الآية : [160] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [161] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [162] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية : [163] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [164] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [165] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}
الآية : [166] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}
الآية : [167] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}
الآية : [168] {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}
الآية : [169] {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}
الآية : [170]{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}
الآية : [171] {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ }
الآية : [172] {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ}
الآية : [173] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}
الآية : [174] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [175] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} مضى معناه وقصته في الأعراف وهود مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} كانوا ينكحونهم في أدبارهم وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم {في الْأَعْرَافِ}. {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يعني فروج النساء فإن الله خلقها للنكاح. قال إبراهيم بن مهاجر : قال لي مجاهد كيف يقرأ عبد الله : {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قلت : {وَتَذَرُونَ مَا أصلح لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال : الفرج ؛ كما قال : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 222]. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي متجاوزون لحدود الله. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ} عن قولك هذا. {لَتَكُونَنَّ
(13/131)
مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أي من بلدنا وقريتنا. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} يعني اللواط {مِنَ الْقَالِينَ} أي المبغضين والقلى البغض ؛ قليته أقليه قلى وقلاء. قال :
فلست بمقلي الخلال ولا قالي
وقال آخر :
عليك السلام لا مللت قريبة ... ومالك عندي إن نأيت قلاء
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} من عذاب عملهم. دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم.
قال تعالى : {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في {هود}. {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} روى سعيد عن قتادة قال : غبرت في عذاب الله عز وجل أي بقيت. وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس : يقال للذاهب غابر والباقي غابر كما قال :
لا تكسع الشَّول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
وكما قال :
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
أي ما بقي. والأغبار بقيات الألبان. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أي أهلكناهم بالخسف والحصب ؛ قال مقاتل : خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً} يعني الحجارة {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وقيل : إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعها الله بالحجارة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه.
(13/132)
الآية : [176] {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [177] {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [178] {إني لكم رسول أمين}
الآية : [179] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [180] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [181] {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ}
الآية : [182] {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}
الآية : [183] {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
الآية : [184] {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}
الآية : [185] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
الآية : [186] {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية : [187] {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية : [188] {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}
الآية : [189] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية : [190] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [191] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} الأيك الشجر المتلف الكثير الواحدة أيكة. ومن قرأ : {أَصْحَابُ لأَيْكَةِ} فهي الغيضة. ومن قرأ : {لَيْكَةِ} فهو اسم القرية. ويقال : هما مثل بكة ومكة ؛ قاله الجوهري. وقال النحاس : وقرأ أبو جعفر ونافع : {كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وكذا قرأ : في {ص}. وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة {الحجر} والتي في سورة {ق} فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. وأما ما حكاه أبو عبيد من أن {لَيْكَةِ} هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن {الأَيْكَةِ} اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه ، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر ؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه.
(13/133)
وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال : أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين : إلى قومه من أهل مدين ، وإلى أصحاب الأيكة ؛ قال : والأيكة غيضة من شجر متلف. وروى سعيد عن قتادة قال : كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال : خرج أصحاب الأيكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر ، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها ، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا. ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال : و {الْأَيْكَةِ} الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف ، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد {لَيْكَةِ} فلا حجة له ؛ والقول فيه : إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل ؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض ؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها بلحمر ؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا ، وإن شئت كتبته بالحذف ؛ ولم يجز إلا الخفض ؛ قال سيبويه : وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف أنصرف ؛ ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. وقال الخليل : {الأَيْكَةِ} غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل أخوهم شعيب ؛ لأنه لم يكن أخا لأصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال : {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف : 85] ؛ لأنه كان منهم. وقد مضى في {الأعراف} القول في نسبه. قال ابن زيد : أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين ، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة ؛ وقال قتادة. وقد ذكرناه. {أَلا تَتَّقُونَ} تخافون الله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الآية. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة ؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى ، والطاعة والإخلاص في العبادة ، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الناقصين للكيل
(13/134)
والوزن. {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي أعطوا الحق. وقد مضى في {سُبْحَانَ} وغيرها. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} تقدم في {سُبْحَانَ} وغيرها.
قوله تعالى : {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} قال مجاهد : الجبلة هي الخليقة. وجبل فلان على كذا أي خلق ؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلة وجُبْلة وجَبْلة ذكره النحاس في "معاني القرآن". {وَالْجِبِلَّةَ} عطف على الكاف والميم. قال الهروي : الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ والجَبْلُ لغات ؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ؛ ومنه قوله تعالى : {جِبِلاً كَثِيراً} [يس : 62]. قال النحاس في كتاب "إعراب القرآن" له : ويقال جُبُلَّة والجمع فيهما جَبَّال ، وتحذف الضمة والكسرة من الباء ، وكذلك التشديد من اللام ؛ فيقال : جُبْلة وجُبَل ، ويقال : جِبْلة وجِبال ؛ وتحذف الهاء من هذا كله. وقرأ الحسن باختلاف عنه : {والجُبُلَّة الأولين} بضم الجيم والباء ؛ وروي عن شيبة والأعرج. الباقون بالكسر. قال :
والموت أعظم حادث ... فيما يمر على الجِبِلّه
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم. {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} أي جانبا من السماء وقطعة منه ، فننظر إليه ؛ كما قال : {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور : 44]. وقيل : أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب. قال أبو عبيدة : الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة. وقرأ السلمي وحفص : {كِسْفاً} جمع كسْفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر. قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء ، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسَف وكسْف. ويقال : الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش : من قرأ : {كِسْفاً} جعله واحدا ومن قرأ : {كِسْفاً} جعله جمعا. وقد مضى هذا في سورة {سُبْحَانَ} وقال الهروي : ومن قرأ : {كسفا} على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف ، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا ،
(13/135)
وهو من كسفت الشيء كسفا إذا غطيته. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تهديد ؛ أي إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} قال ابن عباس : أصابهم حر شديد ، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها ، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا. وقيل : أقامها الله فوق رؤوسهم ، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد. وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. وقيل : بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا. وعن ابن عباس أيضا وغيره : إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم ، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر ، فخرجوا هربا إلى البرية ، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة ، فنادى بعضهم بعضا ، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا ، ورجفت بهم الأرض ، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى ، فصاروا رمادا ؛ فذلك قوله : {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود : 68] وقوله : {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } . وقيل : إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم ، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر. فهربوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة وهي الظلة ، فوجدوا لها بردا ونسيما ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وقال يزيد الجريري : سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد" فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد ، فاجتمعوا كلهم تحته ، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة. وقال قتادة : بعث الله شعيبا إلى أمتين : أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة ، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين .{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قيل : آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر.
(13/136)
الآية : [192] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [193] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}
الآية : [194] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}
الآية : [195] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
الآية : [196] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}
قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} مخففا قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. الباقون : {نَزَلَ} مشددا {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} نصبا وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد لقوله : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} وهو مصدر نزل ، والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول ليس هذا بمقدر ، لأن المعنى وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك ؛ كما قال تعالى : {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة : 97] أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل : ليثبت قلبك. "أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل : ليثبت قلبك. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي لئلا يقولوا لسنا نفهم ما تقول. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء. وقيل : أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين ؛ كما قال تعالى : {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} [الأعراف : 157] والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل ؛ وقد تقدم.
الآية : [197] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}
الآية : [198] {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}
الآية : [199] {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [200] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}
الآية : [201] {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
الآية : [202] {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية : [203] {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} قال مجاهد : يعني عبدالله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم. وقال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة
(13/137)
يسألونهم عن محمد عليه السلام ، فقالوا : إن هذا لزمانه ، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته. فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذ القول. وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين ؛ لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب ؛ لأنهم مظنون بهم علم. وقرأ ابن عامر : {أَوَلَمْ تكُنْ لَهُمْ آيَةً} . الباقون {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} بالنصب على الخبر واسم يكن {أَنْ يَعْلَمَهُ} والتقدير أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة. وعلى القراءة الأولى اسم كان {آيَةً} والخبر {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . وقرأ عاصم الجحدري : {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي على رجل ليس بعربي اللسان {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بغير لغة العرب لما أمنوا ولقالوا لا نفقه. نظيره : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} [فصلت : 44] الآية. وقيل : معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة وكبرا. يقال : رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا ، ورجل عجمي وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله ؛ إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي. وقرأ الحسن {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِيَّينَ} مشددة بياءين جعله نسبة. ومن قرأ : {الأَعْجَمِينَ} فقيل : إنه جمع أعجم. وفيه بعد ؛ لأن ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون ، ولا بالألف والتاء ؛ لا يقال أحمرون ولا حمراوات. وقيل : إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدوي ثم حذفت ياء النسب ، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها. قاله أبو الفتح عثمان بن جني. وهو مذهب سيبويه.
قوله تعالى : {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} يعني القرآن أي الكفر به {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقيل : سلكنا التكذيب في قلوبهم ؛ فذلك الذي منعهم من الإيمان ، قاله يحيى بن سلام وقال عكرمة : القسوة. والمعنى متقارب وقد مضى في {الحجر} وأجاز الفراء الجزم في {لا يُؤْمِنُونَ} ؛ لأن فيه معنى الشرط والمجازاة. وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كي لا في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت ؛ فتقول : ربطت
(13/138)
الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم ، لأن معناه إن لم أربطه ينفلت ، والرفع بمعنى كيلا ينفلت. وأنشد لبعض بني عقيل :
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنه لا يقرف الشر قارف
بالرفع لما حذف كي. ومن الجزم قول الآخر :
لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد
قال النحاس : وهذا كله في {يُؤْمِنُونَ} خطأ عند البصريين ، ولا يجوز الجزم بلا جازم ، ولا يكون شيء يعمل عملا فإذا حذف عمل عملا أقوي ، من عمله وهو موجود ، فهذا احتجاج بيِّن {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي العذاب. وقرأ الحسن : {فَتَأْتِيَهُمْ} بالتاء ، والمعني : فتأتيهم الساعة بغتة فأضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها ، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها. وقال رجل للحسن وقد قرأ : {فَتَأْتِيَهُمْ} : يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة. فانتهره وقال : إنما هي الساعة تأتيهم بغتة أي فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانها. {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي مؤخرون وممهلون. يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها. قال القشيري : وقوله : {فَيَأْتِيَهُمْ} ليس عطفا على قوله : {حَتَّى يَرَوُا} بل هو جواب قوله : {لا يُؤْمِنُونَ} فلما كان جوابا للنفي انتصب ، وكذلك قوله : {فَيَقُولُوا}.
الآية : [204] {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}
الآية : [205] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}
الآية : [206] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}
الآية : [207] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
الآية : [208] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}
الآية : [209] {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}
قوله تعالى : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} قال مقاتل : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به! فنزلت : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} . {أَفَرَأَيْتَ
(13/139)
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} يعني في الدنيا والمراد أهل مكة في قول الضحاك وغيره. {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} من العذاب والهلاك {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} {مَا} الأولى استفهام معناه التقرير ، وهو في موضع نصب بـ {أَغْنَى} و {مَا} الثانية في موضع رفع ، ويجوز أن تكون الثانية نفيا لا موضع لها. وقيل : {مَا} الأولى حرف نفي ، و {مَا} الثانية في موضع رفع بـ {أَغْنَى} والهاء العائدة محذوفة. والتقدير : ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه. وعن الزهري : إن عمر بن عبدالعزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ : {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول :
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
قوله تعالى : {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} {مِنْ} صلة ؛ المعنى : وما أهلكنا قرية. {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} أي رسل. {ذِكْرَى} قال الكسائي : {ذِكْرَى} في موضع نصب على الحال. النحاس : وهذا لا يحصل ، والقول فيه قول الفراء وأبي إسحاق أنها في موضع نصب على المصدر ؛ قال الفراء : أي يذكرون ذكرى ؛ وهذا قول صحيح ؛ لأن معنى {لاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} إلا لها مذكرون. و {ذِكْرَى} لا يتبين فيه الإعراب ؛ لأن فيها ألفا مقصورة. ويجوز {ذِكْرَى} بالتنوين ، ويجوز أن يكون {ذِكْرَى} في موضع رفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق : أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء : أي ذلك ذكرى ، وتلك ذكرى. وقال ابن الأنباري قال بعض المفسرين : ليس في {الشعراء} وقف تام إلا قوله {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} وهذا عندنا وقف حسن ؛ ثم يبتدئ {ذِكْرَى} على معنى هي ذكرى أي يذكرهم ذكرى ، والوقف على {ذِكْرَى} أجود. {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم :
(13/140)
الآية : [210] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}
الآية : [211] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}
الآية : [212] {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}
الآية : [213] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}
قوله تعالى : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} يعني القرآن بل ينزل به الروح الأمين. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي برمي الشهب كما مضى في سورة {الحجر} بيانه. وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِونُ} قال المهدوي : وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط. وقال النحاس : وهذا غلط عند جميع النحويين ؛ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : هذا غلط عند العلماء ، إنما يكون بدخول شبهة ؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط ، وفي الحديث : "احذروا زلة العالم" وقد قرأ هو مع الناس : {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة : 14] ولو كان هذا بالواو في موضع رفع لوجب حذف النون للإضافة. وقال الثعلبي : قال الفراء : غلط الشيخ - يعني الحسن - فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال : إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما ، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه. مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئا ؛ وقال المؤرج : إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول دخلنا بساتين من ورائها بساتون ؛ فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
قوله تعالى : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} قيل : المعنى قل لمن كفر هذا. وقيل : هو مخاطبة له عليه السلام وإن كان لا يفعل هذا ؛ لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره. ودل على هذا قوله : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي لا يتكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم.
(13/141)
الآية : [214] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
الآية : [215] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [216] {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
الآية : [217] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}
الآية : [218] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}
الآية : [219] {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}
الآية : [22] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} خص عشيرته الأقربين بالإنذار ؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك. وعشيرته الأقربون قريش. وقيل : بنو عبد مناف. ووقع في صحيح مسلم : " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين". وظاهر هذا أنه كان قرآنا يتلى وأنه نسخ ؛ إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر. ويلزم على ثبوته إشكال ؛ وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته ؛ فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون ؛ لأنهم ليسوا على شيء من ذلك ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم ، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلي الله عليه وسلم ؛ فلم يثبت ذلك نقلا ولا معنى. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال : "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها".
(13/142)
الثانية- في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب ، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته ؛ لقوله : "إن لكم رحما سأبلها ببلالها" وقوله عز وجل : {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة : 8] الآية ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله.
قوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} تقدم في سورة {الحجر} و{سبحان} يقال : خفض جناحه إذا لان. {فَإِنْ عَصَوْكَ} أي خالفوا أمرك. {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي بريء من معصيتكم إياي ؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عز وجل ، لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه ، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب ، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه. وقرأ العامة : {وَتَوَكَّلْ} بالواو وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأ نافع وابن عامر : {فَتَوَكَّلْ كل} بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين : ابن عباس وغيره. وقال مجاهد : يعني حين تقوم حيثما كنت. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال مجاهد وقتادة : في المصلين. وقال ابن عباس : أي في أصلاب الآباء ، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا. وقال عكرمة : يراك قائما وراكعا وساجدا ؛ وقاله ابن عباس أيضا. وقيل : المعني ؛ إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك. وروي عن مجاهد ، ذكره الماوردي والثعلبي. وكان عليه السلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تقدم.
الآية : [221] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}
الآية : [222] {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
الآية : [223] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}
قوله تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
إنما قال : {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر ما تكون في الهواء ، وأنها تمر في الريح. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} تقدم في {الحجر}.فـ {ـيُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة الشياطين {وأكثرهم} يرجع إلى الكهنة. وقيل : إلى الشياطين.
(13/143)