المجلد الثالث عشر
تفسير سورة الفرقان
...
الجزء 13 من الطبعة
سورة الفرقان
الآية : [9] {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} .
الآية : [10] {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} .
قوله تعالى : {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى تصحيح ما قالوه فيك.
قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ} شرط ومجازاة ، ولم يدغم {وَيَجْعَلْ لَكَ} لأن الكلمتين منفصلتان ، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. {ويجعل لك} في موضوع جزم عطفا على موضع "جعل". ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا : {وَيَجْعَلْ لَكَ} بالرفع ؛ أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد : كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس ، وسمي القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه. وقيل : العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيري. وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك ، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا ؛ وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة ؛ فقال : "يجمع ذلك لي في الآخرة" فأنزل الله عز وجل : {تبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً
(13/6)
مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} . ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وفي الخبر : إن رضوان لما نزل سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ثم قال : يا محمد! رب العزة يقرئك السلام ، وهذا سَفَط - فإذا سفط من نور يتلألأ - يقول لك ربك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا ، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة ؛ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له ؛ فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع ؛ فقال : "يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا". فقال رضوان : أصبت! الله لك. وذكر الحديث.
الآية : [11] {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً سعيرا}
الآية : [12] {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} .
الآية : [13] {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} .
الآية : [14] {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} .
قوله تعالى : {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} يريد يوم القيامة. {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} يريد جهنم تتلظى عليهم. {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي من مسيرة خمسمائة عام. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} قيل : المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل : المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح ؛ لما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا" قيل : يا رسول الله! ولها عينان ؟ قال : " أما سمعتم الله عز وجل يقول : {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه" في رواية : "فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب
(13/7)
السمسم" ذكره رَزين في كتابه ، وصححه ابن العربي في قبسه ، وقال : أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين". وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الكلبي : سمعوا لها تغيظا كتغيظ بني آدم وصوتا كصوت الحمار. وقيل : فيه تقديم وتأخير ، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا. وقال قطرب : التغيظ لا يسمع ، ولكن يرى ، والمعنى : رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ؛ كقول الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا. وقيل : {سَمِعُوا لَهَا} أي فيها ؛ أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود : 106] و"في واللام" يتقاربان ؛ تقول : أفعل هذا في الله ولله. {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال قتادة : ذكر لنا أن عبدالله كان يقول : إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح ؛ ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس ، ذكره الثعلبي والقشيري عنه ، وحكاه الماوردي عن عبدالله بن عمرو. ومعنى {مُقَرَّنِينَ} مكتفين ؛ قاله أبو صالح. وقيل : مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل : قرنوا مع الشياطين ؛ أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه ؛ قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في "إبراهيم" وقال عمرو بن كلثوم :
فأبوا بالنهاب وبالسبايا
... وأبنا بالملوك مقرنينا
{دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} أي هلاكا ؛ قاله الضحاك. ابن عباس : ويلا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أول من يقول إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار
(13/
فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه" . وانتصب على المصدر ، أي ثبرنا ثبورا ؛ قاله الزجاج. وقال غيره : هو مفعول به.
قوله تعالى : {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال : ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع ؛ وهو كقولك : ضربته ضربا كثيرا ، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.
الآية : [15] {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً}
الآية : [16] {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} .
قوله تعالى : {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} إن قيل : كيف قال {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار ؛ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة ، وقد علم أن السعادة أحب إليه. وقيل : ليس هو من باب أفعل منك ، وإنما هو كقولك : عنده خير. قال النحاس : وهذا قول حسن ؛ كما قال :
فشركما لخير ... كما الفداء
قيل : إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل ؛ فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين. وقيل : هو مردود على قوله : {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} الآية. وقيل : هو مردود على قوله : {وْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان : 8]. وقيل : إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار ؛ وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا.
قوله تعالى : {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي من النعيم. {خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً}
قال الكلبي : وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم ، فسألوه ذلك الوعد فقالوا : {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران : 194]. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل : إن الملائكة تسأل لهم
(13/9)
الجنة ؛ دليله قوله تعالى : {بَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر : 8] الآية. وهذا قول محمد بن كعب القرظي. وقيل : معنى {وَعْداً مَسْؤُولاً} أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين ؛ حكي عن العرب : لأعطينك ألفا. وقيل : {وَعْداً مَسْؤُولاً} يعني أنه واجب لك فتسأله. وقال زيد بن أسلم : سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء ، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الأول.
الآية : [17] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}
الآية : [18] {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً}
الآية : [19] {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}.
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري : {يَحْشُرُهُمْ} بالياء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لقوله في أول الكلام : {كََانَ عَلَى رَبِّكَ} وفي آخره {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ} . الباقون بالنون على التعظيم. {مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير ؛ قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة : الأصنام. {فَيَقُولُ} قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم. {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} وهذا استفهام توبيخ للكفار. {قَالُوا سُبْحَانَكَ} أي قال المعبودون من دون الله سبحانك ؛ أي تنزيها لك {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} فإن قيل : فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد ؟ قيل له : ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. وقرأ الحسن وأبو جعفر : {أَنْ نَتَّخِذَ} بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون ؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر :
(13/10)
لا يجوز {نُتَّخَذَ} . وقال أبو عمرو : لو كانت {نُتَّخَذَ} لحذفت {مِن} الثانية فقلت : أن نتخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة ، لا يجوز {نُتَّخَذَ} لأن الله تعالى ذكر "من" مرتين ، ولو كان كما قرأ لقال : أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل : إن {مِن} الثانية صلة قال النحاس : ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال ؛ لأنه جاء ببينة. وشرج ما قال أنه يقال : ما اتخذت رجلا وليا ؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه ؛ ثم يقال : ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما ، وقولك {ولياً} تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه "من" لأنه لا فائدة في ذلك. {أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك. وفي الذكر قولان : أحدهما : القرآن المنزل على الرسل ؛ تركوا العمل به ؛ قاله ابن زيد. الثاني : الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم. إنهم {كَانُوا قَوْماً بُوراً} أي هلكى ؛ قال ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص : يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح ، فلما اجتمعوا حوله قال : ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، وتأملون ما لا تدركون ، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا ، وأملوا بعيدا ، فأصبح جمعهم بورا ، وآمالهم غرورا ، ومساكنهم قبورا. فقوله : {بُوراً} أي هلكى. وفي خبر آخر : فأصبحت منازلهم بورا ؛ أي خالية لا شيء فيها. وقال الحسن : {بُوراً} لا خير فيهم. مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب : البوار. الفساد والكساد ؛ مأخوذ من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد ؛ ومنه الحديث : "نعوذ بالله من بوار الأم" . وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. قال ابن الزبعرى :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنابور
إذ أباري الشيطان في سنن الغ ... ي ومن مال ميله مثبور
(13/11)
وقال بعضهم : الواحد بائر والجمع بور. كما يقال : عائذ وعوذ ، وهائد وهود. وقيل : "بورا" عميا عن الحق.
قوله تعالى : {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين : {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي في قولكم إنهم آلهة. {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولأنصركم. وقيل : فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون {صَرْفاً} للعذاب {وَلا نَصْراً} من الله. قال ابن زيد : المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد ؛ وعلى هذا فمعنى {بِمَا تَقُولُونَ} بما تقولون من الحق. وقال أبو عبيد : المعنى ؛ فما تقولون فيما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه ، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقراءة العامة {بِمَا تَقُولُونَ} بالتاء على الخطاب. وقد بينا معناه. وحكى الفراء أنه يقرأ {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} مخففا ، {بِمَا يَقُولُونَ} . وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء ، ويكون معنى {يَقُولُونَ} بقولهم. وقرأ أبو حيوة : {بِمَا يَقُولُونَ} بياء {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء. ومن قرأ بالياء فالمعنى : فما يستطيع الشركاء. {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قال ابن عباس : من يشرك منكم ثم مات عليه. {نُذِقْهُ} أي في الآخرة. {عَذَاباً كَبِيراً} أي شديدا ؛ كقوله تعالى : {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء : 4] أي شديدا.
الآية : [20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}
فيه مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا : {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان : 7]. وقال ابن عباس : لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ}
(13/12)
الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له ؛ فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} أي يبتغون المعايش في الدنيا.
قوله تعالى : {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} إذا دخلت اللام لم يكن في {إنّ} إلا الكسر ، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر ؛ لأنها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس : إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال : يجوز في {إنّ} هذه الفتح وإن كان بعدها اللام ؛ وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق الزجاج : وفي الكلام حذف ؛ والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام ، ثم حذف رسلا ، لأن في قوله : {من المرسلين} ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء : والمحذوف {مَن} والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام. وشبهه بقوله : {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات : 164] ، وقوله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم : 71] أي ما منكم إلا من هو واردها. وهذا قول الكسائي أيضا. وتقول العرب : ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك. فقولك : إنه ليطيعك صلة من. قال الزجاج : هذا خطأ ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها. وقال أهل المعاني : المعنى ؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون ؛ دليله قوله تعالى : {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت : 43]. وقال ابن الأنباري : كسرت {إِنَّهُمْ} بعد {إلا} للاستئناف بإضمار واو. أي إلا وإنهم. وذهبت فرقة إلى أن قوله : {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} كناية عن الحدث. قلت : وهذا بليغ في معناه ، ومثله {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة : 75]. {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} قرأ الجمهور {يَمْشُونَ} بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة ، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة ، وهي بمعنى يمشون ؛ قال الشاعر :
(13/13)
ومشى بأعطان المباءة وابتغى
... قلائص منها صعبة وركوب
وقال كعب بن زهير :
منه تظل سباع الجو ضامزة ... ولا تمشي بواديه الأراجيل
بمعنى تمشي.
هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع ، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول : قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى : إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء ؛ فقلت مجيبا له : هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء ، والرعاع السفهاء ، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء ؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق : {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء : 80]. وقال : {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون. وقال عليه الصلاة والسلام : "جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقال تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال : 69] وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون ، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون ؛ أتراهم ضعفاء! بل هم كانوا والله الأقوياء ، وبهم الخلف الصالح اقتدى ، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء. قال : إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء ، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء ، فأما في حق أنفسهم فلا ؛ وبيان ذلك أصحاب الصفة.
قلت : لوكان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان ؛ كما ثبت في القرآن {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل : 44] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة : 159] الآية. وهذا من البيان والهدى. وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام
(13/14)
عند ضيق الحال ، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها ، وإذا أتته هدية أكلها معهم ، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول صلى الله عليه وسلم. كذا وصفهم البخاري وغيره. ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا. وبالأسباب أمروا. ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم ، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر ؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا ، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله ، وهو الحق المبين ، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين ؛ وإلا كان يكون قوله الحق : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال : 60] - الآية - مقصورا على الضعفاء ، وجميع الخطابات كذلك. وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء : 63] وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا. وكذلك مريم عليها السلام {هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم : 25] وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب ؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان ، أو تجاب دعوته ، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره ، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة. هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله تعالى : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات : 22] فإنا نقول : صدق الله العظيم ، وصدق رسوله الكريم ، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل ؛ بدليل ؛ قوله : {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} [غافر : 13] وقال : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق : 9] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم ، بل الأسباب أصل في وجود ذلك ؛ ومعنى قوله عليه السلام : "اطلبوا الرزق في خبايا الأرض" أي بالحرث والحفر والغرس. وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه ، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق ، وذلك مشهور في كلام العرب. وقال عليه السلام : "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه" وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب. ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به ؛
(13/15)
وهو معنى قوله عليه السلام : "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروج بطانا" فغدوها ورواحها سبب ؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق ، ويقعد على ثنيات الطريق ، ويدع الطريق المستقيم ، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون ، فإذا قدموا سألوا الناس ؛ فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة : 197]. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد ، وكانوا المتوكلين حقا. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه ؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر. وهذا هو الحق. سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال : إنى أريد الحج على قدم التوكل. فقال : اخرج وحدك ؛ فقال : لا ، إلا مع الناس. فقال له : أنت إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب "قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة".
الرابعة- خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" . وخرج البزار عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته". أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ" . ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق ، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر : كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده ، وإنه إن أقام هناك هلك ، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته ، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
(13/16)
الخامسة- تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن ؛ وذلك أن المعركة موضع القتال ، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه ، ومصارعة بعضهم بعضا. فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة ، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة ، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.
قال ابن العربي : أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه ، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون : لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح ، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها ؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة ؛ ومن الأحاديث الموضوعة : "الأكل في السوق دناءة".
قلت : ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو ؛ فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن ؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن. وأما غيرهما من الأسواق ، فمشحونة منهن ، وقلة الحياء قد غلبت عليهن ، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها ، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه.
السابعة- خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : "من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة" خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد : "ومحا عنه ألف ألف سيئة" : "ورفع له ألف ألف درجة وبنى ل بيتا في الجنة". وقال : هذا حديث غريب. قال : ابن العربي : وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية ، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة ، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.
(13/17)
قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الصابر فتنة للغني. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه ؛ فالغني ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغني ، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ؛ كما قال الضحاك في معنى {أَتَصْبِرُونَ} : أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعاف ؟ والأعمى يقول : لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31]. فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ، ويحقر المعافى المبتلى. والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذاك عن الضجر. {أَتَصْبِرُونَ} محذوف الجواب ، يعني أم لا تصبرون. فيقتضي جوابا كما قال المزني ، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب ، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية : {أَتَصْبِرُونَ} فقال : بلى ربنا! نصبر ونحتسب. وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبدالعزيز في مملكته عابرا عليه ، ثم أجاب نفسه بقوله : سنصبر. وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة" وهو قوله : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبدالله بن مسعود ، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة ، وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي ، وذويهم ؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء : أنسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء
(13/18)
المؤمنين : {أَتَصْبِرُونَ} على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر ؛ فالتوقيف بـ {ـأَتَصْبِرُونَ} خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين ، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم : {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون : 111].
قوله تعالى : {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع ، ومن يؤمن ومن لا يؤمن ، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي. وقيل : {أَتَصْبِرُونَ} أي اصبروا. مثل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة : 91] أي انتهوا ؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.
الآية : [21] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} .
الآية : [22 ]{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً}
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يريد لا يخافون البعث ولقاء الله ، أي لا يؤمنون بذلك. قال :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعتها ... وخالفها في بيت نوب عوامل
وقيل : {لا يَرْجُونَ} لا يبالون. قال :
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
ابن شجرة : لا يأملون ؛ قال :
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
{وْلا أُنْزِلَ} أي هلا أنزل. {عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} فيخبروا أن محمدا صادق. {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} عيانا فيخبرنا برسالته. نظيره قوله تعالى : {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ
(13/19)
يَنْبُوعاً} [الإسراء : 90]إلى قوله : {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء : 92]. قال الله تعالى : {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} حيث سألوا الله الشطط ؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب ، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، فلا عين تراه. وقال مقاتل : {عَتَوْا} علوا في الأرض. والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة ؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين ، ولا بد لهم من معجزة يقيمها من يدعى أنه ملك ، وليس للقوم طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة ، وأن {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت : فتبشر المؤمنين بالجنة ، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم. {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} يريد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله ، وأقام شرائعها ؛ عن ابن عباس وغيره. وقيل : إن ذلك يوم القيامة ؛ قال مجاهد وعطية العوفي. قال عطية : إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى : فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة. وانتصب "يوم يرون" بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة. {يومئذ} تأكيد لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ}. قال النحاس : لا يجوز أن يكون {يَوْمَ يَرَوْنَ} منصوبا بـ {بُشْرَى} لأن ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله ، ولكن فيه تقدير أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة ؛ ودل على هذا الحذف ما بعده ، ويجوز أن يكون التقدير : لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة ، و {يَوْمَئِذٍ} مؤكد. ويجوز أن يكون المعنى : اذكر يوم يرون الملائكة : ثم ابتدأ فقال : {لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين. قال الشاعر :
ألا أصبحت أسماء حجرا محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حما
أرادألا أصبحت أسماء محرما
(13/20)
وقال آخر :
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وروي عن الحسن أنه قال : {وَيَقُولُونَ حِجْراً} وقف من قول المجرمين ؛ فقال الله. عز وجل : {مَحْجُوراً} عليهم أن يعاذوا أو يجاروا ؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة. والأول قول ابن عباس. وبه قال الفراء ؛ قاله ابن الأنباري. وقرأ الحسن وأبو رجاء : {حِجْراً} بضم الحاء والناس على كسرها. وقيل : إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم ؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي. وقيل : هو قول الكفار للملائكة. وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية ؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال : حجرا محجورا ؛ أي حراما عليك التعرض لي. وانتصابه على معنى : حجرت عليك ، أو حجر الله عليك ؛ كما تقول : سقيا ورعيا. أي إن المحرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا : نعوذ بالله منكم ؛ ذكره القشيري ، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد. وقيل : {حِجْراً} من قول المجرمين. {مَحْجُوراً} من قول الملائكة ؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فتقول الملائكة : {مَحْجُوراً} أن تعاذوا من شر هذا اليوم ؛ قاله الحسن.
الآية : [23] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
الآية : [24] {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
قوله تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة ؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم. يقال : قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده. وقال مجاهد : {قَدِمْنَا} أي عمدنا. وقال الراجز :
وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال ...
(13/21)
وقيل : هو قدوم الملائكة ، أخبر به نفسه تعالى فاعله. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} أي لا ينتفع به ؛ أي أبطلناه بالكفر. وليس {هَبَاءً} من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبي في موضع الرفع ، ومن النحويين من يقول : هبي في موضع الرفع ؛ حكاه النحاس. وواحده هباة والجمع أهباء. قال الحارث بن حلزة يصف ناقة :
فترى خلفها من الرجع والوقـ ... ـع منينا كأنه أهباء
وروى الحرث عن علي قال : الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة. وقال الأزهري : الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله : إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق. الجوهري : ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا. والهبوة الغبرة. قال رؤبة.
تبدو لنا أعلامه بعد الغرق ... في قطع الآل وهبوات الدقق
وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة. وقيل : إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر ؛ قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس أيضا : إنه الماء المهراق. وقيل : إنه الرماد ؛ قاله عبيد بن يعلى.
قوله تعالى : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} تقدم القول فيه عند قوله تعالى : {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان : 15]. قال النحاس : والكوفيون يجيزون "العسل أحلى من الخل" وهذا قول مردود ؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل. ولا يجوز أن يقال : النصراني خير من اليهودي ؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير. لكن يقال : اليهودي شر
(13/22)
من النصراني ؛ فعلى هذا كلام العرب. و {مُسْتَقَرّاً} نصب على الظرف إذا قدر على غير باب "أفعل منك" والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من باب "أفعل منك" فانتصابه على البيان ؛ قال النحاس والمهدوي. قال قتادة : {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} منزلا ومأوى. وقيل : هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع : "إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار" ذكره المهدوي. وقال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، ثم قرأ : {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} كذا هي في قراءة ابن مسعود. وقال ابن عباس : الحساب من ذلك اليوم في أوله ، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. ومنه ما روي : "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل". وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" فقلت : ما أطول هذا اليوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا" .