[b]الآية : 26 {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}
قوله تعالى : {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل. {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما : إنه النمرود بن كنعان وقومه ، أرادوا صعود السماء وقتال أهله ؛ فبنوا الصرح ليصعدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع ، فخر. كما تقدم بيانه في آخر سورة "إبراهيم". ومعنى {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} أي أتى أمره البنيان ، إما زلزلة أو ريحا فخربته. قال ابن عباس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع ، وعرضه ثلاثة آلاف. وقال كعب ومقاتل : كان طول فرسخين ، فهبت ريح فألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي. ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سمي بابل ، وما كان لسان قبل ذلك إلا السريانية. وقرأ ابن هرمز وابن محيصن "السقف" بضم السين والقاف جميعا. وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفا ؛ كما تقدم في "وبالنجم" في الوجهين. والأشبه أن يكون جمع سقف. والقواعد : أصول البناء ، وإذا اختلت القواعد سقط البناء. وقوله : "من فوقهم" قال ابن الأعرابي : وُكِد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول : خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله : "من فوقهم" ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال : {مِنْ فَوْقِهِمْ} أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. وقيل : إن المراد بالسقف السماء ؛ أي إن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم ؛ قال ابن عباس. وقيل : إن قوله : {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
(10/97)
الْقَوَاعِدِ} تمثيل ، والمعنى : أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل : المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل : المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه. وعلى هذا اختلف في الذين خر عليهم السقف ؛ فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدم. وقيل : إنه بختنصر وأصحابه ؛ قال بعض المفسرين. وقيل : المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر ؛ قال الكلبي. وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل ، والله أعلم. {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقال ابن عباس : يعني البعوضة التي أهلك الله بها نمرودا.
الآية : 27 {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} أي بزعمكم وفي دعواكم ، أي الآلهة التي عبدتم دوني ، وهو سؤال توبيخ. {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي تعادون أنبيائي بسببهم ، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير "شركاي" بياء مفتوحة من غير همز ، والباقون بالهمز. وقرأ نافع "تشاقون" بكسر النون على الإضافة ، أي تعادونني فيهم. وفتحها الباقون. {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال ابن عباس : أي الملائكة. وقيل المؤمنون. {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ} أي الهوان والذل يوم القيامة. {وَالسُّوءَ} أي العذاب. {عَلَى الْكَافِرِينَ}
الآية : 28 {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(10/98)
قوله تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} هذا من صفة الكافرين. و {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} نصب على الحال ؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا : {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} أي من شرك. فقالت لهم الملائكة : {بَلَى} قد كنتم تعملون الأسواء. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال عكرمة. نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها ؛ فقال : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} بقبض أرواحهم. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} يعني في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه الصلح ؛ قال الأخفش. الثاني : الاستسلام ؛ قال قطرب. الثالث : الخضوع ؛ قاله مقاتل. { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} يعني من كفر. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني أن أعمالهم أعمال الكفار. وقيل : إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين ؛ فنزلت فيهم. وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم ، ويخضع ويذل ، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان ؛ كما قال : {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر : 85].وقد تقدم هذا المعنى.وتقدم في الانفال يتوفون بالضرب والهوان ، وكذلك في الانعام وقد ذكرناه في كتاب التذكرة
الآية : 29 {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}
قوله تعالى : {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل : هو بشارة لهم بعذاب القبر ؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل : لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل : لكل دركة
(10/99)
باب مفرد ، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها. {فَلَبِئْسَ مَثْوَى} أي مقام {الْمُتَكَبِّرِينَ} الذين تكبروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى ، وقد بينهم بقوله الحق : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات : 35].
3 - الآية : 30 {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}
الآية : 31 {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}
الآية : 32 {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} أي قالوا : أنزل خيرا ؛ وتم الكلام. و"ماذا" على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون : ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون : أنزل الله عليه الخير والهدى ، والمراد القرآن. وقيل : إن هذا يقال لأهل الإيمان يوم القيامة. قال الثعلبي : فإن قيل : لم ارتفع الجواب في قوله : {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل : 24] وانتصب في قوله : "خيرا" فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل ، فكأنهم قالوا : الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين. والمؤمنين آمنوا بالنزول فقالوا : أنزل خيرا ، وهذا مفهوم معناه من الإعراب ، والحمد لله.
قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} قيل : هو من كلام الله عز وجل. وقيل : هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا : الجنة ؛ أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة {وَلَدَارُ
(10/100)
الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا ؛ لفنائها وبقاء الآخرة. {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} فيه وجهان : قال الحسن : المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا ؛ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل : المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة ؛ وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون {جَنَّاتِ عَدْنٍ} بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل : ارتفع على تقدير هي جنات ، فهي مبينة لقوله : "دار المتقين". أو تكون مرفوعة بالابتداء ، التقدير : جنات عدن نعم دار المتقين. {يَدْخُلُونَهَا} في موضع الصفة ، أي مدخولة. وقيل : "جنات" رفع بالابتداء ، وخبره "يدخلونها" وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تقدم معناه في البقرة. {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي مما تمنوه وأرادوه. {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي مثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} قرأ الأعمش وحمزة {تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} في الموضعين بالياء ، واختاره أبو عبيد ؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال : إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء ؛ لأن المراد به الجماعة من الملائكة. و {طَيِّبِينَ} فيه ستة أقوال : الأول : "طيبين" طاهرين من الشرك. الثاني : صالحين. الثالث : زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع : طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس : طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس : "طيبين" أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم ؛ بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني : أن يكون تبشيرا لهم بالجنة ؛ لأن السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال : حدثني حيوة قال أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية {الَّذِينَ
(10/101)
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} . وقال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال : ربك مقرئك السلام. وقال مجاهد : إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في كتاب التذكرة وذكرنا هناك الأخبار الواردة في هذا المعنى ، والحمد لله. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني : أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني في الدنيا من الصالحات.
الآية : 33 {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
قوله تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} هذا راجع إلى الكفار ، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "يأتيهم الملائكة" بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي بالعذاب من القتل كيوم بدر ، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل : المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها ، ولكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب ، فأضيف ذلك إليهم ، أي عاقبتهم العذاب. {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.
الآية : 34 {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
(10/102)
قوله تعالى : {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} قيل : فيه تقديم وتأخير ؛ التقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فأصابهم عقوبات كفرهم وجزاء الخبيث من أعمالهم. {وَحَاقَ بِهِمْ} أي أحاط بهم ودار. {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي عقاب استهزائهم.
الآية : 35 {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي شيئا ، و"من" صلة. قال الزجاج : قالوه استهزاء ، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين. وقد مضى. {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس عليهم إلا التبليغ ، وأما الهداية فهي إلى الله تعالى.
الآية : 36 {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم ، وكل من دعا إلى الضلال. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} أي أرشده إلى دينه وعبادته.
(10/103)
{وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره ، وهذا يرد على القدرية ؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى ، والله تعالى يقول : {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقد تقدم. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي فسيروا معتبرين في الأرض {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك.
الآية : 37 {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
قوله تعالى : {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} أي لا يرشد من أضله ، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. "فيهدي" فعل مستقبل وماضيه هدى. و"من" في موضع نصب "بيهدي" ويجوز أن يكون هدى يهدي بمعنى اهتدى يهتدي ، رواه أبو عبيد عن الفراء قال : كما قرئ {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى} [يونس : 35] بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد. ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء ، وليس بمتهم فيما يحكيه. النحاس : حكي لي عن محمد بن يزيد كأن معنى {لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده ، قال : ولا يكون يهدي بمعنى يهتدي إلا أن يكون يهدي أو يهدي. وعلى قول الفراء "يهدي" بمعنى يهتدي ، فيكون "من" في موضع رفع ، والعائد إلى "من" الهاء المحذوفة من الصلة ، والعائد إلى اسم "إن" الضمير المستكن في "يضل". وقرأ الباقون "لا يهدى" بضم الياء وفتح الدال ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، على معنى من أضله الله لم يهده هاد ؛ دليله قوله : {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف : 186] و"من" في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله ، وهي بمعنى الذي ، والعائد عليها من صلتها محذوف ، والعائد على اسم إن من "فإن الله" الضمير المستكن في "يضل". {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} تقدم معناه.
(10/104)
الآية : 38 {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} هذا تعجيب من صنعهم ، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. وقال أبو العالية : كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه ، وكان في بعض كلامه : والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا ، فأقسم المشرك بالله : لا يبعث الله من يموت ؛ فنزلت الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل : يا ابن عباس ، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة ، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس : كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس ، لو كان علي مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. "بلى" هذا رد عليهم ؛ أي بلى ليبعثنهم. {عْداً عَلَيْهِ حَقّاً} مصدر مؤكد ؛ لأن قوله "يبعثهم" يدل على الوعد ، أي وعد البعث وعدا حقا. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أنهم مبعوثون. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". وقد تقدم.وياتي.
الآية : 39 {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}
قوله تعالى : {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أي ليظهر لهم. {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من أمر البعث. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالبعث وأقسموا عليه {أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} وقيل : المعنى
(10/105)
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه ، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور : منها البعث ، ومنها عبادة الأصنام ، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد ؛ كأبي طالب.
الآية : 40 {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
أعلمهم سهولة الخلق عليه ، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ، ولا في غير ذلك مما نحدثه ؛ لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي "فيكون" نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج : يجوز أن يكون نصبا على جواب "كن". الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقال ابن الأنباري : أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفي الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق ؛ لأنه لو كان قوله : "كن" مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان ، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها ؛ والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين : إما لكونه جاهلا لا يدري ، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق ، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه ، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد ، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له ؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا ، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد ؛ وهذا قول الطبيعيين ، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.
الآية : 41 {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(10/106)
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قد تقدم في "النساء" معنى الهجرة ، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله ، وترك السيئات. وقيل : "في" بمعنى اللام ، أي لله. {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار ، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا ، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة ؛ قاله الكلبي. وقيل : نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال قتادة : المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ؛ ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} في الحسنة ستة أقوال : الأول : نزول المدينة ؛ قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني : الرزق الحسن ؛ قاله مجاهد. الثالث : النصر على عدوهم ؛ قاله الضحاك. الرابع : إنه لسان صدق ؛ حكاه ابن جريج. الخامس : ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس : ما بقي لهم في الدنيا من الثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله ، والحمد لله. {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي ولأجر دار الآخرة أكبر ، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده ؛ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان : 20] "لو كانوا يعلمون" أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. وقيل : هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال : هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر ؛ ثم تلا عليهم هذه الآية.
الآية : 42 {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
قيل : "الذين" بدل من "الذين" الأول. وقيل : من الضمير في "لنبوئنهم" وقيل : هم الذين صبروا على دينهم. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق : خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر ، وإذا عجز عن أمر توكل ؛ قال الله تعالى : {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
(10/107)
الآية : 43 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
الآية : 44 {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} قراءة العامة "يوحى" بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم "نوحي إليهم" بنون العظمة وكسر الحاء. نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فهلا بعث إلينا ملكا ؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} إلى الأمم الماضية يا محمد "إلا رجالا" آدميين. {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} قال سفيان : يعني مؤمني أهل الكتاب. {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. وقيل : المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس : أهل الذكر أهل القرآن. وقيل : أهل العلم ، والمعنى متقارب. {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} قيل : "بالبينات ، متعلق "بأرسلنا". وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال ، "فإلا" بمعنى غير ؛ كقوله : لا إله إلا الله ، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم. وقيل : في الكلام حذف دل عليه "أرسلنا" أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق "بالبينات" بـ "أرسلنا" الأول على هذا القول ؛ لأن ما قبل "إلا" لا يعمل فيما بعدها ، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة ، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل : مفعول "بتعلمون" والباء زائدة ، أو نصب بإضمار أعني ؛ كما قال الأعشى :
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف
...
ولا قائلا إلا هو المتعيبا
(10/108)
أي أعني المتعيب. والبينات : الحجج والبراهين. والزبر : الكتب. وقد تقدم. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يعني القرآن. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة ، وغير ذلك مما لم يفصله. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيتعظون.
الآية : 45 {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}
الآية : 46 {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}
الآية : 47 {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
قوله تعالى : {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} أي بالسيئات ، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ} قال ابن عباس : كما خسف بقارون ، يقال : خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض ، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها ؛ ومنه قوله : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص : 81]. وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار ؛ أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} كما فعل بقوم لوط وغيرهم. يريد يوم بدر ؛ فإنهم أهلكوا ذلك اليوم ، ولم يكن شيء منه في حسابهم. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي في أسفارهم وتصرفهم ؛ قاله قتادة. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي سابقين الله ولا فائتيه وقيل : {فِي تَقَلُّبِهِمْ} على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك : بالليل والنهار.. "أو يأخذهم على تخوف" قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما أي على تنقص من أموالهم
(10/109)
ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الأعرابي : أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك : هو من الخوف ؛ المعنى : يأخذ طائفة ويدع طائفة ، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن : "على تخوف" أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى ، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه ، وهما راجعان إلى المعنى الأول ، وأن التخوف التنقص ؛ تخوفه تنقصه ، وتخوفه الدهر وتخونه - بالفاء والنون - بمعنى ؛ يقال : تخونني فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة :
لا ، بل هو الشوق من دار تخونها ... مرا سحاب ومرا بارح ترب
وقال لبيد :
تخونها نزولي وارتحالي
أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدي : التخوف "بالفاء" التنقص ، لغة لأزد شنوءة. وأنشد :
تخوف غدرهم مالي وأهدى ... سلاسل في الحلوق لها صليل
وقال سعيد بن المسيب : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : يا أيها الناس ، ما تقولون في قول الله عز وجل : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} فسكت الناس ، فقال شيخ من بني هذيل : هي لغتنا يا أمير المؤمنين ، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال : يا فلان ، ما فعل دينك ؟ قال : تخوفته ، أي تنقصته ؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر : أتعرف العرب ذلك في أشعارهم ؟ قال نعم ؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه :
تخوف الرحل منها تامكا قردا ...
كما تخوف عود النبعة السفن
(10/110)
فقال عمر : يا أيها الناس ، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا ، أي طال وارتفع ، فهو تامك. والسفن والمسفن ما يُنجر به الخشب. وقال الليث بن سعد : "على تخوف" على عجل. وقال : على تقريع بما قدموه من ذنوبهم ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة : "على تخوف" أن يعاقب أو يتجاوز. {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي لا يعاجل بل يمهل.
الآية : 48 {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش {تروا} بالتاء ، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات ؛ وهو الاختيار. {مِنْ شَيْءٍ} يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل ؛ قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء ، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب ، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى ؛ فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها ؛ ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق ، أي رجع. والفيء الرجوع ؛ ومنه {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات : 9]. روي معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما ، وقال الزجاج : يعني سجود الجسم ، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة ، وهذا عام في كل جسم. ومعنى {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي خاضعون صاغرون. والدخور : الصغار والذل. يقال : دخر الرجل - بالفتح - فهو داخر ، وأدخره الله. وقال ذو الرمة :
فلم يبق إلا داخر في مخيس ...
ومنجحر في غير أرضك في جحر
(10/111)
كذا نسبه الماوردي لذي الرمة ، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال : المخيس اسم سجن كان بالعراق ؛ أي موضع التذلل ، وقال :
أما تراني كيسا مكيسا ... بنيت بعد نافع مخيسا
ووحد اليمين في قوله : "عن اليمين" وجمع الشمال ؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال : عن الأيمان والشمائل ، واليمين والشمائل ، أو اليمين والشمال ، أو الأيمان والشمال لجاز ؛ لأن المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى ؛ كقوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة : 7] وكقوله : {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة : 16] ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ "ما" والشمال على معناها. ومثل هذا في الكلام كثير. فال الشاعر :
الواردون وتيم في ذرا سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ولم يقل جلود. وقيل : وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات ، فسماها شمائل.
الآية : 49 {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}
الآية : 50 {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
قوله تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} أي من كل ما يدب على الأرض. {وَالْمَلائِكَةُ} يعني الملائكة الذين في الأرض ، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم
(10/112)
بشرف المنزلة ، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها ؛ كقوله : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68]. وقيل : لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة ، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل : أراد {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب ، {وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} وتسجد ملائكة الأرض. {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي عقاب ربهم وعذابه ، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل : المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم ؛ ففي الكلام حذف. وقيل : معنى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني الملائكة ، يخافون ربهم وهي من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون ؛ فلأن يخاف من دونهم أولى ؛ دليل هذا القول قوله تعالى : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يعني الملائكة.
الآية : 51 {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
قوله تعالى : {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} قيل : المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل : جاء قوله "اثنين" توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله ، اقتصر على ذكر الاثنين ؛ لأنه قصد نفي التعديد. {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته والحمد لله. {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي خافون. وقد تقدم.
(10/113)