الآية : 121 {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
الآية : 122 {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
قوله تعالى : {شَاكِراً} أي كان شاكرا. {لأَنْعُمِهِ} الأنعم جمع نعمة ، وقد تقدم. {اجْتَبَاهُ} أي اختاره. { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } قيل : الولد الطيب. وقيل الثناء الحسن. وقيل : النبوة. وقيل : الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد. وقيل : إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل : بقاء ضيافته وزيارة قبره. وكل ذلك أعطاه الله وزاده صلى الله عليه وسلم. {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
"من" بمعنى مع ، أي مع الصالحين ؛ لأنه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين. وقد تقدم.
الآية : 123 {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
قال ابن عمر : أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام. وقال الطبري : أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام. وقيل : أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه ؛ قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع ؛ لقوله تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة : 48].
(10/198)
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول - لما تقدم في الأصول - والعمل به ، ولا درك على الفاضل في ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام ، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال : {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90]. وقال هنا : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} .
الآية : 124 {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه ، بل كان سمحا لا تغليظ فيه ، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه ، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال : تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، فاختاروا الأحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف ؛ فقالت طائفة : إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم ، وأخبرهم بفضيلته على غيره ، فناظروه أن السبت أفضل ؛ فقال الله له : "دعهم وما اختاروا لأنفسهم". وقيل : إن الله تعالى لم يعينه لهم ، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه ، فعينت اليهود السبت ؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الأحد ؛ لأن الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الأمة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة ، فكانت خير الأمم أمة. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي
(10/199)
اختلفوا فيه فهدانا الله له - قال يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" فقوله : "فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه" يقوي قول من قال : إنه لم يعين لهم ؛ فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل "اختلفوا". وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام : "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا" . وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه "فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه". وهو حجة للقول الأول. وقد روي : "إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع" .
قوله تعالى : {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} يريد في يوم الجمعة كما بيناه ؛ اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الحق ، وحذر الله الأمة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود.
الآية : 125 {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
فيه مسألة واحدة- هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش ، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف ، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين ، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل : إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.
(10/200)
الآية : 126 {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية ، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية ، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا ؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يُدعى ويُوعظ ، إلى الذي يجادل ، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت. روى الدارقطني عن ابن عباس قال : لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شُق بطنه ، واصطلم أنفه ، وجدعت أذناه ، فقال : "لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا" ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه ، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر ، ثم قدمه فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه ، حتى صلى عليه سبعين صلاة ، وكان القتلى سبعين ، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} - إلى قوله – {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} فصبر. رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة ، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
الثانية : واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه ؛ فقالت فرقة : له ذلك ؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد ؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك ؛ واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" . رواه الدارقطني وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى.
(10/201)
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر ، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ؛ فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له : "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" . وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك ، وهي رذيلة لا انفكاك عنها ، فينبغي أن يتجنبها لنفسه ؛ فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له ؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة ، نسختها {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ}
الثالثة : في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص ؛ فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به ، ولا يتعدى قدر الواجب ، وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى. والحمد لله.
الرابعة : سمى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة ، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية ، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول ، هذا بعكس قوله : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران : 54] وقوله : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة : 15] فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة ؛ قاله ابن عطية.
الآية : 127 {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}
الآية : 128 {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
فيه مسألة واحدة : قال ابن زيد : هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} ضيق جمع ضيقة ؛ قال الشاعر :
كشف الضيقة عنا وفسح
(10/202)
وقراءة الجمهور بفتح الضاد.
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد ، ورويت عن نافع ، وهو غلظ ممن رواه. قال بعض اللغويين : الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الأخفش : الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى : لا يضيق صدرك من كفرهم. وقال الفراء : الضيق ما ضاف عنه صدرك ، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق ؛ مثل الدار والثواب. وقال ابن السكيت : هما سواء ؛ يقال : في صدره ضيق وضيق. القتبي : ضيق مخفف ضيق ؛ أي لا تكن في أمر ضيق فخفف ؛ مثل هين وهين. وقال ابن عرفة : يقال ضاق الرجل إذا بخل ، وأضاق إذا افتقر. وقوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الإحسان. وقيل لهَرم بن حِبان عند موته : أوصنا ؛ فقال : أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى آخرها.
(10/203)