تفسير سورة مريم عليها السلام
الآيات : 83 - 87 {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ، يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ، لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي سلطانهم عليهم بالإغواء وذلك حين قال لإبليس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء : 64]. وقيل {أَرْسَلْنَا} أي خلينا يقال أرسلت البعير أي خليته ، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج : قيضنا {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} قال ابن عباس : تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية وعنه تغريهم إغراء بالشر أمض أمض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار حكى الأول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد الضحاك تغويهم إغواء مجاهد تشليهم إشلاء وأصله الحركة والغليان ، ومنه الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء" وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها والأز التهييج والأغراء قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أي تغريهم على المعاصي والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي تطلب العذاب لهم. {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} قال الكلبي : آجالهم يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب وقال الضحاك الأنفاس ابن عباس : "أين نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم" وقيل الخطوات وقيل اللذات وقيل اللحظات وقيل الساعات وقال قطرب : نعد أعمالهم عدا وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما روي أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في هذا المعنى :
حياتك أنفاس تعد فكلما ... مضى نفس منك انتقصت به جزءا
يميتك ما يحيك في ليلة ... ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا
ويقال : إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس اثنا عشر ألف نفس في اليوم واثنا عشر ألفا في الليلة والله أعلم فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد.
(11/150)
قوله تعالى : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن ، ودار كرامته. كقوله {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات : 99] وكما في الخبر "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" والوفد اسم للوافدين كما يقال صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير. الجوهري : يقال وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد ، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته وفي التفسير {وَفْداً} أي ركبانا على نجائب طاعتهم وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لأنه مصدر ابن جريج وفدا على النجائب وقال عمرو بن قيس الملائي إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني ؟ فيقول لا إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم وتلا {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول هل تعرفني فيقول لا إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك وتلا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام : 31] ولا يصح من قبل إسناده قاله ابن العربي في “سراج المريدين” وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعنا وقال أيضا عن ابن عباس من كان يحب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الأحمر ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال وقال أيضا عن علي رضي الله عنه ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه يا رسول الله!
(11/151)
إني قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبون حتى يقرعوا باب الجنة" ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا قال : "يا علي إذا كان المنصرف من ببن يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} " [الزمر : 73].
قلت : وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا" الحديث خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة “المؤمنين” إن شاء الله تعالى وتقدم في “آل عمران” من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا والله أعلم وقال أبو هريرة {وَفْداً} على الإبل ابن عباس “ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها” وقال علي “ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت” وقيل يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس والله أعلم وقيل إنما قال {وَفْداً} لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} السوق الحث على السير ، و {وِرْداً} عطاشا قال ابن عباس
(11/152)
وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن والأخفش والفراء وابن الأعرابي : حفاة مشاة وقيل : أفواجا وقال الأزهري أي مشاة عطاشا كالإبل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان القشيري وقوله {وِرْداً} يدل على العطش لأن الماء إنما يورد في الغالب للعطش وفي “التفسير” مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل {وِرْداً} أي الورود كقولك جئتك إكراما لك أي لإكرامك أي نسوقهم لورود النار.
قلت ولا تناقض بين هذه الأقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفواجا قال ابن عرفة الورد القوم يردون الماء ، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل والورد الماء الذي يورد وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء الورد الجزء [من القرآن] يقال قرأت وردي والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت فظاهرة لفظ مشترك وقال الشاعر يصف قليبا.
يطمو إذا الورد عليه التكا
أي الوراد الذين يريدون الماء
قوله تعالى : {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشيء من غير جنسه أي لكن {مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} يشفع فـ {مَنِ} في موضع نصب على هذا وقيل هو في موضع رفع على البدل من الواو في {يَمْلِكُونَ} أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء
(11/153)
متصلا. و {الْمُجْرِمِينَ} في قول {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فانهم يملكونها بأن يشفع فيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي" خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم وتظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون ؛ وعلى القول الأول يكون الكلام متصلا بقوله. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} فلا تقبل غدا شفاعة عبد ة الأصنام لأحد ، ولا شفاعة الأصنام لأحد ، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال : {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقيل : أي نحشر المتقين والمجرمين لا يملك أحدا شفاعة {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} أي إذا أذن له الله في الشفاعة. كما قال : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة : 255] وهذا العهد هو الذي قال {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} وهو لفظ جامع للإيمان وجميع الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع وقال ابن عباس العهد لا إله إلا الله وقال مقاتل وابن عباس أيضا لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة [إلا] لله ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود سمعت رسول الله يقول لأصحابه : "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا" قيل يا رسول الله وما ذاك ؟ قال : "يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبد ك ورسولك ]فلا تكلني إلى نفسي[ فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة".
(11/154)
الآية : 88 {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً}
الآية : 89 { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}
الآية : 90 {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}
الآية : 91 {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً}
الآية : 92 {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}
الآية : 93 {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عبد اً}
الآية : 94 {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً}
الآية : 95 {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}
قوله تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} يعني اليهود والنصارى ، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وعاصم وخلف : {وُلْداً} بضم الواو وإسكان اللام ، في أربعة مواضع : من هذه السورة قوله تعالى : {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم : 77]وقد تقدم قوله وقوله : {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}. وفي سورة نوح {مَالُهُ وَوَلَدُهُ} [نوح : 21] ووافقهم في “نوح” خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال :
ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر :
وليت فلانا كان في بطن أمه ... وليت فلانا كان ولد حمار
وقال في معنى ذلك النابغة :
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحد قال الجوهري الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم ومن أمثال بني أسد ولدك من دمى عقبيك وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد النحاس وفرق
(11/155)
أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل ، وولد ولده ، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب ؛ كما قال :
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر ما من مال ومن ولد
قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول : يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد ، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم.
قوله تعالى : {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} أي منكرا عظيما ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري : الإد والإدة الداهية والأمر الفظيع ومنه قوله تعالى {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الإدة إدد. وأدت فلانا داهية تؤده أدا “بالفتح”. والإد أيضا الشدة. [والأد الغلبة والقوة] قال الراجز :
نضون عني شدة وأدا ... من بعد ما كنت صملا جلدا
انتهى كلامه. وقرأ أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن السلمي “أدا” بفتح الهمزة النحاس يقال أد يؤد أدا فهو آد والاسم الإد ؛ إذا جاء بشيء عظيم منكر وقال الراجز :
قد لقي الأقران مني نكرا ... داهية دهياء إدا إمرا
عن غير النحاس الثعلبي وفيه ثلاث لغات {أَدّاً} بالكسر وهي قراءة العامة {وأدّاً} بالفتح وهى قراءة السلمي و {آدٌ} مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية ؛ وكأنها مأخوذة من الثقل [يقال] : آده الحمل يؤوده أودا أثقله.
قوله تعالى : {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} قراءة العامة هنا وفي “الشورى” بالتاء. وقراءة نافع ويحي والكسائي {يكاد} بالياء لتقدم الفعل. {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي يتشققن وقرأ نافع وابن كثير وحفص وغيرهم بتاء بعد الياء وشد الطاء من هنا وفي “الشورى”
(11/156)
ووافقهم حمزة وابن عامر في “الشورى” وقرأ هنا “ينفطرن” من الانفطار وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد تعالى {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الإنفطار : 1] وقوله : {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل : 18] وقوله : {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} أي تتصدع {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} قال ابن عباس : “هدما أي تسقط بصوت شديد” وفي الحديث "اللهم إني أعوذ بك من الهد والهدة" قال شمر قال أحسد بن غياث المروزي الهد الهدم والهدة الخسوف. وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال هدني الأمر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهوري الجوهري وهد البناء يهده هدا كسره وضعفه وهدته المصيبة أي أو هنت ركنه وانهد الجبل انكسر. الأصمعي : والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده إني لغير هد أي غير ضعيف وقال ابن الأعرابي : الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد :
ليسوا بهدين في الحروب إذا ... تعقد فوق الحراقف النطق
والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول هديه “بالكسر” هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي الأرض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديه النحاس “هدا” مصدر لأن معنى “تخر” تهد وقال غيره حال أي مهدودة : {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} {أَنْ} في موضع نصب عند الفراء لأن دعوا ومن أن دعوا فموضع {أَنْ} نصب بسقوط الخافض وزعم الفراء أن الكسائي قال هي في موضع خفض بتقدير الخافض وذكر ابن المبارك : حدثنا عن واصل عن عون بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود : إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله ؟ فإن قال نعم سربه ثم قرأ عبد الله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} الآية قال أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير ؟ ! قال وحدثني عوف عن غالب بن عجرد قال :
(11/157)
حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة ، فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم “اتخذ الرحمن ولدا” فلما قالوها اقشعر الأرض وشاك الشجر وقال ابن عباس اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك وقال ابن عباس أيضا وكعب فزعت السموات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وقال محمد بن كعب لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قال ابن العربي وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون
قوله تعالى : {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في “البقرة” أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لأنه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد وأصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس قال :
في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة ... ما ينبغي دونها سهل ولا جبل
(11/158)
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {إِنْ} نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل : 87] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ”و آتي” بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف.
الثانية : وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبد ية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح "لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" أخرجه مسلم فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه.
الثالثة : ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قول عليه الصلاة والسلام "من أعتق شركا له في عبد " أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى لأن لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عبد اً} فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبد قطعا ، وتمسك إسحاق بأنه حكى عبد ة في المؤنث
الرابعة : روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تبارك وتعالى كذبني بن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقول ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقول اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد" وقد تقدم في “البقرة” وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا.
(11/159)
قوله تعالى : {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} أي علم عددهم “وعدهم عدا” تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم.
قلت ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي. واشتقاق هذا الفعل يدل عليه وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في رقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية.
قوله تعالى : {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} أي واحدا لانا صر له ولا مال معه ينفعه كما قال تعالى : {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} على لفظ وعلى المعنى آتوه وقال القشيري وفيه إشارة إلى أنكم لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لأنفسكم وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لأنفسهم بالبنات ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم الأصنام الله وقال : {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام : 136].
الآيات : 96 - 98 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} أي حبا في قلوب عباده كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أحب الله عبد ا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه قال فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى {سَيَجْعَلُ لَهُمُ
(11/160)
الرَّحْمَنُ وُدّاً} وإذا أبغض الله عبد ا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض" قال هذا حديث حسن صحيح وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله أعطى المؤمن الألفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين ثم تلا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}
واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : "قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة" فنزلت الآية ذكره الثعلبي وقال ابن عباس نزلت في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه وكان هرم بن حيان يقول ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة
قلت : إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى إذا أحب عبد ا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحب جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبد ا دعا جبريل عليه السلام وقال إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض"
الآية : 97 {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}
(11/161)
قوله تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى {أَلَدُّ الْخِصَامِ} وقال الشاعر :
أبيت نجيا للهموم كأنني ... أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
وقال أبو عبيدة الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل الحسن اللد الصم عن الحق قال الربيع : صم أذان القلوب. مجاهد : فجارا. الضحاك : مجادلين في الباطل. ابن عباس : شديدا في الخصومة. وقيل : الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد وخصوا بإنذار لأن الذي لا عناد عنده يسهل انقياده
الآية : 98 {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}
قوله تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم وقيل حسا قال ابن زيد وقيل الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قال اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد :
وتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقيل الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض وقال طرفة :
وصادقتا سمع التوجس للسري ... خفي أو لصوت مندد وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب :
إذا توجس ركزا مقفر ندس ... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع والندس الحاذق يقال ندس وندس كما يقال حذر وحذر ويقظ ويقظ ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.
(11/162)