وقال : {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور : 22]. وحكي عن الأخفش : مددت له إذا تركته ، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفراء واللحياني : مددت ، فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مد النهرُ النهرَ ، وفي التنزيل : {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان : 27]. وأمددت ، فيما كانت زيادته من غيره ، كقولك : أمددت الجيش بمدد ، ومنه : {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران : 125]. وأمدّ الجرح ، لأن المدة من غيره ، أي صارت فيه مدة. قوله تعالى : {طُغْيَانِهِمْ} كفرهم وضلالهم. وأصل الطغيان مجاوزة الحد ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} [الحاقة : 11] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخُزان. وقوله في فرعون : {إِنَّهُ طَغَى} [طه : 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال : {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات : 24]. والمعنى في الآية : يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم. قوله تعالى : {يَعْمَهُونَ} يعمون. وقال مجاهد : أي يترددون متحيرين في الكفر. وحكى أهل اللغة : عَمِه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار ، ويقال رجل عامه(1/209) وعمه : حائر متردد ، وجمعه عُمّه. وذهبت إبله العُمّهى إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين ، والعمه في القلب ، وفي التنزيل : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46] الآية : 16 {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} قال سيبويه : ضمت الواو في "اشتروا" فرقا بينها وبين الواو الأصلية ، نحو : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن : 16]. وقال ابن كيسان : الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها. وقال الزجاج : حركت بالضم كما فعل في "نحن". وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السمال العدوي أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. واشتروا : من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبوا الكفر على الإيمان ، كما قال : {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت : 17] فعبر عنه بالشراء ، لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا ، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا ، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال ، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب : فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ... فإني شريت الحلم بعدك بالجهل(1/210) وأصل الضلالة : الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة ، قال له جل وعز : {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء : 20] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة ، كما قال عز وجل : {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة : 10]. قوله تعالى : {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم : ربح بيعك ، وخسرت صفقتك ، وقولهم : ليل قائم ، ونهار صائم ، والمعنى : ربحت وخسرت في بيعك ، وقمت في ليلك وصمت في نهارك ، أي فما ربحوا في تجارتهم. وقال الشاعر : نهارك هائم وليلك نائم ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم ابن كيسان : ويجوز تجارة وتجائر ، وضلالة وضلائل. قوله تعالى : {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} في اشترائهم الضلالة. وقيل : في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال ، وقد تقدم. الآية : 17 {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} قوله تعالى : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف ، فهي اسم ، كما هي في قول الأعشى : أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقول امرئ القيس : ورحنا بكابن الماء يُجنَب وسطنا ... تَصَوَّبُ فيه العين طورا وترتقي(1/211) وذلك أن ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه ، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا ، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام ، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم - كما أخبر التنزيل : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء : 145] - ويذهب نورهم ، ولهذا يقولون : {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد : 13]. وقيل : إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار ، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا. قوله : {نَاراً} النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق. وهي من الواو ، لأنك تقول في التصغير : نويرة ، وفي الجمع نور وأنوار ونيران ، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. قوله تعالى : {فلما أضاءت ما حوله" ضاءت وأضاءت لغتان ، يقال : ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضيء ، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع : ضاءت بغير ألف ، والعامة بالألف ، قال الشاعر : أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه "ما" زائدة مؤكدة. وقيل : مفعولة بأضاءت. و {حَوْلَهُ} ظرف مكان ، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. {ذَهَبَ} وأذهب لغتان من الذهاب ، وهو زوال الشيء. {وَتَرَكَهُمْ} أي أبقاهم. {فِي ظُلُمَاتٍ} جمع ظُلْمة. وقرأ الأعمش : "ظلْمات" بإسكان اللام على الأصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي : "ظلَمات" بفتح اللام. قال البصريون : أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف. وقال الكسائي : "ظلمات" جمع الجمع ، جمع ظلم. {لا يُبْصِرُونَ} فعل. مستقبل في موضع الحال ، كأنه قال : غير مبصرين ، فلا يجوز الوقف على هذا على "ظلمات". الآية : 18 {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}(1/213) قوله تعالى : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} "صمٌّ" أي هم صم ، فهو خبر ابتداء مضمر. وفي قراءة عبد الله بن مسعود وحفصة : صماً بكماً عمياً ، فيجوز النصب على الذم ، كما قال تعالى : {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب : 61] ، وكما قال : {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد : 4] ، وكما قال الشاعر : سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور فنصب "عداة الله" على الذم. فالوقف على "يبصرون" على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما بـ {تركهم} ، كأنه قال : وتركهم صما بكما عميا ، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على "يبصرون". والصمم في كلام العرب : الانسداد ، يقال : قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم : من انسدت خروق مسامعه. والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل : الأخرس والأبكم واحد. ويقال : رجل أبكم وبكيم ، أي أخرس بين الخرس والبكم ، قال : فليت لساني كان نصفين منهما ... بكيم ونصف عند مجرى الكواكب والعمى : ذهاب البصر ، وقد عمي فهو أعمى ، وقوم عمي ، وأعماه الله. وتعامى الرجل : أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الأمر إذا التبس ، ومنه قوله تعالى : {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص : 66]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة ، وإنما الغرض نفيها من جهة ما ، تقول : فلان أصم عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال : أصم عما ساءه سميع وقال آخر : وعوراء الكلام صممت عنها ... ولو أني أشاء بها سميع وقال الدارمي : أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الجدر(1/214) وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك : أدخل إذا ما دخلت أعمى ... واخرج إذا ما خرجت أخرس وقال قتادة : "صم" عن استماع الحق ، "بكم" عن التكلم به ، "عمي" عن الإبصار له. قلت : وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل "وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها" . والله أعلم. قوله تعالى : {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال : رجع بنفسه رجوعا ، ورَجَعَه غيره ، وهذيل تقول : أرجعه غيره. وقوله تعالى : {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ : 31] أي يتلاومون فيما بينهم ، حسب ما بينه التنزيل في سورة "سبأ". 3الآية : 19 {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قوله تعالى : {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال الطبري : "أو" بمعنى الواو ، وقاله الفراء. وأنشد : وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها وقال آخر : نال الخلافة أو كانت له قَدَرا ... كما أتى ربه موسى على قدر أي وكانت. وقيل : "أو" للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار على أحد الأمرين ، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب : المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل ، قال علقمة : فلا تعدلي بيني وبين مغمر ... سقتك روايا المزن حيث تصوب(1/215) وأصله : صَيوب ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين. وقال بعض الكوفيين : أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس : "لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه ، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب". قوله تعالى : {مِنَ السَّمَاءِ} السماء تذكر وتؤنث ، وتجمع على أسمية وسموات وسمي ، على فُعول ، قال العجاج : تلفه الرياح والسُّمِيّ والسماء : كل ما علاك فأظلك ، ومنه قيل لسقف البيت : سماء. والسماء : المطر ، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت : ديارٌ من بني الحسحاس قفر ... تعفيها الروامس والسماء وقال آخر : إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء ، يقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلأ والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه ، قال : وأحمر كالديباج أما سماؤه ... فَرَيّا وأما أرضه فمحول والسماء : ما علا. والأرض : ما سفل ، على ما تقدم. قوله تعالى : {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} ابتداء وخبر. {وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} معطوف عليه. وقال : ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدَّجْن ، وهو الغيم ، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة ، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى.(1/216) | |
|