المجلد الرابع عشر
تفسير سورة الأحزاب
الأحزاب : ) 11 ( هنالك ابتلي المؤمنون . . . . .)
هنا للقريب من المكان وهنالك للبعيد وهناك للوسط ويشار به إلى الوقت أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال (وزلزلوا زلزالا شديدا) أي حركوا تحريكا
قال الزجاج : كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح نحو قلقلته قلقالا وقلقالا وزلزلوا زلزالا وزلزالا والكسر أجود لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا وقراءة العامة بكسر الزاي وقرأ عاصم والجحدري زلزالا بفتح الزاي قال بن سلام : أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا وقال الضحاك : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق وقيل : إنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه وهنالك يجوز أن يكون العامل فيه ابتلى فلا يوقف على هنالك ويجوز أن يكون وتظنون بالله الظنونا فيوقف على هنالك
الأحزاب : ) 12 ( وإذ يقول المنافقون . . . . .)
قوله تعالى : ) وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ( أي شك ونفاق ) ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ( أي باطلا من القول وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق : كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز وإنما قالوا ذلك لما فشا في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من قوله عند ضرب الصخرة على ما تقدم في حديث النسائي فأنزل الله تعالى هذه الآية
الأحزاب : ) 13 ( وإذ قالت طائفة . . . . .)
قوله تعالى : ) وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ( الطائفة تقع على الواحد فما فوقه وعنى به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي يقول فيه الشماخ : إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
(14/146)
و يثرب هي المدينة وسماها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طيبة وطابة وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض والمدينة ناحية منها السهيلي : وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم وفي بعض هذه الأسماء اختلاف وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها وبها سميت الجحفة ) لا مقام لكم ( بفتح الميم قراءة العامة وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة : بضم الميم يكون مصدرا من أقام يقيم أي لا إقامة أو موضعا يقيمون فيه ومن فتح فهو اسم مكان أي لا موضع لكم تقيمون فيه ) فارجعوا ( أي إلى منازلكم أمروهم بالهروب من عسكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال بن عباس : قالت اليهود لعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون قوله تعالى : ) ويستأذن فريق منهم النبي ( في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة وهم بنو حارثة بن الحارث في قول بن عباس وقال يزيد بن رومان : قال ذلك أوس بن قيظي عن ملإ من قومه ) يقولون إن بيوتنا عورة ( أي سائبة ضائعة ليست بحصينة وهي مما يلي العدو وقيل : ممكنة للسراق لخلوها من الرجال يقال : دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها يقال : عور المكان عورا فهو عور وبيوت عورة وأعور فهو معور وقيل : عورة ذات عورة وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة قاله الهروي وقرأ بن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي : عورة بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل تقول العرب : دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن قال الشاعر : متى تلقهم لم تلق في البيت معورا ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
(14/147)
الجوهري : والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب النحاس : يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل المهدوي : ومن كسر الواو في عورة فهو شاذ ومثله قولهم : رجل عور أي لا شيء له وكان القياس أن يعل فيقال : عار كيوم راح ورجل مال أصلهما روح ومول ثم قال تعالى : ) وماهي بعورة ( تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه ) إن يريدون إلا فرارا ( أي مايريدون إلا الهرب قيل : من القتل وقيل : من الدين وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار : بني حارثة وبني سلمة وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله تعالى : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا الآية فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما ساءنا ما كنا هممنا به إذ الله ولينا وقال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما أبو عرابة بن أوس والآخر أوس بن قيظي قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه
الأحزاب : ) 14 ( ولو دخلت عليهم . . . . .)
قوله تعالى : ) ولو دخلت عليهم من أقطارها ( وهي البيوت أو المدينة أي من نواحيها وجوانبها الواحد قطر وهو الجانب والناحية وكذلك القتر لغة في القطر ) ثم سئلوا الفتنة لأتوها ( أي لجاءوها هذا على قراءة نافع وبن كثير بالقصر وقرأ الباقون بالمد أي لأعطوها من أنفسهم وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقد جاء في الحديث : أن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعذبون في الله ويسألون الشرك فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا وفيه دليل على قراءة المد من الإعطاء ويدل على قراءة القصر قوله : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل
(14/148)
لايولون الأدبار فهذا يدل على لأتوها مقصورا وفي الفتنة هنا وجهان : أحدهما سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه قاله الضحاك الثاني ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين قاله الحسن ) وما تلبثوا بها ( أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا قاله السدي والقتيبي والحسن والفراء وقال أكثر المفسرين : أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا بالشرك مسرعين وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر
الأحزاب : ) 15 ( ولقد كانوا عاهدوا . . . . .)
قوله تعالى : ) ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ( أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر قال قتادة : وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن وقال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم ) وكان عهد الله مسئولا ( أي مسئولا عنه قال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلا بايعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة وقالوا : اشترط لنفسك ولربك ماشئت فقال : ) أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم ) فقالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك يانبي الله قال : ) لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ) فذلك قوله تعالى : وكان عهد الله مسئولا أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة
الأحزاب : ) 16 ( قل لن ينفعكم . . . . .)
(14/149)
قوله تعالى : ) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ( أي من حضر أجله مات أو قتل فلا ينفع الفرار ) وإذا لا تمتعون إلا قليلا ( أي في الدنيا بعد الفرار إلى أن تنقضي آجالكم وكل ما هو آت فقريب وروى الساجي عن يعقوب الحضرمي وإذا لا يمتعون بياء وفي بعض الروايات وإذا لا تمتعوا نصب ب إذا والرفع بمعنى ولا تمتعون وإذا ملغاة ويجوز إعمالها فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء فإذا كانت مبتدأة نصبت بها فقلت : إذا أكرمك
الأحزاب : ) 17 ( قل من ذا . . . . .)
قوله تعالى : ) قل من ذا الذي يعصمكم من الله ( أي يمنعكم منه ) إن أراد بكم سوءا ( أي هلاكا ) أو أراد بكم رحمة ( أي خيرا ونصرا وعافية ) ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( أي لا قريبا ينفعهم ولا ناصرا ينصرهم
الأحزاب : ) 18 ( قد يعلم الله . . . . .)
قوله تعالى : ) قد يعلم الله الموقين منكم ( أي المعترضين منكم لأن يصدوا الناس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه وعوق على التكثير ) والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ( على لغة أهل الحجاز وغيرهم يقولون : هلموا للجماعة وهلمي للمرأة لأن الأصل : ها التي للتنبيه ضمت إليها لم ثم حذفت الألف استخفافا وبنيت على الفتح ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف ومعنى هلم أقبل وهؤلاء طائفتان أي منكم من يثبط ويعوق والعوق المنع والصرف يقال : عاقه يعوقه عوقا وعوقه واعتاقه بمعنى واحد قال مقاتل : هم عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقون
(14/150)
والقائلين لأخوانهم هلم فيهم ثلاثة أقوال : أحدها أنهم المنافقون قالوا للمسلمين : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا الثاني أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين : هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا والثالث ما حكاه بن زيد : أن رجلا من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين الرماح والسيوف فقال أخوه وكان من أمه وأبيه : هلم إلي قد تبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك فقال له : كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ذكره الماوردي والثعلبي أيضا ولفظه : قال بن زيد هذا يوم الأحزاب انطلق رجل من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ فقال له : أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف فقال : هلم إلى هذا فقد تبع لك ولأصحابك والذي تحلف به لا يستقل بها محمد أبدا فقال : كذبت فذهب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية ) ولا يأتون البأس إلا قليلا ( خوفا من الموت وقيل : لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة
الأحزاب : ) 19 ( أشحة عليكم فإذا . . . . .)
قوله تعالى : ) أشحة عليكم ( أي بخلاء عليكم أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله قاله مجاهد وقتادة وقيل : بالقتال معكم وقيل : بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم
(14/151)
وقيل : أشحة بالغنائم إذا أصابوها قاله السدي وانتصب على الحال قال الزجاج ونصبه عند الفراء من أربع جهات : إحداها أن يكون على الذم ويجوز أن يكون عنده نصبا بمعنى يعوقون أشحة ويجوز أن يكون التقدير : والقائلين أشحة ويجوز عنده ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة أي أنهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة النحاس : ولا يجوز أن يكون العامل فيه المعوقين ولا القائلين لئلا يفرق بين الصلة والموصول بن الأنباري : إلا قليلا غير تام لأن أشحة متعلق بالأول فهو ينتصب من أربعة أوجه : أحدها أن تنصبه على القطع من المعوقين كأنه قال : قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء المسلمين ويجوز أن يكون منصوبا على القطع من القائلين أي وهم أشحة ويجوز أن تنصبه على القطع مما في يأتون كأنه قال : ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء ويجوز أن تنصب أشحة على الذم فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله : إلا قليلا أشحة عليكم وقف حسن ومثله أشحة على الخير حال من المضمر في سلقوكم وهو العامل فيه ) فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ( وصفهم بالجبن وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محددا بصره وربما غشى عليه وفي الخوف وجهان أحدهما من قتال العدو إذا أقبل قاله السدي الثاني الخوف من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا غلب قاله بن شجرة رأيتهم ينظرون إليك خوفا من القتال على القول الأول ومن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الثاني تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة وقيل : لشدة خوفهم حذرا أن يأتيهم القتل من كل جهة ) فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ( وحكى الفراء صلقوكم بالصاد وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا وأصل الصلق الصوت ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة ) قال الأعشى
(14/152)
فيهم المجد والسماحة والنجدة فيهم والخاطب السلاق قال قتادة : ومعناه بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون : أعطنا أعطنا فإنا قد شهدنا معكم فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم قال النحاس : هذا قول حسن لأن بعده أشحة على الخير وقيل : المعنى بالغوا في مخاصمتكم والإحتجاج عليكم وقال القتبي : المعنى آذوكم بالكلام الشديد السلق : الأذى ومنه قول الشاعر : ولقد سلقنا هوازنا بنواهل حتى انحنينا أشحة على الخير أي على الغنيمة قاله يحيى بن سلام وقيل : على المال أن ينفقوه في سبيل الله قاله السدي أولئك لم يؤمنوا يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان والمنافق كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكفر ) فأهبط الله أعمالهم ( أي لم يثبتهم عليها إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها ) وكان ذلك على الله يسيرا ( يحتمل وجهين : أحدهما وكان نفاقهم على الله هينا الثاني وكان إحباط عملهم على الله هينا
الأحزاب : ) 20 ( يحسبون الأحزاب لم . . . . .)
قوله تعالى : ) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ( أي لجبنهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا ولكنهم لم يتباعدوا في السير ) وإن يأت الأحزاب ( أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال ) يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ( تمنوا أن يكونوا مع الأعراب حذرا من القتل وتربصا للدوائر وقرأ طلحة بن مصرف لو أنهم بدى في الأعراب يقال : باد وبدى مثل غاز وغزى ويمد مثل صائم وصوام بدا فلان يبدو إذا خرج
(14/153)
إلى البادية وهي البداوة والبداوة بالكسر والفتح وأصل الكلمة من البدو وهو الظهور ) يسألون ( وقرأ يعقوب في رواية رويس يتساءلون عن أنبائكم أي عن أخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه أما غلب أبو سفيان وأحزابه أي يودوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم وقيل : أي هم أبدا لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين وهل أصيبوا وقيل : كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين ) ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ( أي رميا بالنبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة ولو كان ذلك لله لكان قليله كثيرا
الأحزاب : ) 21 ( لقد كان لكم . . . . .)
فيه مسألتان الأولى قوله تعالى : ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ( هذا عتاب للمتخلفين عن القتال أي كان لكم قدوة في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق والأسوة القدوة وقرأ عاصم أسوة بضم الهمزة الباقون بالكسر وهما لغتان والجمع فيهما واحد عند الفراء والعلة عنده في الضم على لغة من كسر في الواحدة : الفرق بين ذوات الواو وذوات الياء فيقولون كسوة وكسا ولحية ولحى الجوهري : والأسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان والجمع أسى وإسي وروي عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن بن عمر لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة قال : في جوع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال : تفرد به عقبة بن حسان عن مالك ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد الثانية قوله تعالى : ) أسوة ( الأسوة القدوة والأسوة مايتأسى به أي يتعزى به فيقتدى به في جميع أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله فلقد شج وجهه وكسرت رباعيته
(14/154)
وقتل عمه حمزة وجاع بطنه ولم يلف إلا صابرا محتسبا وشاكرا راضيا وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن حجرين خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه : حديث غريب وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لما شج : ) اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) وقد تقدم ) لمن كان يرجو الله واليوم الآخر قال سعيد بن جبير : المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال وقيل : أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب يرجو إلا بغير ألف إذا كان لواحد لأن العلة التي في الجمع ليست في الواحد ) وذكر الله كثيرا ( خوفا من عقابه ورجاء لثوابه وقيل : إن لمن بدل من قوله : لكم ولا يجيزه البصريون لأن الغائب لايبدل من المخاطب وإنما اللام من لمن متعلقة ب حسنة وأسوة أسم كان ولكم الخبر واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين : أحدهما المنافقون عطفا على ماتقدم من خطابهم الثاني المؤمنون لقوله : لمن كان يرجو الله واليوم الآخر واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام هل هي على الإيجاب أو على الإستحباب على قولين : ( أحدهما على الإيجاب حتى يقوم دليل على الإستحباب الثاني على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين وعلى الاستحباب في أمور الدنيا
الأحزاب : ) 22 ( ولما رأى المؤمنون . . . . .) الاحزاب 22 (
قوله تعالى : ) ولما رأى المؤمنون الأحزاب ( ومن العرب من يقول : راء على القلب ) قالوا هذا ما وعدنا الله ( يريد قوله تعالى في سورة البقرة : أم حسبتم أن
(14/155)
تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية فلما رأوا الأحزاب يوم الخندق قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله قاله قتادة وقول ثان رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال : خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام ذكرت الأحزاب فقال : ) أخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها يعني على قصور الحيرة ومدائن كسرى فأبشروا بالنصر ) فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون : هذا ما وعدنا الله ورسوله ذكره الماوردي وما وعدنا إن جعلت ما بمعنى الذي فالهاء محذوفة وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد ) وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ( قال الفراء : وما زادهم النظر إلى الأحزاب وقال علي بن سليمان : رأى يدل على الرؤية وتأنيث الرؤية غير حقيقي والمعنى : ما زادهم الرؤية إلا إيمانا بالرب وتسليما للقضاء قاله الحسن ولو قال : ما زادوهم لجاز ولما اشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق قام عليه السلام على التل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي وتوقع ما وعده الله من النصر وقال : ) من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة ) فلم يجبه أحد وقال ثانيا وثالثا فلم يجبه أحد فنظر إلى جانبه وقال : ) من هذا ) فقال حذيفة فقال : ) ألم تسمع كلامي منذ الليلة ) قال حذيفة : فقلت يا رسول الله منعني أن أجيبك الضر والقر قال : ) انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده إلي انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني ) فانطلق حذيفة بسلاحه ورفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده يقول : ) يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي ) فنزل جبريل وقال : ) إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك ) فخر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول : ) شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي ) وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا فبشر أصحابه بذلك
(14/156)
قال حذيفة : فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم نارا إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته وجعلوا يتترسون من الحصباء وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش : النجاء النجاء وفعل كذلك عيينة بن حصن والحارث بن عوف والأقرع بن حابس وتفرقت الأحزاب وأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعاد إلى المدينة وبه من الشعث ما شاء الله فجاءته فاطمة بغسول فكانت تغسل رأسه فأتاه جبريل فقال : ) وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء مازلت أتبعهم حتى جاوزت بهم الروحاء ثم قال انهض إلى بني قريظة ) وقال أبو سفيان : مازلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الروحاء
الأحزاب : ) 23 ( من المؤمنين رجال . . . . .) الاحزاب 23 : 24 (
قوله تعالى : ) من المؤمنين رجال ( رفع بالإبتداء وصلح الإبتداء بالنكرة لأن صدقوا في موضع النعت ) فمنهم من قضى نحبه ( من في موضع رفع بالإبتداء وكذا ومنهم من ينتظر والخبر في المجرور والنحب : النذر والعهد تقول منه : نحبت أنحب بالضم قال الشاعر : وإذا نحبت كلب على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكرم وقال آخر : قد نحب المجد علينا نحبا وقال آخر : أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
(14/157)
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال عمي أنس بن النضر سميت به ولم يشهد بدرا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكبر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما بعد ليرين الله ما أصنع قال : فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك فقال : يا أبا عمرو أين قال : واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية فقالت عمتي الربيع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا لفظ الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية : منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أصيبت يده فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أوجب طلحة الجنة ) وفي الترمذي عنه : أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) أين السائل عمن قضى نحبه ) قال الأعرابي : أنا يا رسول الله قال : ) هذا ممن قضى نحبه ) قال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه ودعا له ثم تلا هذه الآية : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه إلى تبديلا ثم قال رسول الله صلى الله عليه
(14/158)
" صفحة رقم 160 "
وسلم : ) أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ) وقيل : النحب الموت أي مات على ما عاهد عليه عن بن عباس والنحب أيضا الوقت والمدة يقال : قضى فلان نحبه إذا مات وقال ذو الرمة عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر والنحب أيضا الحاجة والهمة يقول قائلهم : مالي عندهم نحب وليس المراد بالآية والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم وقد روي عن بن عباس أنه قرأ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا قال أبو بكر الأنباري : وهذا الحديث عند أهل العلم مردود لخلافه الإجماع ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل وضي الله عنهم ) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ( أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم ) ويعذب المنافقين ( في الآخرة ) إن شاء ( أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت ) إن الله كان غفورا رحيما (
الأحزاب : ) 25 ( ورد الله الذين . . . . .) الاحزاب 25 (
قوله تعالى : ) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ( قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة : قالت الذين كفروا ها هنا أبو سفيان وعيينة بن بدر رجع أبو سفيان إلى تهامة ورجع عيينة إلى نجد ) وكفى الله المؤمنين القتال ( بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم فكفى أمر قريظة بالرعب ) وكان الله قويا ( أمره ) عزيزا ( لايغلب
(14/159)
الأحزاب : ) 26 ( وأنزل الذين ظاهروهم . . . . .) الاحزاب 26 : 27 (
قوله تعالى : ) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ( يعني الذين عاونوا الأحزاب : قريشا وغطفان وهم بنو قريظة وقد مضى خبرهم ) من صياصيهم ( أي حصونهم واحدها صيصة قال الشاعر : فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة : صيصة قال دريد بن الصمة : فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد ومنه : صيصة الديك التي في رجله وصياصي البقر قرونها لأنها تمتنع بها وربما كانت تركب في الرماح مكان الأسنة ويقال : جذ الله صئصئه أي أصله ) وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون ( وهم الرجال ) وتأسرون فريقا ( وهم النساء والذرية على ماتقدم ) وأورئكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ( بعد قال يزيد بن رومان وبن زيد ومقاتل : يعني حنين ولم يكونوا نالوها فوعدهم الله إياها وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة وقال الحسن : هي فارس والروم وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة ) وكان الله على كل شيء قديرا ( فيه وجهان : أحدهما على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير قاله محمد بن إسحاق الثاني على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير قاله النقاش وقيل : وكان الله على كل شيء مما وعدكموه قديرا لاترد قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى ويقال : تأسرون وتأسرون ) بكسر السين وضمها ( حكاه الفراء
(14/160)