الآية : 22 {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله تعالى : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} أي برزوا من قبورهم ، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره ؛ ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس ؛ فمعنى ، "برزوا" ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ ؛ الماضي ومعناه الاستقبال ، وأتصل هذا بقوله : {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا ، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. "لله" لأجل أمر الله إياهم بالبروز. {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} يعني الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة. {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} يجوز أن يكون تبع مصدرا ؛ التقدير : ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع ؛ مثل حارس وحرس ، وخادم وخدم ، وراصد ورصد ، وباقر وبقر. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} أي دافعون {عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} " أي شيئا ، و"من" صلة ؛ يقال : أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. وقيل : لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل ؛ لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} هذا ابتداء خبره "أجزعنا" أي : "سواء علينا {أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر ، وبمعنى الاسم ؛ يقال : حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا ؛ والمعنى : ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يقول أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} . وقال محمد بن كعب القرظي : ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض : يا هؤلاء! قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون ، فهلم فلنصبر ؛ فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا ؛ فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا ؛ فطال صبرهم فجزعوا ، فنادوا : {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا
(9/355)
مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي منجي ، فقام إبليس عند ذلك فقال : {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} يقول : لست بمغن عنكم سيئا {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} الحديث يطوله ، وقد كتبناه في كتاب "التذكرة" بكماله.
قوله تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} قال الحسن : يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا. ومعنى : {لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} أي حصل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، على ما يأتي بيانه في "مريم" عليها السلام. {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده ، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال : "فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك : {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية". {وَعْدَ الْحَقِّ} هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم : مسجد الجامع ؛ قال الفراء قال البصريون : وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم ؛ فحذف المصدر لدلالة الحال. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي من حجة وبيان ؛ أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا ، {إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي أغويتكم فتابعتموني. وقيل : لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. {إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ} هو استثناء منقطع ؛ أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم ، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وقيل : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن
(9/356)
دعوتكم فاستجبتم لي ؛ وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد ؛ وفيه نظر ؛ لقوله : {لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين ؛ والله أعلم. {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إذا جئتموني من غير حجة. {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي بمغيثكم. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة ، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل.
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... وكان الصراخ له قرع الظنابيب
وقال أمية بن أبي الصلت :
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ ... وليس لكم عندي غناء ولا نصر
يقال : صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ. والمصرخ المغيث ، والمستصرخ المستغيث ؛ تقول منه : استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ ، وهو المغيث والمستغيث ، وهو من الأضداد ؛ قاله الجوهري. وقراءة العامة "بمصرخي" بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة "بمصرخي" بكسر الياء. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة ، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، فمن نصب فلأجل التضعيف ، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل : هواي وعصاي ، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان ، مثل : غلامي وغلامتي ، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر ، لأن الياء أخت الكسرة. وقال الفراء : قراءة حمزة وهم منه ، وقل من سلم منهم عن خطأ. وقال الزجاج : هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال قطرب : هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري : والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو رديء ، بل هو في القرآن فصيح ، وفيه ما هو أفصح منه ، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ
(9/357)
مِنْ قَبْلُ} أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة ؛ فـ "ما" بمعنى المصدر. وقال ابن جريج : إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى. قتادة : إني عصيت الله. الثوري : كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وفي هذه الآيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم ؛ انظر إلى قول المتبوعين : {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} وقول إبليس : {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار ؛ كما قال في موضع آخر : {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك : 8] إلى قوله : {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك : 11] واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع ، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا ؛ قال الله عز وجل : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 102] و {عَسَى} من الله واجبة.
الآية : 23 {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}
قوله تعالى : {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى ؛ كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت ، ولا يقاس عليه ؛ قاله المهدوي. ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا. وقراءة الجماعة "أدخل" على أنه فعل مبني للمفعول. وقرأ الحسن "وأدخل" على الاستقبال والاستئناف. { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره. وقيل : بمشيئته وتيسيره. وقال : {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ولم يقل : بإذني تعظيما وتفخيما. {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} تقدم في "يونس". والحمد لله.
الآية 24 {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}
الآية 25 {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
(9/358)
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها ، ثم فسر ذلك المثل فقال : {كَلِمَةً طَيِّبَةً} التمر ، فحذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس : الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن. وقال مجاهد وابن جريج : الكلمة الطيبة الإيمان. عطية العوفي والربيع بن أنس : هي المؤمن نفسه. وقال مجاهد أيضا وعكرمة : الشجرة النخلة ؛ فيجز أن يكون المعنى : أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه بالنخلة في المنبت ، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة ، وثواب الله له بالثمر. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها" . ويجوز أن يكون المعنى : أصل النخلة ثابت في الأرض ؛ أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها السماء من فوقها ، فهي زاكية نامية. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب ، فقال : {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} - قال - هي النخلة {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} - قال - هي الحنظل ". وروي عن أنس قوله وقال : وهو أصح. وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال : "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدرون ما هي" فوقع في نفسي أنها النخلة. قال السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند ؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة" خرجه مالك "الموطأ" من رواية ابن القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته. وخرجه أهل الصحيح وزاد
(9/359)
فيه الحارث بن أسامة زيادة تساوي رحلة ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "وهى النخلة لا تسقط لها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ". فبين معنى الحديث والمماثلة
قلت : وذكر الغزنوي عنه عليه السلام : "مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به" . وقال : "كلوا من عمتكم" يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ، وكذلك أنها برأسها تبقي ، وبقلبها تحيا ، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى. وقد قيل : إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به ؛ وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانب ، والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا ؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة" . والإبار اللقاح وسيأتي في سورة "الحجر" بيانه. ولأنها من فضلة طينة آدم. ويقال : إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في جنة عدن. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أكرموا عمتكم" قالوا : ومن عمتنا يا رسول الله ؟ قال : "النخلة" . {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال الربيع : "كل حين" غدوة وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره ؛ وقاله ابن عباس. وعنه {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال : هو شجرة جوزة الهند لا تتعطل من ثمرة ، تحمل في كل شهر ، شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت : لنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة. وقال الضحاك : كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات ، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها. وقال النحاس : وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة ، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره ، وأنشد الأصمعي بيت النابغة :
تناذرها الراقون من سوء سمها ...
تطلقه حينا وحينا تراجع
(9/360)
فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت ، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن ، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة ، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها ، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع. وفي رواية عن ابن عباس : إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت. و"مثلا" مفعول بـ"ضرب" ، "وكلمة" بدل منه ، والكاف في قوله : "كشجرة" في موضع نصب على الحال من "كلمة" التقدير : كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة
الثانية : - قوله تعالى : {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين ؛ ولهذا قلنا : من حلف ألا يكلم فلانا حينا ، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان : 1] قيل في "التفسير" : أربعون عاما. وحكى عكرمة أن رجلا قال : إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر ، فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأل ، فسألني عنها فقلت : إن من الحين حينا لا يدرك ، قوله : {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء : 111] فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها ، فكأنه أعجبه ؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في "البقرة" مستوفى والحمد لله. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} أي الأشباه {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويعتبرون ؛ وقد تقدم.
الآية : 26 {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}
الكلمة الخبيثة كلمة الكفر. وقيل : الكافر نفسه. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث أنس ، وهو قول ابن عباس ومجاهد
(9/361)
وغيرهما ، وعن ابن عباس أيضا : أنها شجرة لم تخلق على الأرض. وقيل : هي شجرة الثوم ؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل : الكمأة أو الطحلبة. وقيل : الكشوث ، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض ؛ قال الشاعر :
وهم كشوث فلا أصل ولا ورق
{اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} اقتلعت من أصلها ؛ قال ابن عباس ؛ ومنه قول لقيط :
والجلاء الذي تجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا
وقال المؤرج : أخذت جثتها وهي نفسها ، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما. وجثه قلعه ، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض ؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض. "ما لها من قرار" أي من أصل في الأرض. وقيل : من ثبات ؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه ، وما يصعد له قول طيب ولا عمل صالح. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} قال : لا إله إلا الله "كشجرة طيبة" قال : المؤمن ، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن ؛ "ومثل كلمة خبيثة" قال : الشرك ، "شجرة خبيثة" قال : المشرك ؛ {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه. وقيل : يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان ، والدعاء إلى الشرك ؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء.
الآية : 27 {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
قوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} قال ابن عباس : هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء قال قال : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
(9/362)
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} نزلت في عذاب القبر ؛ يقال : من ربك ؟ فيقول : ربي الله وديني دين محمد ، فذلك قوله : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
قلت : وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قول ، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذكر البخاري ؛ حدثنا جعفر بن عمر ، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . وقد بينا هذا الباب في كتاب "التذكرة" وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل ، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك. وقال سهل بن عمار : رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أتاني في قبري ملكان فظان غليظان ، فقالا : ما دينك ومن ربك ومن نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت : ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة ؟ ! فذهبا وقالا : أكتبت عن حريز بن عثمان ؟ قلت نعم! فقالا : إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله. وقيل : معنى ، {يُثَبِّتُ اللَّهُ} يديمهم الله على القول الثابت ، ومنه قول عبدالله بن رواحة :
يثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا
وقيل : يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت. وقال القفال وجماعة : {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي في القبر ؛ لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا ، {وَفِي الْآخِرَةِ} أي عند الحساب ؛ وحكاه الماوردي عن البراء قال : المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر ، وبالآخرة المساءلة في القيامة : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا
(9/363)
بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق ، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري ؛ فيقول : لا دريت ولا تليت ؛ وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار ؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب {التذكرة}. وقيل : يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا. {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من عذاب قوم وإضلال قوم. وقيل : إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر : يا رسول الله معي عقلي ؟ قال : "نعم" قال : كفيت إذا ؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
الآية : 28 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}
الآية : 29 {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}
الآية : 30 {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} أي جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا ، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم ؛ عن ابن عباس وعلي وغيرهما. وقيل : نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر. قال أبو الطفيل : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : هم قريش الذين نحروا يوم بدر. وقيل : نزلت في الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية ، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ؛ وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر ؛ قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقول رابع : أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص بمثلها ، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه ؛ عن ابن عباس وقتادة. ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال :
(9/364)
تنصرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليتني أرعى المخاض ببلدة ... ولم أنكر القول الذي قاله عمر
وقال الحسن : إنها عامة في جميع المشركين. {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} أي أنزلوهم. قال ابن عباس : هم قادة المشركين يوم بدر. {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} أي الذين اتبعوهم. {دَارَ الْبَوَارِ} قيل : جهنم ؛ قال ابن زيد. وقيل : يوم بدر ؛ قال علي بن أبي طالب ومجاهد. والبوار الهلاك ؛ ومنه قول الشاعر :
فلم أر مثلهم أبطال حرب ... غداة الحرب إذ خيف البوار
قوله تعالى : {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد ، وعلى هذا لا يجوز الوقف على {دَارَ الْبَوَارِ} لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن {دَارَ الْبَوَارِ} فلو رفعها رافع بإضمار ، على معنى : هي جهنم ، أو بما عاد من الضمير في {يَصْلَوْنَهَا} لحسن الوقف على {دَارَ الْبَوَارِ} . { وَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي المستقر.
قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} أي أصناما عبدوها ؛ وقد تقدم في "البقرة". {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي عن دينه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، وكذلك في الحج {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج : 9] ومثله في "لقمان" و"الزمر" وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله ، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم ، أي عاقبتم إلى الإضلال والضلال ؛ فهذه لام العاقبة. {قُلْ تَمَتَّعُوا} وعيد لهم ، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع. {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم.
الآية : 31 {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}
(9/365)
قوله تعالى : {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر ، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن {يُقِيمُوا الصَّلاةَ} يعني الصلوات الخمس ، أي قل لهم أقيموا ، والأمر معه شرط مقدر ، تقول : أطع الله يدخلك الجنة ؛ أي إن أطعته يدخلك الجنة ؛ هذا قول الفراء. وقال الزجاج : "يقيموا" مجزوم بمعنى اللام ، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب بـ "قل". قال : ويحتمل أن يقال : "يقيموا" جواب أمر محذوف ؛ أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} يعني الزكاة ؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الجمهور : السر ما خفي والعلانية ما ظهر. وقال القاسم بن يحيى : إن السر التطوع والعلانية الفرض ، وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مجودا عند قوله : {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة : 271]. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} تقدم في "البقرة" أيضا و"خلال" جمع خلة كقلة وقلال. قال :
فلست بمقلي الخلال ولا قالي
الآية : 32 {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}
الآية : 33 {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}
الآية : 34 {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق. "وأنزل من السماء" أي من السحاب. {مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} أي من الشجر
(9/366)
ثمرات {رِزْقاً لَكُمْ}. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} تقدم معناه في "البقرة". {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا ، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره ، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية. وقيل : دائبين في السير امتثالا لأمر الله ، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ؛ روي معناه عن ابن عباس. {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ، كما قال : {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص : 73].
قوله تعالى : {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئا ؛ فحذف ؛ عن الأخفش. وقيل : المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه ، ومن كل ما لم تسألوه فحذف ، فلم نسأل شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها. وهذا كما قال : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] على ما يأتي. وقيل : "من" زائدة ؛ أي أتاكم كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما "وآتاكم من كل" بالتنوين "ما سألتموه" وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقتادة ؛ هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه ؛ كالشمس والقمر وغيرهما. وقيل : من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما سألتموه. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أي نعم الله. {لا تُحْصُوهَا} ولا تطيقوا عدها ، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها ، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق ؛ نعم لا تحصى وهذه النعم من الله ، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر ؟ ! وهلا استعنتم بها على الطاعة ؟ ! {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص ؛ قال ابن عباس : أراد أبا جهل. وقيل : جميع الكفار.
الآية : 35 { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}
الآية : 36 {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(9/367)
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} يعني مكة وقد مضى في "البقرة". {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} أي اجعلني جانبا عن عبادتها ، وأراد بقوله : {بَنِيَّ} بنيه من ، صلبه وكانوا ثمانية ، فما عبد أحد منهم صنما. وقيل : هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له. وقرأ الجحدري وعيسى "وأجنبني" بقطع الألف والمعنى واحد ؛ يقال : جنبت ذلك الأمر ؛ وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه وأجتنبه أي تركه. وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه : من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول "وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام" كما عبدها أبي وقومي.
الآية : 36 {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} لما كانت سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا ؛ فإن الأصنام جمادات لا تفعل. {فَمَنْ تَبِعَنِي} في التوحيد. {فَإِنَّهُ مِنِّي} أي من أهل ديني. {وَمَنْ عَصَانِي} أي أصر على الشرك. {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قيل : قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل : غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت. وقال مقاتل بن حيان : {وَمَنْ عَصَانِي} فيما دون الشرك.
(9/368)