بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم
الآية : 37 {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : - روى البخاري عن ابن عباس : "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ؛ وليس ، بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنا لك ؛ ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل ؛ فقالت : يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. قالت إذا لا يضيعنا ؛ ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند التثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ، ورفع يديه فقال : {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم : 37] حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال بتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، ثم جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليه ، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فذلك سعي الناس بينهم" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه! تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت ، إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف ؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا" قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله" وذكر الحديث بطوله.
(9/369)
مسألة : لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم ، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل ، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل ، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله الحديث : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة ، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة ، وترك ابنه وأمته هنا لك وركب منصرفا من يومه ، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى ، فلما ولي دعا بضمن هذه الآية.
الثانية : - لما أراد الله تأسيس الحال ، وتمهيد المقام ، وخط الموضع للبيت المكرم ، والبلد المحرم ، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء ، وفي الصحيح : أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة ، قال أبو ذر : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني ، وما أجد على كبدي سخفة جوع ؛ وذكر الحديث. وروي الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل" . وروي أيضا عن عكرمة قال : كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال : اللهم إني أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء. قال ابن العربي : وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته ، وسلمت طويته ، ولم يكن به مكذبا ، ولا يشربه مجربا ، فإن الله مه المتوكلين ، وهو يفضح المجربين. وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال : دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني ، فجعلت أعتصر حتى آذاني ، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام ، وذلك أيام الحج ؛ فذكرت هذا الحديث ، فدخلت زمزم فتضلعت منه ، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبدالله بن عمرو : إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن.
(9/370)
الثالثة : - قوله تعالى : {مِنْ ذُرِّيَّتِي} "من" في قوله تعالى : {مِنْ ذُرِّيَّتِي} للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي ؛ يعني إسماعيل وأمه ، لأن إسحاق كان بالشام. وقيل : هي صلة ؛ أي أسكنت ذريتي.
الرابعة : - {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان ، وقد مضى هذا المعنى في سورة "البقرة". أضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره ، ووصفه بأنه محرم ، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. وقيل : محرم على الجبابرة ، وأن تنتهك حرمته ، ويستخف بحقه ، قاله قتادة وغيره. وقد مضى القول في هذا في "المائدة".
الخامسة : - {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} خصها من جملة الدين لفضلها فيه ، ومكانها منه ، وهي عهد اله عند العباد ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" . الحديث. واللام في "ليقيموا الصلاة" لام كي ؛ هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ"أسكنت" ويصح أن تكون لام أمر ، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة.
السادسة : - تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ؛ لأن معنى "ربنا ليقيموا الصلاة" أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة ، واحتجوا بحديث عبدالله بن الزبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة" . قال الإمام الحافظ أبو عمر : وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير وجوده ، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه ، وكان ثقة. قال ابن أبي. خيثمة سمعت
(9/371)
يحيى بن معين يقول : حبيب المعلم ثقة. وذكر عبدالله بن أحمد قال سمعت أبي يقول : حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه! وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال : بصري ثقة.
قلت : وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له ، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر : وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير ؛ رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمرو ؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة ، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم. وروى عنه شعبة. والثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف ، حدثنا عبيدالله بن عمر ؛ عن عبدالكريم عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه" . وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي ، وأخذ عنه ابن وضاح ، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان حفظ فهما حديثان ، وإلا فالقول قول حبيب المعلم. وروى محمد بن وضاح ، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل" . قال أبو عمر : وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده ، ولم تمل به عصيته. وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم ؛ وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين ، وروي مثله عن مالك ؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن
(9/372)
آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال : يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها ؟ قال : بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة ، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك ؛ فطائفة تقول مكة ، وطائفة تقول المدينة.
قوله تعالى : {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب ، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر :
وإن فؤادا قادني بصبابة ... إليك على طول المدى لصبور
وقيل : جمع وفد ، والأصل أوفدة ، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي ، فكأنه قال : واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم ؛ أي تنزع ؛ يقال : هوي نحوه إذا مال ، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر ، وقوله : "تهوي إليهم" مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس ، ولكن قال : "من الناس" فهم المسلمون ؛ فقوله : "تهوي إليهم" أي تحن إليهم ، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد "تهوَى إليهم" أي تهواهم وتجلهم. {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} فاستجاب الله دعاءه ، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار ، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه : " فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ؛ فشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال : هل جاءكم من أحد! قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة ، قال فهل أوصاك بشيء : قالت : أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك ؛ قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك ؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده ، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا.قال :
(9/373)
كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال ما طعامكم ؟ قالت : اللحم. قال فما شرابكم ؟ قالت : الماء. قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء ". قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه" . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ؛ وذكر الحديث. وقال ابن عباس : قول إبراهيم {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة ، فيصير بيتا محرما ، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله : وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا ، فنزلوا بأسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ؛ فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال : وأم إسماعيل عند الماء ؛ فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا : نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فألفي ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، شب الغلام ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ؛ الحديث.
الآية : 38 {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}
الآية : 39 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}
الآية : 40 {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}
الآية : 41 {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}
(9/374)
قوله تعالى : {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي ، ليس يخفى عليك شيء من أحوالنا. وقال ابن عباس ومقاتل : تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجه بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع. {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} قيل : هو من قول إبراهيم. وقيل : هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم : {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} قال الله : {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ} أي على كبر سني وسن امرأتي ؛ قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة. وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر ومائة سنة. {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} .
قوله تعالى : {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي واجعل من ذريتي من يقيمها. {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي عبادتيكما قال : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60]. وقال عليه السلام : "الدعاء مخ العبادة" وقد تقدم في "البقرة". {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} قيل : استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله. قال القشيري : ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه. قلت : وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير ، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} يعني. أباه. وقيل : استغفر لهما طمعا في إيمانهما. وقيل : استغفر لهما بشرط أن يسلما. وقيل : أراد آدم وحواء. وقد روي أن العبد إذا قال : اللهم اغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع. وقيل : إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم النخعي يقرأ : "ولولدي" يعني ابنيه ، وقيل : إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كلهم وهو أظهر. {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أي يوم يقوم الناس للحساب.
(9/375)
الآية : 42 {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}
الآية : 43 {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}
قوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم ؛ أي أصبر إبراهيم ، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران : هذا وعبد للظالم ، وتعزية للمظلوم. {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر بهم. وقراءة العامة "يؤخرهم" بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله .{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} . وقرأ الحسن والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا "نؤخرهم" بالنون للتعظيم. {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم ، قاله الفراء. يقال : شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس : تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون.
قوله تعالى : {مُهْطِعِينَ} أي مسرعين ؛ قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ؛ مأخوذ من أهطع يهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى : {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر : 8] أي مسرعين. قال الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
وقيل : المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع ؛ أي ناظرين من غير أن يطرفوا ؛ قاله ابن عباس ، وقال مجاهد والضحاك : {مُهْطِعِينَ} أي مديمي النظر. وقال النحاس : والمعروف في اللغة أن يقال : أهطع إذا أسرع ؛ قال أبو عبيد : وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر. وقال ابن زيد : المهطع الذي لا يرفع رأسه. {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذل. وإقناع الرأس رفعه ؛ قال ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما : المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه ؛ ومنه الإقناع في الصلاة
(9/376)
وأقنع صوته إذا رفعه. وقال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقيل : ناكسي رؤوسهم ؛ قال المهدوي : ويقال أقنع إذا رفع رأسه ، وأقنع إذا رأسه ذلة وخضوعا ، والآية محتملة الوجهين ، وقاله المبرد ، والقول الأول أعرف في اللغة ؛ قال الراجز :
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطمعا
وقال الشماخ يصف إبلا :
يباكرن العضاه بمقنعات ... نواجذهن كالحدأ الوقيع
يعني : برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل : مقنعة لارتفاعها. ومنه قنع الرجل إذا رضي ؛ أي رفع رأسه عن السؤال. وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه ؛ عن النحاس. وفم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مقنع بالتشديد ؛ أي عليه بيضة قاله الجوهري. {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر. يقال : طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر ، فسمي النظر طرفا لأنه به يكون. والطرف العين. قال عنترة :
وأغض طرفي ما بدت جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
وقال جميل :
وأقصر طرفي دون جمل كرامة ... لجمل وللطرف الذي أنا قاصره
قوله تعالى : {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي لا تغني شيئا من شدة الخوف. ابن عباس : خالية من كل خير. السدي : خرجت قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم ؛ وقال مجاهد ومرة وابن زيد : خاوية خربة متخرقة ليس فيها خير ولا عقل ؛ كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء : إنما هو هواء ؛ وقال ابن عباس : والهواء في اللغة المجوف الخالي ؛ ومنه قول حسان :
ألا أبلغ أبا سفيان عني ...
فأنت مجوفة نخب هواء
(9/377)
وقال زهير يصف ناقة صغيرة الرأس :
كأن الرجل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
فارغ أي خال ؛ وفي التنزيل : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [القصص : 10] أي من كل شيء إلا من هم موسى. وقيل : في الكلام إضمار ؛ أي ذات هواء وخلاء.
الآية : 44 {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ }
قوله تعالى : {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} قال ابن عباس : أراد أهل مكة. {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} وهو يوم القيامة ؛ أي خوفهم ذلك اليوم. وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب ، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي. {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي في ذلك اليوم {رَبَّنَا أَخِّرْنَا} أي أمهلنا. {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} سألوه الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة. {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} أي إلى الإسلام فيجابوا : {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يعني في دار الدنيا. {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} قال مجاهد : هو قسم قريش أنهم لا يبعثون. ابن جريج : هو ما حكاه عنهم في قوله : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل : 38]. {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} فيه تأويلان : أحدهما : ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة ؛ أي لا تبعثون ولا تحشرون ؛ وهذا قول مجاهد. الثاني : {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي من العذاب. وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله أربعة ، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا ، يقولون : {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر : 11] فيجيبهم الله {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر : 12]
(9/378)
ثم يقولون : {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة : 12] فيجيبهم الله تعالى : {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة : 14] ثم يقولون : {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيجيبهم الله تعالى {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} فيقولون : {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر : 37] فيجيبهم الله تعالى : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر : 37]. ويقولون : {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون : 106] فيجيبهم الله تعالى : {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون : 108] فلا يتكلمون بعدها أبدا ؛ خرجه ابن المبارك في {دقائقه} بأطول من هذا - وقد كتبناه في كتاب {التذكرة} وزاد في الحديث {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم : 44 - 45] قال هذه الثالثة ، وذكر الحديث وزاد بعد قوله : {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون : 108] فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء ، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض ، وأطبقت عليهم ؛ وقال : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله : "هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات : 35 - 36].
الآية : 45 {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}
الآية : 46 {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}
قوله تعالى : {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا اعتبرتم بمساكنهم ، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم ، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي " وَنَبَيَّنَ لَكُمْ" بنون والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي ؛ وليناسب قوله : {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}. وقراءة الجماعة ، {وَتَبَيَّنَ} وهي مثلها في المعنى ؛ لأن ذلك لا يتبين لهم إلا بتبيين الله إياهم.
(9/379)
قوله تعالى : {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة ؛ عن ابن عباس وغيره. { وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} "إن" بمعنى "ما" أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه ؛ "وإن" بمعنى "ما" في القرآن في مواضع خمسة : أحدها هذا. الثاني : {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس : 94]. الثالث : {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا} [الأنبياء : 17] أي ما كنا. الرابع : {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف : 81]. الخامس : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف : 26]. وقرا الجماعة "وإن كان" بالنون. وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي "وإن كاد" بالدال. والعامة على كسر اللام في "لتزول" على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصيبا. وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي "لتزول" بفتح اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية "وإن" مخففة من الثقيلة ، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم ؛ أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه ؛ قال الطبري : الاختيار القراءة الأولى ؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة ؛ قال أبو بكر الأنباري : ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات ، فعمد إلى فراخ نسور ، فأمر أن تطعم اللحم ، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين ؛ وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته ، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد ؛ وتشد إلى قوائم التابوت ، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور ، فلما رأت اللحم طلبته ، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله ؛ فقال الجبار لصاحبه : افتح الباب فانظر ما ترى ؟ فقال : أرى الجبال كأنها ذباب ، فقال : أغلق الباب ؛ ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد ، فقال الجبار لصاحبه : افتح الباب فانظر ما ترى ؟ فقال : ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا ، فقال : نكس العصا فنكسها ، فانقضت النسور. فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن
(9/380)
مراتبها منها ؛ قال : فسمعت عليا رضي الله عنه يقرأ "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ" بفتح اللام الأولى من "لتزول" وضم الثانية. وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه ، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه ، وقال عكرمة : كان معه في التابوت غلام أمرد ، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال : كفيت نفسك إله السماء. قال عكرمة : تلطخ بدم سمكة من السماء ، فذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق. وقيل : طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت ، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فذلك قوله : {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} . قال القشيري : وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال. وذكر الماوردي عن ابن عباس : أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة ، وجعل طول خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا ، وصعد منه مع النسور ، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه. فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعي الصرح عليهم فهلكوا جميعا ، فهذا معنى {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} وفي الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان : أحدهما : جبال الأرض. الثاني : الإسلام والقرآن ، لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال. وقال القشيري : {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بكسر اللام ؛ أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى ، فالجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : "وإن كان مكرهم" في تقديرهم "لتزول منه الجبال" وتؤثر في إبطال الإسلام. وقرئ "لتزول منه الجبال" بفتح اللام الأولى وضم الثانية ؛ أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال ، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كقوله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} [نوح : 22] والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون.
(9/381)
الآية : 47 {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
قوله تعالى : {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} اسم الله تعالى و"مخلف" مفعولا تحسب ؛ و"رسله" مفعول "وعده" وهو على الاتساع ، والمعنى : مخلف وعده رسله ؛ قال الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع
قال القتبي : هو من المقدم الذي يوضحه التأخير ، والمؤخر الذي يوضحه التقديم ، وسواء في قولك : مخلف وعده رسله ، ومخلف رسله وعده. "إن الله عزيز ذو انتقام" أي من أعدائه. ومن أسمائه المنتقم وقد بيناه في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى".
الآية : 48 {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}
الآية : 49 {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}
الآية : 50 {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}
الآية : 51 {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
الآية : 52 {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}
قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} أي اذكر يوم تبدل الأرض ، فتكون متعلقة بما قبله. وقيل : هو صفة لقول : {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم : 41]. واختلف في كيفية تبديل
(9/382)
الأرض ، فقال كثير من الناس : إن تبدل الأرض عبارة عن تغير صفاتها ، وتسوية آكامها ، ونسف جبالها ، ومد أرضها ؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه ؛ خرجه ابن ماجة في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب ، قال حدثني ابن عباس قال : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا ؛ وذكر الحديث. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها" ذكره الغزنوي. وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها ، وتناثر نجومها ؛ قال ابن عباس. وقيل : اختلاف أحوالها ، فمرة كالمهل ومرة كالدهان ؛ حكاه ابن الأنباري ؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبينا في كتاب {التذكرة} وذكرنا ما للعلماء في ذلك ، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك ؛ وذكر الحديث ، وفيه : فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "في الظلمة دون الجسر" . وذكر الحديث. وخرج عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين الناس يومئذ ؟ قال : "على الصراط" . خرجه ابن ماجة بإسناد مسلم سواء ، وخرجه الترمذي عن عائشة وأنها هي لسائلة ، قال : هذا حديث حسن صحيح ؛ فهذه الأحاديث تنص على أن السماوات والأرض تبدل وتزال ، ويخلق الله أرضا أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجسر. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(9/383)
"يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصه النقي ليس فيها علم لأحد" . وقال جابر : سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله عز وجل : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال : تبدل خبرة يأكل منها الخلق يوم القيامة ، ثم قرأ : {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء : 8]. وقال ابن مسعود : إنه تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة. وقال ابن عباس : بأرض من فضة بيضاء. وقال علي رضي الله عنه : تبدل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين ، وحسبك. {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي من قبورهم ، وقد تقدم.
قوله تعالى : {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} وهم المشركون. {يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة. {مُقَرَّنِينَ} أي مشدودين {فِي الأَصْفَادِ} وهي الأغلال والقيود ، وأحدها صفد وصفد. ويقال : صفدته صفدا أي قيدته والاسم الصفد ، فإذا أردت التكثير قلت : صفدته تصفيدا ؛ قال عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
أي مقيدينا. وقال حسان :
من كل مأسور يشد صفاده ... صقر إذا لاقى الكريهة حام
أي غله ، وأصفدته إصفادا أعطيته. وقيل : صفدته وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا ؛ قال النابغة :
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
فالصفد العطاء ؛ لأنه يقيد ويعبد ، قال أبو الطيب :
وقيدت نفسي في ذراك محبة ...
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
(9/384)
قيل : يقرن كل كافر مع شيطان في غل ، بيانه قوله : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات : 22] يعني قرناءهم من الشياطين. وقيل : إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي.
قوله تعالى : {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} أي قميصهم ، عن ابن دريد وغيره ، واحدها سربال ، والفعل تسربلت وسربلت غيري ؛ قال كعب بن مالك :
تلقاكم عصب حول النبي لهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
"من قطران" يعني قطران الإبل الذي تهنأ به ؛ قال الحسن. وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم. وفي الصحيح : أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من فطران ودرع من جرب. وروي عن حماد أنهم قالوا : هو النحاس. وقرأ عيسى بن عمر : "قطران" بفتح القاف وتسكين الطاء. وفيه قراءة ثالثة : كسر القاف وجزم الطاء ؛ ومنه قول أبي النجم :
جون كان العرق المنتوحا ... لبسه القطران والمسوحا
وقراءة رابعة : "من قطران" رويت عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب ؛ والقطر النحاس والصفر المذاب ؛ ومنه قوله تعالى : {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف : 96]. والآن : الذي قد انتهى إلى حره ؛ ومنه قوله تعالى : {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن : 44]. {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أي تضرب {وُجُوهَهُمُ النَّارُ} فتغشيها قوله تعالى : {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي بما كسبت. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تقدم.
قوله تعالى : {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} أي هذا الذي أنزلنا إليك بلاغ ؛ أي تبليغ وعظة. {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل ، وقرئ. {وَلِيُنْذَرُوا} بفتح الياء والذال ، يقال : نذرت بالشيء أنذر إذا علمت به فاستعددت له ، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس ، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك : سرني أن نذرت بالشيء. {وَلِيَعْلَمُوا
(9/385)
أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} أي وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين. {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} أي وليتعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات في .{وَلِيُنْذَرُوا} {وَلِيَعْلَمُوا} {وَلِيَذَّكَّرَ} متعلقة بمحذوف ، التقدير : ولذلك أنزلناه. وروي يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان ؟ فقال : نعم ؛ قيل : وأين هو ؟ قال قوله تعالى : {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} إلى آخرها. تم تفسير سورة إبراهيم عليه السلام والحمد لله.
(9/386)