تفسير سورة الإسراء
الإسراء : ) 79 ( ومن الليل فتهجد . . . . .) الاسراء 79 (
فيه ست مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ومن الليل ( من للتبعيض والفاء في قوله فتهجد ناسقة على مضمر أي قم فتهجد ) به ( أي بالقرآن والتهجد من الهجود وهو من الأضداد يقال : هجد نام وهجد سهر على الضد قال الشاعر
ألا زارت وأهل منى هجود وليت خيالها بمنى يعود آخر : ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود يعني نياما وهجد وتهجد بمعنى وهجدته أي أنمته وهجدته أي أيقظته والتهجد التيقظ بعد رقدة فصار اسما للصلاة لأنه ينتبه لها فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة كذلك كانت صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : الهجود النوم يقال : تهجد الرجل إذا سهر وألقى الهجود وهو النوم ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا لأن المتهجد هو الذي يلقى الهجود الذي هو النوم عن نفسه وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس إذا ألقى ذلك عن نفسه ومثله قوله تعالى : فظلتم تفكهون معناه تندمون أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي انبساط النفوس وسرورها يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك والمعنى في الآية : ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة الثانية قوله تعالى : ) نافلة لك ( أي كرامة لك قاله مقاتل واختلف العلماء في تخصيص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالذكر دون أمته فقيل : كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله : نافلة لك أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة قلت : وفي هذا التأويل بعد لوجهين : أحدهما تسمية الفرض بالنفل وذلك مجاز لا حقيقة الثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) خمس صلوات فرضهن الله على العباد ) وقوله تعالى : ) هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ) وهذا نص فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على الخمس هذا ما لا يصح وإن كان قد روي عنه عليه السلام
(10/308)
" صفحة رقم 309 "
) ثلاث علي فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسواك ) وقيل : كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة كما قالت عائشة على ما يأتي مبينا في سورة المزمل إن شاء الله تعالى وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه مغفور له فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض قال معناه مجاهد وغيره وقيل : عطية لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة الثالثة قوله تعالى : ) عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال : الأول وهو أصحها الشفاعة للناس يوم القيامة قاله حذيفة بن اليمان وفي صحيح البخاري عن بن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول : يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود وفي صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأوتى فأقول أنا لها ) وذكر الحديث وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا سئل عنها قال : ) هي الشفاعة ) قال : هذا حديث حسن صحيح
(10/309)
" صفحة رقم 310 "
الرابعة إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم وهي الخاصة به ( صلى الله عليه وسلم ) ولأجل ذلك قال : ) أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) قال النقاش : لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث شفاعات : العامة وشفاعة في السبق إلى الجنة وشفاعة في أهل الكبائر بن عطية : والمشهور أنهما شفاعتان فقط : العامة وشفاعة في إخراج المذنبين من النار وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء وقال القاضي أبو الفضل عياض : شفاعات نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة خمس شفاعات : العامة والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب الثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيهم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة فمنعتها على أصولهم الفاسدة وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول الخامسة قال القاضي عياض : وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورغبتهم فيها وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال : إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنها لا تكون إلا للمذنبين فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة لأنها لأصحاب الذنوب أيضا وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة
(10/310)
" صفحة رقم 311 "
القول الثاني أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة قلت : وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ) الحديث القول الثالث ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) معه على كرسيه وروت في ذلك حديثا وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ولا ينكر مع ذلك أن يروى والعلم يتأوله وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا من أنكر جوازه على تأويله قال أبو عمر ومجاهد : وإن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم : أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال : تنتظر الثواب ليس من النظر قلت : ذكر هذا في باب بن شهاب في حديث التنزيل وروي عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال : يجلسه على العرش وهذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش قائما بذاته ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها بل إظهارا لقدرته وحكمته وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا أو كان العرش له مكانا قيل : هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض لأن استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش بل هو مستو على عرشه
(10/311)
" صفحة رقم 312 "
كما أخبر عن نفسه بلا كيف وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه وأما قوله في الأخبار : ) معه ) فهو بمنزلة قوله : إن الذين عند ربك ورب بن لي عندك بيتا في الجنة وإن الله لمع المحسنين العنكبوت ونحو ذلك كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة لا إلى المكان الرابع إخراجه من النار بشفاعته من يخرج قاله جابر بن عبد الله ذكره مسلم وقد ذكرناه في [ كتاب التذكرة ] والله الموفق السادسة اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين : أحدهما أن الباريء تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة فيه أو بمعرفة وجه الحكمة الثاني أن قيام الليل فيه الخلوة مع الباريء والمناجاة دون الناس فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم فأجلهم فيه درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يعطى ما لا يعطى أحد ويشفع ما لا يشفع أحد وعسى من الله عز وجل واجبة ومقاما نصب على الظرف أي في مقام أو إلى مقام وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ) فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات بين يدي الملوك
الإسراء : ) 80 ( وقل رب أدخلني . . . . .) الاسراء 80 (
قيل : المعنى أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق ليتصل بقوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له
(10/312)
" صفحة رقم 313 "
الوعد وقيل : أدخلني في المأمور وأخرجني من المنهي وقيل : علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة وهذا المعنى رواه الترمذي عن بن عباس قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا قال : هذا حديث حسن صحيح وقال الضحاك : هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنا أبو سهل : حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون : ليخرجن الأعز منها الأذل المنافقون يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة وقيل : المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق إذا أمتني قال معناه مجاهد والمدخل والمخرج [ بضم الميم ] بمعنى الإدخال والإخراج كقوله : أنزلني منزلا مباركا المؤمنون أي إنزالا لا أرى فيه ما أكره وهي قراءة العامة وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم مدخل ومخرج بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج فالأول رباعي وهذا ثلاثي وقال بن عباس : أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث وقيل : أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها عندك وقيل : الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة فهي دعاء ومعناه : رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري وقوله : ) واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( قال الشعبي وعكرمة : أي حجة ثابتة وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله قال : فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له
الإسراء : ) 81 ( وقل جاء الحق . . . . .) الاسراء 81 (
(10/313)
" صفحة رقم 314 "
فيه ثلاث مسائل : الأولى روى البخاري والترمذي عن بن مسعود قال : دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطعنها بمخصرة في يده وربما قال بعود ويقول : ) جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) لفظ الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح وكذا في حديث مسلم نصبا وفي رواية صنما قال علماؤنا : إنما كانت بهذا العدد لأنهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين وقوله : ) فجعل يطعنها بعود في يده ) يقال : إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه أو في قفاه خر لوجهه وكان يقول : ) جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) حكاه أبو عمر والقاضي عياض وقال القشيري : فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه ثم أمر بها فكسرت الثانية في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى قال بن المنذر : وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها قال المهلب : وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال وقد تقدم حرق بن عمر رضي الله عنه وقد هم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها
(10/314)
" صفحة رقم 315 "
) دعوها فإنها ملعونة ) فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه الثالثة ماذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ) الحديث خرجه الصحيحان ومن هذا الباب هتك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الستر الذي فيه الصور وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم وحسبك وسيأتي هذا المعنى في النمل إن شاء الله تعالى قوله تعالى : ) وقل جاء الحق ( أي الإسلام وقيل : القرآن قاله مجاهد وقيل : الجهاد ) وزهق الباطل ( قيل الشرك وقيل الشيطان قاله مجاهد والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه وزهق الباطل : بطل الباطل ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا وأزهقتها ) إن الباطل كان زهوقا ( أي لا بقاء له والحق الذي يثبت
الإسراء : ) 82 ( وننزل من القرآن . . . . .) الاسراء 82 (
فيه سبع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) وننزل ( قرأ الجمهور بالنون وقرأ مجاهد وينزل بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص ومن لابتداء الغاية ويصح أن تكون لبيان الجنس كأنه قال : وننزل ما فيه شفاء من القرآن وفي الخبر ) من لم يستشف بالقرآن
(10/315)
" صفحة رقم 316 "
فلا شفاه الله ) وأنكر بعض المتأولين أن تكون من للتبعيض لأنه يحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه بن عطية : وليس يلزمه هذا بل يصح أن تكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض فكأنه قال : وننزل من القرآن شيئا شفاء ما فيه كله شفاء الثانية اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين : احدهما أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى الثاني شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه وقد روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال : بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سرية ثلاثين راكبا قال : فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا قال : فلدغ سيد الحي فأتونا فقالوا : فيكم أحد يرقي من العقرب في رواية بن قتة : إن الملك يموت قال : قلت أنا نعم ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة قال : فقرأت عليه الحمد لله رب العالمين سبع مرات فبرأ في رواية سليمان بن قتة عن أبي سعيد : فأفاق وبرأ فبعث إلينا بالنزل وبعث إلينا بالشاء فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم حتى أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته الخبر فقال : ) وما يدريك أنها رقية ) قلت : يا رسول الله شيء ألقي في روعي قال : ) كلوا وأطعمونا من الغنم ) خرجه في كتاب السنن وخرج في [ كتاب المديح ] من حديث السري بن يحيى قال : حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن الحسن عن أبي أمامة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) ينفع باذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب بزعفران أو بمشق يعني المغرة أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر السامة والغامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبي فروة وما ولد ) كذا قال ولم يقل من شر أبي قترة العين اللامة : التي تصيب بسوء تقول : أعيذه من كل هامة لامة وأما قوله
(10/316)
" صفحة رقم 317 "
أعيذه من حادثات اللمة فيقول : هو الدهر ويقال الشدة والسامة : الخاصة يقال : كيف السامة والعامة والسامة السم ومن أبي فروة وما ولد وقال : ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا : وصب بأرضنا فقال : خذوا تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم أو قال : نوصيكم رقية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا ) ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع آيات من أول البقرة والآية التي فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها وخواتيم سورة البقرة من موضع لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخرها وعشرا من أول آل عمران وعشرا من آخرها وأول آية من النساء وأول آية من المائدة وأول آية من الأنعام وأول آية من الأعراف والآية التي في الأعراف إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض حتى تختم الآية والآية التي في يونس من موضع قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين والآية التي في طه وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى طه وعشرا من أول الصافات وقل هو الله أحد الإخلاص والمعوذتين تكتب في إناء نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجي به ثم يصلي ركعتين ثم يستشفي الله عز وجل يفعل ذلك ثلاثة أيام قدر ما يكتب في كل يوم كتابا في رواية : ومن شر أبي قترة وما ولد وقال : ) فامسحوا نواصيكم ) ولم يشك وروى البخاري عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها فسألت الزهري كيف كان ينفث قال : كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه وروى مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا اشتكى قرأ على نفسه
(10/317)
" صفحة رقم 318 "
المعوذتين وتفل أو نفث قال أبو بكر بن الأنباري : قال اللغويون تفسير نفث نفخ نفخا ليس معه ريق ومعنى تفل نفخ نفخا معه ريق قال الشاعر : فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود وقال ذو الرمة : ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه متى يحس منه مائح القوم يتفل أراد ينفخ بريق وسيأتي ما للعلماء في النفث في سورة الفلق إن شاء الله تعالى الثالثة روى بن مسعود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكره الرقى إلا بالمعوذات قال الطبري : وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين إذ في نقلته من لا يعرف ولو كان صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا لقوله عليه السلام في الفاتحة ) ما أدراك أنها رقية ) وإذا جاز الرقى بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن وروي عنه عليه السلام أنه قال : ) شفاء أمتي في ثلاث آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم ) وقال رجاء الغنوي : ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاء له الرابعة واختلف العلماء في النشرة وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه فأجازها سعيد بن المسيب قيل له : الرجل يؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر قال : لا بأس به وما ينفع لم ينه عنه ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القرآن ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض وقال المازري أبو عبد الله : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل ومنعها الحسن وإبراهيم النخعي قال النخعي : أخاف أن يصيبه بلاء وكأنه ذهب إلى أنه ما يجيء به القرآن فهو
(10/318)
" صفحة رقم 319 "
إلى أن يعقب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء وقال الحسن : سألت أنسا فقال : ذكروا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها من الشيطان وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن النشرة فقال : ) من عمل الشيطان ) قال بن عبد البر وهذه آثار لينة ولها وجوه محتمله وقد قيل : إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام وعن المداواة المعروفة والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل فهي كوضوء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) قلت قد : ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه الخامسة قال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين وعلى هذا القول جماعة أهل العلم لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى فهو كالرقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها وقد روى عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إذا فزع أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون ) وكان عبد الله يعلمها ولده من أدرك منهم ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه فإن قيل : فقد روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من علق شيئا وكل إليه ) ورأى بن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا شديدا فقطعها وقال : إن آل بن مسعود لأغنياء عن الشرك ثم قال : إن التمائم والرقى والتولة من الشرك قيل : ما التولة قال : ما تحببت به لزوجها وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ) من علق تميمة فلا أتم الله له
(10/319)
" صفحة رقم 320 "
ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبا ) قال الخليل بن أحمد : التميمة قلادة فيها عوذ والودعة خرز وقال أبو عمر : التميمة في كلام العرب القلادة ومعناه عند أهل العلم ما علق في الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها أن تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل فلا أتم الله عليه صحته وعافيته ومن تعلق ودعة وهي مثلها في المعنى فلا ودع الله له أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية والله أعلم وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل وهو المعافي والمبتلي لا شريك له فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم وعن عائشة قالت : ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى وما روي عن بن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون شركا وقوله عليه السلام : ) من علق شيئا وكل إليه ) فمن علق القرآن ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن وسئل بن المسيب عن التعويذ أيعلق قال : إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به وهذا على أن المكتوب قرآن وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط ورخص أبو جعفر محمد بن علي في التعويذ يعلق على الصبيان وكان بن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان السادسة قوله تعالى : ) ورحمة للمؤمنين ( تفريح الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته كما روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) قال هذا حديث حسن صحيح غريب وقد تقدم ) ولايزيد الظالمين إلا خسارا ( لتكذيبهم قال
(10/320)
" صفحة رقم 321 "
قتادة : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثم قرأ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الآية ونظير هذه الآية قوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وقيل : شفاء في الفرائض والأحكام لما فيه من البيان
الإسراء : ) 83 ( وإذا أنعمنا على . . . . .) الاسراء 83 (
قوله تعالى : ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ( أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ومعنى نأى بجانبه أي تكبر وتباعد وناء مقلوب منه والمعنى : بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل يقال : نأى الشيء أي بعد ونأيته ونأيت عنه بمعنى أي بعدت وأنأيته فانتأى أي أبعدته فبعد وتناءوا تباعدوا والمنتأى : الموضع البعيد قال النابغة : فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقرأ بن عامر في رواية بن ذكوان ناء مثل باع الهمزة مؤخرة وهو على طريقة القلب من نأى كما يقال : راء ورأى وقيل : هو من النوء وهو النهوض والقيام وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء وهو من الأضداد وقرىء ونئي بفتح النون وكسر الهمزة والعامة نأى في وزن رأى ) وإذا مسه الشر كان يؤسا ( أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط لأنه لا يثق بفضل الله تعالى
(10/321)