الآية : 24 {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} فيه ثمان تأويلات : "المستقدمين" في الخلق إلى اليوم ، و"المستأخرين" الذين لم يخلقوا بعد ؛ قاله قتادة وعكرمة وغيرهما. الثاني - "المستقدمين" الأموات ، و"المستأخرين" الأحياء ؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثالث : "المستقدمين" من تقدم أمة محمد ، و"المستأخرين" أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قاله مجاهد. الرابع - "المستقدمين" في الطاعة والخير ، و"المستأخرين" في المعصية والشر ؛ قاله الحسن وقتادة أيضا. الخامس - "المستقدمين" في صفوف الحرب ، و"المستأخرين" فيها ؛ قاله سعيد بن المسيب. السادس : "المستقدمين" من قتل في الجهاد ، و"المستأخرين" من لم يقتل ، قاله القرظي. السابع : "المستقدمين" أول الخلق ، و"المستأخرين" آخر الخلق ، قال الشعبي. الثامن : "المستقدمين" في صفوف الصلاة ، و"المستأخرين" فيها بسبب النساء. وكل هذا معلوم الله تعالى ؛ فإنه عالم بكل موجود ومعدوم ، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة. إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية ؛ لما رواه النسائي والترمذي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : "كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس ، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطه ، فأنزل الله عز وجل {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} وروي عن أبي الجوزاء ولم يذكر ابن عباس. وهو أصح.
(10/19)
الثانية : - هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الأول ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" . فإذا جاء الرجل عند الزوال فنزل في الصف الأول مجاور الإمام ، حاز ثلاث مراتب في الفضل : أول الوقت ، والصف الأول ، ومجاورة الإمام. فإن جاء عند الزوال فنزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الصف الأول ، فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الأول والمجاورة. فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الأول ، وفاته مجاورة الإمام. فإن جاء بعد الزوال ونزل في الصف الأول فقد فاته فضيلة أول الوقت ، وحاز فضيلة الصف الأول ومجاورة الإمام. وهكذا. ومجاورة الإمام لا تكون لكل أحد ، وإنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم : "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" الحديث. فيما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته ، فإن نزلها غيره أخر وتقدم وهو إلى الموضع ؛ لأنه حقه بأمر صاحب الشرع ، كالمحراب هو موضع الإمام تقدم أو تأخر ؛ قاله ابن العربي.
قلت : وعليه يحمل قول عمر رضي الله عنه : تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ؛ ثم يتقدم فيكبر. وقد روي عن كعب أن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجدا فيغفر لمن خلفه. وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك ، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة. ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وسيأتي في سورة "الصافات" زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى.
الثالثة : - وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة ، فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال ؛ فإن القيام في نحر العدو ، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل ؛ فالتقدم إليه أفضل ، ولا خلاف فيه ولا خفاء به. ولم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أشجع الناس. قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
(10/20)
الآية : 25 {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي للحساب والجزاء. {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تقدم.
الآية : 26 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} يعني آدم عليه السلام. {مِنْ صَلْصَالٍ} أي من طين يابس ؛ عن ابن عباس وغيره. والصلصال : الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف ، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار ؛ عن أبي عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة :
كعدو المصلصل الجوال
وقال مجاهد : هو الطين المنتن ؛ واختاره الكسائي. قال : وهو من قول العرب : صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا. قال الحطيئة :
ذاك فتى يبذل ذا قدره ... لا يفسد اللحم لديه الصلول
وطين صلال ومصلال ؛ أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد. فكان أول ترابا ، أي متفرق الأجزاء ثم بل فصار طينا ؛ ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا ؛ أي متغيرا ، ثم يبس فصار صلصالا ؛ على قول الجمهور. وقد مضى في "البقرة" بيان هذا. والحمأ : الطين الأسود ، وكذلك الحمأة بالتسكين ؛ تقول منه : حمئت البئر حمأ "بالتسكين" إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ "بالتحريك" كثرت حمأتها. وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة ؛ عن ابن السكيت. وقال أبو عبيدة : الحمأة "بسكون الميم" مثل الكمأة. والجمع حمء ، مثل تمرة وتمر. والحمأ المصدر ، مثل الهلع والجزع ، ثم سمي به. والمسنون المتغير. قال ابن عباس : "هو التراب المبتل المنتن ،
(10/21)
فجعل صلصالا كالفخار". ومثله قول مجاهد وقتادة ، قالا : المنتن المتغير ؛ من قولهم : قد أسن الماء إذا تغير ؛ ومنه {يَتَسَنَّهْ} [البقرة : 259] و {مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد : 15]. ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
سقت صداي رضابا غير ذي أسن ... كالمسك فت على ماء العناقيد
وقال الفراء : هو المتغير ، وأصله من قولهم : سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين ؛ ومنه المسن. قال الشاعر :
ثم خاصرتها إلى القبة الحمراء ... تمشي في مرمر مسنون
أي محكول مملس. حكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه : ألا ترى عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية : وما قال ؟ فقال قال :
هي زهراء مثل لؤلوة الغواص ... ميزت من جوهر مكنون
فقال معاوية : صدق! فقال يزيد : [إنه يقول] :
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
فقال : صدق! فقال : أين قوله : ثم خاصرتها... البيت. فقال معاوية : كذب. وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب ، وهو من قول العرب : سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسن الصب. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : "المسنون الرطب" ؛ وهذا بمعنى المصبوب ؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس : وهذا قول حسن ؛ لأنه يقال : سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء : ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشن "بالشين" تفريق الماء ، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقال سيبويه : المسنون المصور. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة :
تريك سنة وجه مفرقة ...
ملساء ليس لها خال ولا ندب
(10/22)
" صفحة رقم 23 "
وقال الأخفش : المسنون المنصوب القائم من قولهم : وجه مسنون إذا كان فيه طول وقد قيل : إن الصلصال التراب المدقق حكاه المهدوي ومن قال : إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال فأبدل من إحدى المين الصاد ومن حمإ مفسر لجنس الصلصال كقولك : أخذت هذا من رجل من العرب
الحجر : ) 27 ( والجان خلقناه من . . . . .
) الحجر 27 (
قوله تعالى : ) والجان خلقناه من قبل ( أي من قبل خلق آدم وقال الحسن : يعني إبليس خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام وسمي جانا لتواريه عن الأعين وفي صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) لما صور الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك ) من نار السموم ( قال بن مسعود : نار السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وقال بن عباس : السموم الريح الحارة التي تقتل وعنه : أنها نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهي نار تكون بين السماء والحجاب فإذا أحدث الله أمرا أخترقت الحجاب فهوت الصاعقة إلى ما أمرت فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب وقال الحسن : نار السموم نار دونها حجاب والذي تسمعون من انغطاط السحاب صوتها وعن بن عباس أيضا قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار قلت : هذا فيه نظر فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر إذ مثله لا يقال من جهة الرأي وقد خرج مسلم من حديث عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
(10/23)
" صفحة رقم 24 "
فقوله : ) خلقت الملائكة من نور ) يقتضي العموم والله أعلم وقال الجوهري : مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان والسموم الريح الحارة تؤنث يقال منه : سم يومنا فهو يوم مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد تكون بالليل والحرور بالليل وقد تكون بالنهار القشيري : وسميت الريح الحارة سموما لدخولها في مسام البدن
الحجر : ) 28 ( وإذ قال ربك . . . . .
) الحجر 28 : 29 (
قوله تعالى : ) وإذا قال ربك للملائكة ( تقدم في البقرة ) إني خالق بشرا من صلصال ( من طين ) فإذا سويته ( أي سويت خلقه وصورته ) ونفخت فيه من روحي ( النفخ إجراء الريح في الشيء والروح جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم وحقيقته إضافة خلق إلى خالق فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما كقوله : ) أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله ) ومثله وروح منه وقد تقدم في النساء مبينا وذكرنا في كتاب [ التذكرة ] الأحاديث الواردة التي تدل على أن الروح جسم لطيف وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد وسيأتي ذلك إن شاء الله ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد : فإذا ركبت فيه الحياة ) فقعوا له ساجدين ( أي خروا له ساجدين وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ولله أن يفضل من يريد ففضل الأنبياء على الملائكة وقد تقدم في البقرة هذا المعنى وقال القفال : كانوا أفضل من آدم وامتحنهم بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل وهو مذهب المعتزلة وقيل : أمروا بالسجود لله عند آدم وكان آدم قبلة لهم
(10/24)
" صفحة رقم 25 "
الحجر : ) 30 ( فسجد الملائكة كلهم . . . . .
) الحجر 30 : 31 (
قوله تعالى : ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ( فيه مسألتان : الأولى لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود لقوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام كما تقدم في البقرة بيانه ثم قيل : كان من الملائكة فهو استثناء من الجنس وقال قوم : لم يكن من الملائكة فهو استثناء منقطع وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى وقال بن عباس : الجان أبو الجن وليسوا شياطين والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون ومنهم المؤمن ومنهم الكافر فآدم أبو الإنس والجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين ذكره الماوردي والذي تقدم في البقرة خلاف هذا فتأمله هناك الثانية الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي حتى لو قال : لفلان علي دينار إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة وما جانس ذلك كان مقبولا ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما : استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات والمكيلات من المقومات مثل أن يقول : علي عشرة دنانير إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء ويلزم المقر جميع المبلغ وقال محمد بن الحسن : الاستثناء من غير الجنس لا يصح ويلزم المقر جملة ما أقر به والدليل
(10/25)
" صفحة رقم 26 "
لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس قال الله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما فاستثنى السلام من جملة اللغو ومثله فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وإبليس ليس من جملة الملائكة قال الله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه وقال الشاعر : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء والعيس وهي الجمال البيض من الأنيس ومثله قول النابغة :
الحجر : ) 32 ( قال يا إبليس . . . . .
) الحجر 32 : 35 (
قوله تعالى : ) قال ياإبليس ما لك ( أي ما المانع لك ) ألا تكون مع الساجدين ( أي في ألا تكون ) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ( بين تكبره وحسده وأنه خير منه إذ هو من نار والنار تأكل الطين كما تقدم في الأعراف بيانه ) قال فأخرج منها ( أي من السماوات أو من جنة عدن أو من جملة الملائكة ) فإنك رجيم ( أي مرجوم بالشهب وقيل : ملعون مشئوم وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف ) وإن عليك اللعة ( أي لعنتي كما في سورة ص
(10/26)
" صفحة رقم 27 "
الحجر : ) 36 ( قال رب فأنظرني . . . . .
) الحجر 36 : 38 (
قوله تعالى : ) قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون ( هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى وأنه أهل أن يجاب له دعاء ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه كفعل الآيس من السلامة وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون : ألا يموت لأن يوم البعث لا موت فيه ولابعده قال الله تعالى : ) فإنك من المنظرين ( يعني من المؤجلين ) إلى يوم الوقت المعلوم ( قال بن عباس : أراد به النفخة الأولى أي حين تموت الخلائق وقيل : الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه ويجهله إبليس فيموت إبليس ثم يبعث قال الله تعالى : كل من عليها فان وفي كلام الله تعالى قولان : أحدهما كلمه على لسان رسوله الثاني كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب
الحجر : ) 39 ( قال رب بما . . . . .
) الحجر 39 (
قوله تعالى : ) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ( تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف وتزيينه هنا يكون بوجهين : إما بفعل المعاصي وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة ومعنى ) لأغوينهم أجمعين ( أي لأضلنهم عن طريق الهدى وروى بن لهيعة عبد الله عن دراج بن السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن إبليس قال يارب وعزتك وجلالك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم مااستغفروني )
(10/27)
" صفحة رقم 28 "
الحجر : ) 40 ( إلا عبادك منهم . . . . .
) الحجر 40 (
قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم وقرأ الباقون بكسر اللام أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال : ) الذي يعمل ولايحب أن يحمده الناس )
الحجر : ) 41 ( قال هذا صراط . . . . .
) الحجر 41 (
قال عمر بن الخطاب : معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة الحسن : علي بمعنى إلي مجاهد والكسائي : هذا على الوعيد والتهديد كقولك لمن تهدده : طريقك علي ومصيرك إلي وكقوله : إن ربك لبالمرصاد فكان معنى الكلام : هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بعمله يعني طريق العبودية وقيل : المعنى علي أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان وقيل : بالتوفيق والهداية وقرأ بن سيرين وقتادة والحسن وقيس بن بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب هذا صراط علي مستقيم برفع علي وتنوينه ومعناه رفيع مستقيم أي رفيع في الدين والحق وقيل : رفيع أن ينال مستقيم أن يمال قوله تعالى :
الحجر : ) 42 ( إن عبادي ليس . . . . .
) الحجر 42 (
فيه مسألتان : الأولى قوله تعالى : ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( قال العلماء : يعني على قلوبهم وقال بن عيينة : أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم
(10/28)
" صفحة رقم 29 "
قلت : لعل قائلا يقول : قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله : فأزلهما الشيطان وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله : إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فالجواب ما ذكر وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم ولاموضع إيمانهم ولايلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول على ما تقدم في البقرة بيانه وأما أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد مضى القول عنهم في آل عمران ثم إن قوله سبحانه : ليس لك عليهم سلطان يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال وقد يكون في تسلطه في تفريج كربة وإزالة غمة كما فعل ببلال إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام ونام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس وفزعوا وقالوا : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ليس في النوم تفريط ) ففرج عنهم ) إلا من اتبعك من الغاوين ( أي الضالين المشركين أي سلطانه على هؤلاء دليله إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون الثانية وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل مثل أن يقول : عشرة إلا درهما أو يقول : عشرة إلا تسعة وقال أحمد بن حنبل : لا يجوز أن يستثني إلا قدر النصف فما دونه وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح ودليلنا هذه الآية فإن فيها استثناء الغاوين من العباد والعباد من الغاوين وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز قوله تعالى :
الحجر : ) 43 ( وإن جهنم لموعدهم . . . . .
) الحجر 43 : 44 (
(10/29)
" صفحة رقم 30 "
قوله تعالى : ) وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( يعني إبليس ومن اتبعه ) لها سبعة أبواب ( أي أطباق طبق فوق طبق ) لكل باب ( أي لكل طبقة ) منهم جزء مقسوم ( أي حظ معلوم ذكر بن المبارك قال : أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال : سمعت حطان بن عبد الله الرقاشي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول : هل تدرون كيف أبواب جهنم قلنا هي مثل أبوابنا قال لا هي هكذا بعضها فوق بعض زاد الثعلبي : ووضع إحدى يديه على الأخرى وأن الله وضع الجنان على الأرض والنيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم وفوقها الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها لظى وفوقها السعير وفوقها الهاوية وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة قلت : كذا وقع هذا التفسير والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها ثم لظى ثم الحطمة ثم سعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية قال الضحاك : في الدرك الأعلى المحمديون وفي الثاني النصارى وفي الثالث اليهود وفي الرابع الصابئون وفي الخامس المجوس وفي السادس مشركو العرب وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقد تقدم في النساء وقال : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال : فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وقسم معاذ بن جبل رضي الله عنه العلماء السوء من هذه الأمة تقسيما على تلك الأبواب ذكرناه في كتاب [ التذكرة ] وروى الترمذي من حديث بن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي ) قال : حديث غريب وقال أبي بن كعب : لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية وقال وهب بن منبه : بين كل بابين مسيرة سبعين
(10/30)
" صفحة رقم 31 "
سنة كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم جزء أشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله وجزء آثروا شهواتهم على الله وجزء شفوا غيظهم بغضب الله وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله وجزء عتوا على الله ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب [ منهاج الدين ] له وقال : فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولايثبتونه وهم الدهرية والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله المنكرون بالبعث والحساب فهم يعبدون ما يرغبون فيه لهم جميع حظهم من الله تعالى والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا فلا يتفكرون ولايعتبرون ولايستدلون والله أعلم بما أراد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) إن ثبت الحديث ويروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل فجيء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين فو الذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى إن المتقين في جنات وعيون وقال بلال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي في مسجد المدينة وحده فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها فقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فخرت الأعرابية مغشيا عليها وسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجبتها فانصرف ودعا بماء فصب
(10/31)
" صفحة رقم 32 "
على وجهها حتى أفاقت وجلست فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ياهذه مالك ) فقالت : أهذا شيء في كتاب الله المنزل أو تقوله من تلقاء نفسك فقال : ) ياأعرابية بل هو من كتاب الله المنزل ) فقالت : كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها قال : ) ياأعرابية بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم ) فقالت : والله إني امرأة مسكينة ما لي مال ومالي إلا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى فأتاه جبريل فقال : ) يا رسول الله بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها )
الحجر : ) 45 ( إن المتقين في . . . . .
) الحجر 45 : 46 (
قوله تعالى : ) إن المتقين في جنات وعيون ( أي الذين اتقوا الفواحش والشرك ) في جنات ( أي بساتين ) وعيون ( هي الأنهار الأربعة : ماء وخمر ولبن وعسل وأما العيون المذكورة في سورة الإنسان : الكافور والزنجبيل والسلسبيل وفي المطففين : التسنيم فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله وضم العين من عيون على الأصل والكسر مراعاة للياء وقرىء بهما ) ادخلوها بسلام آمنين ( قراءة العامة ادخلوها بوصل الألف وضم الخاء من دخل يدخل على الأمر تقديره : قيل ادخلوها وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب ادخلوها بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول من أدخل أي أدخلهم الله إياها ومذهبهم كسر التنوين في مثل برحمة ادخلوا الجنة وشبهه إلا أنهم ها هنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين إذ هي ألف قطع ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان ) بسلام ( أي بسلامة من كل داء وآفة وقيل : بتحية من الله لهم ) آمنين ( أي من الموت والعذاب والعزل والزوال
(10/32)
" صفحة رقم 33 "
الحجر : ) 47 ( ونزعنا ما في . . . . .
) الحجر 47 : 48 (
قال بن عباس : أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم ونحوه عن علي رضي الله عنه وقال علي بن الحسين : نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل والقول الأول أظهر يدل عليه سياق الآية وقال علي رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء والغل : الحقد والعداوة يقال منه : غل يغل ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم : غل يغل ويقال من الخيانة : أغل يغل كما قال : جزى الله عنا حمزة بنة نوفل ج زاء مغ ل بالأمانة ك اذب وقد مضى هذا في آل عمران ) إخوانا على سرر متقابلين ( أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا عن مجاهد وغيره وقيل : الأسرة تدور كيفما شاؤوا فلا يرى أحد قفا أحد وقيل : متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود وسرر جمع سرير مثل جديد وجدد وقيل : هو من السرور فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور والأول أظهر قال بن عباس : على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر والسرير ما بين صنعاء إلى الجابية ومابين بين عدن إلى أيلة وإخوانا نصب على الحال من المتقين
(10/33)
" صفحة رقم 34 "
أو من المضمر في ادخلوها أو من المضمر في آمنين أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في صدورهم ) لا يمسهم فيها نصب ( أي إعياء وتعب ) وما هم عنها بمخرجين ( دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول وأن أهلها فيها باقون أكلها دائم إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ
الحجر : ) 49 ( نبئ عبادي أني . . . . .
) الحجر 49 : 50 (
هذه الآية وزان قوله عليه السلام : ) لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم في الفاتحة وهكذا ينبغي للإنسان أن أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجي ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض وجاء في الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال : ) أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار ) فشق ذلك عليهم فنزلت الآية ذكره الماوردي والمهدوي ولفظ الثعلبي عن بن عمر قال : اطلع علينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال : ) مالكم تضحكون لا أراكم تضحكون ) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقري فقال لنا : ) إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يامحمد لم تقنط عبادي من رحمتي نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ) فالقنوط إياس والرجاء إهمال وخير الأمور أوساطها
(10/34)