الآية : 32 { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً}
الآية : 33 {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً}
الآية : 34 {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً}
قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين ، وهو متصل بقوله : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف : 28]. واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما ؛ فقال الكلبي : نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين ، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الأسود بن عبدالأسد ، وهما الأخوان المذكوران في سورة "الصافات" في قوله : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات : 51] ، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار ، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال... ؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة. وقيل : هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل : هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه ؛ شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا ؛ في قول ابن عباس. وقال مقاتل : اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال : اسم الخير منهما تمليخا ، والآخر قرطوش ، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم ، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة ، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع ، وبنى أيضا مساجد ، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار ، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا ، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى ؛ وأدركت الأول الحاجة ، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال : لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي ، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب ، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له : ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك ؟ . قال : اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أإنك
(10/399)
لمن المصدقين ، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها ، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان ، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال ، وذلك أني كسبت وسفهت أنت ، اخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر ، والمعنى متقارب.
قال عطاء : كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل : ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها ، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار ، فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار ، فتصدق بها ، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار ، فقال : اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار ، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار ، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار ، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال : ما فعل مالك ؟ فأخبره قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له : أنت تعبد إله السماء ، وأنا لا أعبد إلا صنما ؛ فقال صاحبه : والله لأعظنه ، فوعظه وذكره وخوفه. فقال : سر بنا نصطد السمك ، فمن صاد أكثر فهو على حق ؛ فقال له : يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال : فأكرهه على الخروج معه ، فابتلاهما الله ، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه ، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء ؛ فقال له : كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا ، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال : فضج الملك الموكل بهما ، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها ، فلما رأى ما أعد الله له قال : وعزتك لا يضره ما ناله من
(10/400)
الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا ؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال : وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده ، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون ، فقال : {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات : 51] الآية ؛ فنادى مناد : يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم ؛ فنزلت {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} .
بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة ، وبين حالهما في الآخرة في سورة "الصافات" في قول : {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} - إلى قوله – {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات : 51]. قال ابن عطية : وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين ، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة ، وإياها عني بهذه الآية. وقد قيل : إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة ، وليس بخبر عن حال متقدمة ، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة ، وجعله زجرا وإنذارا ؛ ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا ، والله اعلم.
قوله تعالى : {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب ، وجمعه أحفة ؛ ويقال : حف القوم بفلان يحفون حفا ، أي طافوا به ؛ ومنه { حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر : 75]. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} أي جعلنا حول الأعناب النخل ، ووسط الأعناب الزرع.
قوله تعالى : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} أي كل واحدة من الجنتين ، واختلف في لفظ "كلتا وكلا" هل هو مفرد أو مثنى ؛ فقال أهل البصرة : هو مفرد ؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير "كل" في المجموع ، وهو اسم مفرد غير مثنى ؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة ، تقول : رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين ؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب ، تقول :
(10/401)
رأيت كليهما ومررت بكليهما ، كما تقول عليهما. وقال الفراء : هو مثنى ، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث ، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد ، ولو تكلم به لقيل : كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر :
في كلت رجليها سلامى واحده ... كلتاهما مقرونة بزائده
أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة ؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر ، ولأن معنى "كلا" مخالف لمعنى "كل" لأن "كلا" للإحاطة و"كلا" يدل على شيء مخصوص ، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة ، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة ، فثبت أنه اسم مفرد كمعى ، إلا أنه وضع ليدل على التثنية ، كما أن قولهم "نحن" اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما ، يدل على ذلك قول جرير :
كلا يومي أمامة يوم صد ... وإن لم نأتها إلا لماما
فأخبر عن "كلا" بيوم مفرد ، كما أفرد الخبر بقوله "آتت" ولو كان مثنى لقال آتتا ، ويوما. واختلف أيضا في ألف "كلتا" ؛ فقال سيبويه : ألف "وكلتا" للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا ، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث ، والألف "في كلتا" قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث ، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل ، وتقديرها عنده : فعتل ، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل ، وتقديرها عنده : فعتل ، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي ، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي ؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس : وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى ، وأن تقول : كلتا الجنتين آتتا أكلهما ؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء : كلتا الجنتين آتى أكله ، قال : لأن المعنى كل
(10/402)
الجنتين. قال : وفي قراءة عبدالله "كل الجنتين أتى أكله". والمعنى على هذا عند الفراء : كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل "بضم الهمزة" ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل ؛ ومنه قوله تعالى : {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد : 35] وقد تقدم . {آتَتْ أُكُلَهَا} تاما ولذلك لم يقل آتتا. {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص.
قوله تعالى : {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق "ثمر" بفتح الثاء والميم ، وكذلك قوله : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف : 42] جمع ثمرة. قال الجوهري : الثمرة واحدة الثمر والثمرات ، وجمع الثمر ثمار ؛ مثل جبل وجبال. قال الفراء : وجمع الثمار ثمر ؛ مثل كتاب وكتب ، وجمع الثمر أثمار ؛ مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر ؛ يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو "وكان له ثمر" بضم الثاء وإسكان الميم ، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس : ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في "الأنعام" نحو هذا مبينا. ذكر النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال : لو سمعت أحدا يقرأ "وكان له ثمر" لقطعت لسانه ؛ فقلت للأعمش : أتأخذ بذلك ؟ فقال : لا ؟ ولا نعمة عين. فكان يقرأ "ثمر" ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس : فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار ، ثم جمع ثمار على ثمر ؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم ؛ لأن قوله : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} يدل على أن له ثمرا.
قوله تعالى : {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة ، والتحاور التجاوب. ويقال : كلمته فما أحار إلي جوابا ، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا ؛ أي ما رد جوابا. {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} النفر : الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد ، حسبما تقدم بيانه.
(10/403)
الآية : 35 {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً}
الآية : 36 {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً}
قوله تعالى : {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} قيل : أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي بكفره ، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} أنكر فناء الدار. {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي لا أحسب البعث كائنا. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه ؛ وهو معنى قوله : {لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام "منهما". وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة "منها" على التوحيد ، والتثنية أولى ؛ لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.
الآية : 37 {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}
الآية : 38 {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}
قوله تعالى : {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} يهوذا أو تمليخا ؛ على الخلاف في اسمه. {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. و {سَوَّاكَ رَجُلاً} أي جعلك معتدل القامة والخلق ، صحيح الأعضاء ذكرا. {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} كذا قرأه أبو عبدالرحمن السلمي وأبو العالية. وروي عن الكسائي "لكن هو الله" بمعنى لكن الأمر هو الله ربي ، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون "لكنا" بإثبات الألف. قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ،
(10/404)
تقديره : لكن الله هو ربي أنا ، فحذفت الهمزة من "أنا" طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف "أنا" في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس : مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة : الأصل لكن أنا ، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك ، وأنشدنا الكسائي :
لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها
أراد : لله إنك ، فأسقط إحدى اللامين من "لله" وحذف الألف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا. وقال أبو حاتم : ورووا عن عاصم "لكنا هو الله ربي" وزعم أن هذا لحن ، يعني إثبات الألف في الإدراج. قال الزجاج : إثبات الألف في "لكنا هو الله ربي" في الإدراج جيد ؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال : وفي قراءة أبي "لكن أنا هو الله ربي". وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب "لكنا" في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف. وقال الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما
وقال الأعشى :
فكيف أنا وانتحال القوافي ... بعد المشيب كفى ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} "هو" ضمير القصة والشأن والأمر ؛ كقوله : {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء : 97] وقوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص : 1]. {وَلا أُشْرِكُ
(10/405)
بِرَبِّي أَحَداً} دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه ، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه ؛ وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه ، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى ، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه ؛ فهو إشراك.
الآية : 39 {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً}
الآية : 40 {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}
الآية : 41 {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}
قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي بالقلب ، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه ، إذ قال : {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} لكهف : 35] و"ما" في موضع رفع ، تقديره : هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء : الأمر ما شاء الله ، أو هو ما شاء الله ؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى. وقيل : الجواب مضمر ، أي ما شاء الله كان ، وما لا يشاء لا يكون. {لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك ، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.
الثانية : - قال أشهب قال مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة : رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا "ما شاء الله لا قوة إلا بالله". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة : "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت : بلى يا رسول الله ، قال "لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم" أخرجه مسلم
(10/406)
في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه : فقال "يا أبا موسى أو يا عبدالله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - " قلت : ما هي يا رسول الله ، قال : "لا حول ولا قوة إلا بالله" . وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت : بلى ؛ فقال "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وروي أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال : باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة : إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت ، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت ، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له : "هديت وكفيت ووقيت" . وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي" . وقال الحاكم أبو عبدالله في علوم الحديث : سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء" من الضعيف ؟ قال : الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين" . وقد قال قوم : ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به. وروي أن من قال أربعا أمن من أربع : من قال هذه أمن من العين ، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان ، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس ، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
(10/407)
قوله تعالى : {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} "إن" شرط "ترن" مجزوم به ، والجواب "فعسى ربي" و"أنا" فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر "إن ترن أنا أقل منك" بالرفع ؛ يجعل "أنا" مبتدأ و"أقل" خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمفعول الأول النون والياء ؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها ، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و {فَعَسَى} بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ} أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي على جنتك. {حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي مرامي من السماء ، وأحدها حسبانة ؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي : والحسبانة السحابة ، والحسبانة الوسادة ، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري : والحسبان "بالضم" : العذاب. وقال أبو زياد الكلابي : أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب ، قال الله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن : 5]. وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج : الحسبان من الحساب ؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب ، وهو حساب ما اكتسبت يداك ؛ فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا : سهام قصار يرمى بها في طلق واحد ، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب. {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم ، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض ؛ و"زلقا" تأكيد لوصف الصعيد ؛ أي وتزل عنها الأقدام لملاستها. يقال : مكان زلق "بالتحريك" أي دحض ، وهو في الأصل مصدر قولك : زلقت رجله تزلق زلقا ، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة :
كأنها حقباء بلقاء الزلق
والمزلقة والمزلقة : الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق ، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه ؛ قال الجوهري. والزلق المحلوق ، كالنقض والنقض. وليس المراد
(10/408)
أنها تصير مزلقة ، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر ؛ قاله القشيري. {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} أي غائرا ذاهبا ، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم ؛ كما يقال : رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح ؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم :
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
آخر :
هريقي من دموعهما سجاما ... ضباع وجاوبي نوحا قياما
أي نائحات. وقيل : أو يصبح ماؤها ذا غور ؛ فحذف المضاف ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] ذكره النحاس. وقال الكسائي : ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغوورا ، أي سفل في الأرض ، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغوورا ؛ دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال :
أغارت عينه أم لم تغارا
وغارت الشمس تغور غيارا ، أي غربت. قال أبو ذؤيب :
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي لن تستطيع رد الماء الغائر ، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل : فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.
الآية : 42 {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}
قوله تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اسم ما لم يسم فاعله مضمر ، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى "أحيط بثمره" أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى
(10/409)
يديه على الأخرى ندما ؛ لأن هذا يصدر من النادم. وقيل : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق ؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد ، من قولهم : في يده مال ، أي في ملكه مال. ودل قوله "فأصبح" على أن هذا الإهلاك جرى بالليل ؛ كقوله : {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم : 19] ويقال : أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خالية قد سقط بعضها على بعض ؛ مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت ، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت ، وكذلك إذا سقطت ؛ ومنه قوله تعالى : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل : 52] ويقال ساقطة ؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها ؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل ، وهذا من أعظم الجوانح ، مقابلة على بغية. {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي يا ليتني عرفت نعم الله علي ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.
الآية : 43 {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}
قوله تعالى : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} "فئة" اسم "تكن" و"له" الخبر. "ينصرونه" في موضع الصفة ، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون "ينصرونه" الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم "له". وأبو العباس يخالفه ، ويحتج بقول الله عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص : 4]. وقد أجاز سيبويه الآخر. و"ينصرونه" على معنى فئة ؛ لأن معناها أقوام ، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره ؛ أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم.
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي ممتنعا ؛ قاله قتادة. وقيل : مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في "آل عمران". والهاء عوض من الياء التي نقصت
(10/410)
من وسطه ، أصله فيء مثل فيع ؛ لأنه من فاء ، ويجمع على فئون وفئات ، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله ، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد.
الآية : 44 {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}
قوله تعالى : {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اختلف في العامل في قوله "هنالك" وهو ظرف ؛ فقيل : العامل فيه : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} ولا كان هنالك ؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك ، أي لما أصابه من العذاب. وقيل : تم الكلام عند قوله : {مُنْتَصِراً}. والعامل في قوله : {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ} . وتقديره على التقديم والتأخير : الولاية لله الحق هنالك ، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي "الحق" بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة "الحق" بالخفض نعتا لله عز وجل ، والتقدير : لله ذي الحق. قال الزجاج : ويجوز "الحق" بالنصب على المصدر والتوكيد ؛ كما تقول : هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي "الولاية" بكسر الواو ، الباقون بفتحها ، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل : الولاية بالفتح من الموالاة ؛ كقوله : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة : 257]. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد : 11]. وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة ؛ كقوله : {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار : 19] أي له الملك والحكم يومئذ ، أي لا يرد أمره إلى أحد ؛ والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوي والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد : إنها بفتح الواو للخالق ، وبكسرها للمخلوق. {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به ، وليس ثم غير يرجى منه ، ولكنه أراد في ظن الجهال ؛ أي هو خير من يرجى. {وَخَيْرٌ عُقْباً} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى "عقبا" ساكنة القاف ، الباقون بضمها ، وهما بمعنى واحد ؛ أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به. يقال : هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه ، أي آخره.
(10/411)
الآية : 45 {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا ، أي شبهها. {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي بالماء. {نَبَاتُ الْأَرْضِ} حتى استوى. وقيل : إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء ؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في "يونس" مبينا. وقالت الحكماء : إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع ، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا ، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى ، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا ، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل : يا رسول الله ، إني أريد أن أكون من الفائزين ؛ قال : "ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي" . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه". {فَأَصْبَحَ} أي النبات {هَشِيماً} أي متكسرا من اليبس متفتتا ، يعني بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم : كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر ، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم : ما فلان إلا هشيمة كرم ؛ إذا كان سمحا. ورجل هشيم : ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف.واهتشم
(10/412)
واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال : هشم الثريد ؛ ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو ، وفيه يقول عبدالله بن الزبعرى :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له ، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة ، وهشم ذلك الخبز ، يعني كسره وثرده ، ونحر تلك الإبل ، ثم أمر الطهاة فطبخوا ، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة ؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم ؛ فسمي بذلك هاشما. {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه ؛ قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة : تنسفه. ابن كيسان : تذهب به وتجيء. ابن عباس : تديره ؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف "تذريه الريح". قال الكسائي : وفي قراءة عبدالله "تذريه". يقال : ذرته الريح تذروه ذروا و[تذريه] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء : أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء :
فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
قوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} من الإنشاء والإفناء والإحياء ، سبحانه.