" صفحة رقم 303 "
الرعد : ) 16 ( قل من رب . . . . .) الرعد 16 (
قوله تعالى : ) قل من رب السماوات والأرض ( أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول للمشركين : قل من رب السماوات والأرض ثم أمره أن يقول لهم : هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك وجهلوا من هو ) قل أفاتخذتم من دونه أولياء ( هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله : قل أفاتخذتم من دونه أولياء معنى دليله قوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره وذلك الغير لا ينفع ولا يضر وهو إلزام صحيح ثم ضرب لهم مثلا فقال : ) قل هل يستوي الأعمى والبصير ( فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق والمشرك الذي لا يبصر الحق وقيل : الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله والبصير مثل الله تعالى : ) أم هل تستوي الظلمات والنور ( أي الشرك والإيمان وقرأ بن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي يستوي بالياء لتقدم الفعل ولأن تأنيث الظلمات ليس بحقيقي الباقون بالتاء واختاره أبو عبيد قال : لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل والظلمات والنور مثل الإيمان والكفر ونحن لا نقف على كيفية ذلك ) أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ( هذا من تمام الاحتجاج أي خلق غير الله مثل
(9/303)
" صفحة رقم 304 "
خلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم ) قل الله خالق كل شيء ( أي قل لهم يا محمد : الله خالق كل شيء فلزم لذلك أن يعبده كل شيء والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله ) وهو الواحد ( قبل كل شيء ) القهار ( الغالب لكل شيء الذي يغلب في مراده كل مريد قال القشيري أبو نصر : ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع أي سلهم عن خالق السماوات والأرض فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم ويقرب الأمر من الضرورة فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك فبم يعلم أن الفعل من اثنين
الرعد : ) 17 ( أنزل من السماء . . . . .) الرعد 17 : 19 (
قوله تعالى : ) أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ( ضرب مثلا للحق والباطل فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية وتدفعه الرياح فكذلك يذهب الكفر ويضمحل على مانبينه قال مجاهد
(9/304)
" صفحة رقم 305 "
فسالت أودية بقدرها قال : بقدر ملئها وقال بن جريج : بقدر صغرها وكبرها وقرأ الأشهب العقيلي والحسن بقدرها بسكون الدال والمعنى واحد وقيل : معناها بما قدر لها والأودية جمع الوادي وسمي واديا لخروجه وسيلانه فالوادي على هذا اسم للماء السائل وقال أبو علي : فسالت أودية توسع أي سال ماؤها فحذف قال : ومعنى بقدرها بقدر مياهها لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها فاحتمل السيل زبدا رابيا أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء وتم الكلام قاله مجاهد ثم قال : ) ومما يوقدون عليه في النار ( وهو المثل الثاني ) ابتغاء حلية ( أي حلية الذهب والفضة ) أو متاع زبد مثله ( قال مجاهد : الحديد والنحاس والرصاص وقوله : زبد مثله أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض وقوله : ) كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء ( قال مجاهد : جمودا وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء : أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها وإذا جمد في أسفلها والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالا قال أبو عبيدة : يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته ) وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( قال مجاهد : هو الماء الخالص الصافي وقيل : الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته والباطل في اضمحلاله فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد والخبث وقيل : المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه وشبه القلوب بالأودية يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها قال بن عباس : أنزل من السماء ماء قال : قرآنا فسالت أودية بقدرها قال : الأودية قلوب العباد قال صاحب
(9/305)
" صفحة رقم 306 "
سوق العروس إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء ومثل القلوب بالأودية ومثل المحكم بالصافي ومثل المتشابه بالزبد وقيل : الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال السنية والأخلاق الزكية التي بها جمال الرجال وقوام صالح الأعمال كما أن من الذهب والفضة زينة النساء وبهما قيمة الأشياء وقرأ حميد وبن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص يوقدون بالياء واختاره أبو عبيد لقوله : ينفع الناس فأخبر ولا مخاطبة ها هنا الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام : أفاتخذتم من دونه أولياء الآية وقوله : في النار متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال وذو الحال الهاء التي في عليه التقدير : ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كائنا وفي قوله : في النار ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق في النار ب يوقدون من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار لأن الموقد عليه يكون في النار فيصير قوله : في النار غير مفيد وقوله : ابتغاء حلية مفعول له زبد مثله ابتداء وخبر أي زبد مثل زبد السيل وقيل : إن خبر زبد قوله : في النار الكسائي : زبد ابتداء ومثله نعت له والخبر في الجملة التي قبله وهو مما يوقدون ) كذلك يضرب الله الأمثال ( أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات تم الكلام ثم قال : ) للذين استجابوا لربهم ( أي أجابوا واستجاب بمعنى أجاب قال : فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقد تقدم أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات ) الحسنى ( لأنها في نهاية الحسن وقيل : من الحسنى النصر في الدنيا والنعيم المقيم غدا ( والذين لم يستجيبوا له)
(9/306)
" صفحة رقم 307 "
أي لم يجيبوا إلى الإيمان به ) لو أن لهم ما في الأرض جميعا ( أي من الأموال ) ومثله معه ( ملك لهم ) لافتدوا به ( من عذاب يوم القيامة نظيره في آل عمران إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا آل عمران إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به آل عمران حسب ما تقدم بيانه هناك ) أولئك لهم سوء الحساب ( أي لا يقبل لهم حسنة ولا يتجاوز لهم عن سيئة وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي : يا فرقد أتدري ما سوء الحساب قلت لا قال أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يفقد منه شيء ) ومأواهم ( أي مسكنهم ومقامهم ) جهنم وبئس المهاد ( أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم قوله تعالى : ) أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ( هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وروي أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأبي جهل لعنه الله والمراد بالعمى عمى القلب والجاهل بالدين أعمى القلب ) إنما يتذكر أولو الألباب (الرعد : ) 20 ( الذين يوفون بعهد . . . . .) الرعد 20 (
فيه مسألتان : الأولى قوله تعالى : ) الذين يوفون بعهد الله ( هذا من صفة ذوي الألباب أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله والعهد اسم للجنس أي بجميع عهود الله وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي وقوله : ) ولا ينقضون الميثاق ( يحتمل أن يريد به جنس المواثيق أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه قال قتادة : تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه وهو الذي أخذه
(9/307)
" صفحة رقم 308 "
الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم وقال القفال : هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات الثانية روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال : كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال : ) ألا تبايعون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا : قد بايعناك حتى قالها ثلاثا فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل : يا رسول الله إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك قال ) أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية قال لا تسألوا الناس شيئا ) قال : ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله إياه قال بن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه فقد كان أبو حمزة الخرساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألا يسألوا أحدا شيئا الحديث فقال أبو حمزة : رب إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا قال : فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق فلما حل في قعره قال : أستغيث لعل أحدا يسمعني ثم قال : إن الذي عاهدته يراني ويسمعني والله لا تكلمت بحرف للبشر ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا : إنه لينبغي سد هذا البئر ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب فلما رأى ذلك أبو حمزة قال : هذه مهلكة ثم أراد أن يستغيث بهم ثم قال : والله لا أخرج منها أبدا ثم رجع إلى نفسه فقال : أليس قد عاهدت من يراك فسكت وتوكل ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره فإذا بالتراب يقع عليه والخشب يرفع عنه وسمع في أثناء ذلك من يقول : هات يدك قال : فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر فخرجت فلم أر أحدا فسمعت هاتفا يقول : كيف رأيت ثمرة التوكل وأنشد
(9/308)
" صفحة رقم 309 "
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف تلطفت في أمري فأبديت شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك في كف أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف قال بن العربي : هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا قال أبو الفرج الجوزي : سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه وذلك لا يحل ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة كما لم يخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من التوكل بإخفائه الخروج من مكة واستئجاره دليلا واستكتامه ذلك الأمر واستتاره في الغار وقوله لسراقة : ) اخف عنا ) فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر وآلة يجتلب بها النفع فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل وردا لحكمة التواضع لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى وليس من ضرورته قطع الأسباب ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار قاله سفيان الثوري وغيره لأنه قد دل على طريق السلامة فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه وقال أبو الفرج : ولا التفات إلى قول أبي حمزة : فجاء أسد فأخرجني فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به إنما ينكر فعله الذي هو كسبه وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده وقد أمره بحفظها
الرعد : ) 21 ( والذين يصلون ما . . . . .) الرعد 21 : 24 (
(9/309)
" صفحة رقم 310 "
قوله تعالى : ) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ( ظاهر في صلة الأرحام وهو قول قتادة وأكثر المفسرين وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات ) ويخشون ربهم ( قيل : في قطع الرحم وقيل : في جميع المعاصي ) ويخافون سوء الحساب ( سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة ومن نوقش الحساب عذب وقال بن عباس وسعيد بن جبير : معنى يصلون ما أمر الله به الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم الحسن : هو صلة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل رابعا : أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح ويخشون ربهم فيما أمرهم بوصله ويخافون سوء الحساب في تركه والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا وبالله توفيقنا قوله تعالى : ) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ( قيل : الذين مستأنف لأن صبروا ماض فلا ينعطف على يوفون وقيل : هو من وصف من تقدم ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي وتارة بلفظ المستقبل لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا ولما كان الذين يتضمن الشرط والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك ولهذا قال : الذين يوفون ثم قال : والذين صبروا ثم عطف عليه فقال : ويدرءون بالحسنة السيئة قال بن زيد : صبروا على طاعة الله وصبروا عن معصية الله وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب والحوادث والنوائب وقال أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله ) وأقاموا الصلاة ( أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها ) وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ( يعني الزكاة المفروضة عن بن عباس وقد مضى القول في هذا في البقرة وغيرها ) ويدرءون بالحسنة السيئة ( أي يدفعون بالعمل
(9/310)
" صفحة رقم 311 "
الصالح السيء من الأعمال قاله بن عباس بن زيد : يدفعون الشر بالخير سعيد بن جبير : يدفعون المنكر بالمعروف الضحاك : يدفعون الفحش بالسلام جويبر : يدفعون الظلم بالعفو بن شجرة : يدفعون الذنب بالتوبة القتبي : يدفعون سفه الجاهل بالحلم فالسفه السيئة والحلم الحسنة وقيل : إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا وقيل : يدفعون الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله فهذه تسعة أقوال معناها كلها متقارب والأول يتناولها بالعموم ونظيره : إن الحسنات يذهبن السيئات ومنه قوله عليه السلام لمعاذ : ) وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) قوله تعالى : ) أولئك لهم عقبى الدار ( أي عاقبة الآخرة وهي الجنة بدل النار والدار غدا داران : الجنة للمطيع والنار للعاصي فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة وقيل : عنى بالدار دار الدنيا أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا قوله تعالى : ) جنات عدن يدخلونها ( أي لهم جنات عدن ف جنات عدن بدل من عقبى ويجوز أن تكون تفسيرا ل عقبى الدار أي لهم دخول جنات عدن لأن عقبى الدار حدث وجنات عدن عين والحدث إنما يفسر بحدث مثله فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول ويجوز أن يكون جنات عدن خبر ابتداء محذوف وجنات عدن وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن قاله القشيري أبو نصر عبد الملك وفي صحيح البخاري : ) إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) فيحتمل أن يكون جنات كذلك إن صح فذلك خبر وقال عبد الله بن عمرو : إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه ألف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وعدن مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه على ما يأتي بيانه في سورة الكهف إن شاء الله تعالى ) ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ( يجوز أن
(9/311)
" صفحة رقم 312 "
يكون معطوفا على أولئك المعنى : أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في يدخلونها وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما ويجوز أن يكون المعنى : يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم أي من كان صالحا لا يدخلونها بالأنساب ويجوز أن يكون موضع من نصبا على تقدير : يدخلونها مع من صلح من آبائهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم وقال بن عباس : هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية قال القشيري : وفي هذا نظر لأنه لا بد من الإيمان فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال والمعنى : أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه بل برحمة الله تعالى قوله تعالى : ) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم ) سلام عليكم ( أي يقولون : سلام عليكم فأضمرالقول أي قد سلمتم من الآفات والمحن وقيل : هو دعاء لهم بدوام السلامة وإن كانوا سالمين أي سلمكم الله فهو خبر معناه الدعاء ويتضمن الاعتراف بالعبودية ) بما صبرتم ( أي بصبركم فما مع الفعل بمعنى المصدر والباء في بما متعلقة بمعنى سلام عليكم ويجوز أن تتعلق بمحذوف أي هذه الكرامة بصبركم أي على أمر الله تعالى ونهيه قاله سعيد بن جبير وقيل : على الفقر في الدنيا قاله أبو عمران الجوني وقيل : على الجهاد في سبيل الله كما روي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله ) قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ) ) المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) وقال محمد بن إبراهيم : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : ) السلام عليكم بما صبرتم فنعم
(9/312)
" صفحة رقم 313 "
عقبى الدار ) وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأتي الشهداء فإذا أتى فرضة الشعب يقول : ) السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) ثم كان أبو بكر بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يفعله وكان عمر بعد أبي بكر يفعله وكان عثمان بعد عمر يفعله وقال الحسن البصري رحمه الله : بما صبرتم عن فضول الدنيا وقيل : بما صبرتم على ملازمة الطاعة ومفارقة المعصية قال معناه الفضيل بن عياض بن زيد : بما صبرتم عما تحبونه إذا فقدتموه ويحتمل سابعا بما صبرتم عن اتباع الشهوات وعن عبد الله بن سلام وعلي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما قالا : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إلى أين فيقولون : إلى الجنة قالوا : قبل الحساب قالوا نعم فيقولون : من أنتم فيقولون : نحن أهل الصبر قالوا : وما كان صبركم قالوا : صبرنا أنفسنا على طاعة الله وصبرناها عن معاصي الله وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا قال علي بن الحسين فتقول لهم الملائكة آدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين وقال بن سلام : فتقول لهم الملائكة : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه فالعقبى على هذا اسم والدار هي الدنيا وقال أبو عمران الجوني : فنعم عقبى الدار الجنة عن النار وعنه : فنعم عقبى الدار الجنة عن الدنيا
الرعد : ) 25 ( والذين ينقضون عهد . . . . .) الرعد 25 : 26 (
(9/313)
" صفحة رقم 314 "
قوله تعالى : ) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ( لما ذكر الموفين بعهده والمواصلين لأمره وذكر مالهم ذكر عكسهم نقض الميثاق : ترك أمره وقيل : إهمال عقولهم فلا يتدبرون بها ليعرفوا الله تعالى ) ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ( أي من الأرحام والإيمان بجميع الأنبياء ) ويفسدون في الأرض ( أي بالكفر وارتكاب المعاصي ) أولئك لهم اللعنة ( أي الطرد والإبعاد من الرحمة ) ولهم سوء الدار ( أي سوء المنقلب وهو جهنم وقال سعد بن أبي وقاص : والله الذي لا إله إلا هو إنهم الحرورية قوله تعالى : ) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا لأنها دار امتحان فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم ويقدر أي يضيق ومنه ومن قدر عليه رزقه الطلاق أي ضيق وقيل : يقدر يعطي بقدر الكفاية ) وفرحوا بالحياة الدنيا ( يعني مشركي مكة فرحوا بالدنيا ولم يعرفوا غيرها وجهلوا ما عند الله وهو معطوف على ويفسدون في الأرض وفي الآية تقديم وتأخير التقدير : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا ) وما الحياة الدنيا في الآخرة ( أي في جنبها ) إلا متاع ( أي متاع من الأمتعة كالقصعة والسكرجة وقال مجاهد : شيء قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال بن عباس : زاد كزاد الراعي وقيل : متاع الحياة الدنيا ما يستمتع بها منها وقيل : ما يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح ولهم سوء الدار ثم ابتدأ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي يوسع ويضيق
الرعد : ) 27 ( ويقول الذين كفروا . . . . .) الرعد 27 : 28 (
(9/314)
" صفحة رقم 315 "
قوله تعالى : ) ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ( بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق والقائل عبد الله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالآيات ) قل إن الله ( عز وجل ) يضل من يشاء ( أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها ) ويهدي إليه من أناب ( أي من رجع والهاء في إليه للحق أو للإسلام أو لله عز وجل على تقدير : ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه وقيل : هي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله تعالى : ) الذين آمنوا ( الذين في موضع نصب لأنه مفعول أي يهدي الله الذين آمنوا وقيل بدل من قوله : من أناب فهو في محل نصب أيضا ) وتطمئن قلوبهم بذكر الله ( أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن قال : أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم قال قتادة : وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : بالقرآن وقال سفيان بن عيينة : بأمره مقاتل : بوعده بن عباس : بالحلف باسمه أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه كما توجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه وقيل : بذكر الله أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( أي قلوب المؤمنين قال بن عباس : هذا في الحلف فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه وقيل : بذكر الله أي بطاعة الله وقيل : بثواب الله وقيل : بوعد الله وقال مجاهد : هم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الرعد : ) 29 ( الذين آمنوا وعملوا . . . . .) الرعد 29 (
قوله تعالى : ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم ( ابتداء وخبره وقيل : معناه لهم طوبى ف طوبى رفع بالابتداء ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير : جعل
(9/315)
" صفحة رقم 316 "
لهم طوبى ويعطف عليه : وحسن مآب على الوجهين المذكورين فترفع أو تنصب وذكر عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن عبد السلمي قال : جاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال : فيها فاكهة قال : ) نعم شجرة تدعى طوبى ) قال : يا رسول الله أي شجرة أرضنا تشبه قال ) لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعى الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها ) قال : يا رسول الله فما عظم أصلها قال : ) لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما ) وذكر الحديث وقد كتبناه بكماله في أبواب الجنة من كتاب التذكرة والحمد لله وذكر بن المبارك قال : أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله تعالى لها : تفتقي لعبدي عما شاء فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء وعن النجائب والثياب وذكر بن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال : طوبى شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها ولا طير حسن إلا هو فيها ولا ثمرة إلا هي منها وقد قيل : إن أصلها في قصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجنة ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا وقال بن عباس : طوبى لهم فرح لهم وقرة عين وعنه أيضا أن طوبى اسم الجنة بالحبشية وقاله سعيد بن جبير الربيع بن أنس : هو البستان بلغة الهند قال القشيري : إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين وقال قتادة : طوبى لهم حسنى لهم عكرمة : نعمى لهم إبراهيم النخعي : خير لهم وعنه أيضا كرامة من الله لهم الضحاك : غبطة لهم النحاس : وهذه الأقوال متقاربة لأن طوبى فعلى من الطيب أي العيش الطيب لهم وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب وقال الزجاج : طوبى فعلى من الطيب وهي الحالة المستطابة لهم والأصل طيبى فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها كما قالوا : موسر وموقن
(9/316)
" صفحة رقم 317 "
قلت : والصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع الذي ذكرناه وهو صحيح على ما ذكره السهيلي ذكره أبو عمر في التمهيد ومنه نقلناه وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة ) ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي وقال بن عباس : طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفي دار كل مؤمن منها غصن وقال أبو جعفر محمد بن علي : سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله تعالى : طوبى لهم وحسن مآب قال : ) شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة ) ثم سئل عنها مرة أخرى فقال : ) شجرة أصلها في دار علي وفروعها في الجنة ) فقيل له : يا رسول الله سئلت عنها فقلت : ) أصلها في داري وفروعها في الجنة ) ثم سئلت عنها فقلت : ) أصلها في دار علي وفروعها في الجنة ) فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ) هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها ) وحسن مآب ( آب إذا رجع وقيل : تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم
( كذلك أرسلناك في . . . . .) الرعد 30
قوله تعالى : ) كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم ( أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك قاله الحسن وقيل : شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله ) لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك ( يعني القرآن ) وهم يكفرون بالرحمن ( قال مقاتل وبن جريج : نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا
(9/317)
" صفحة رقم 318 "
أن يكتبوا كتاب الصلح فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي : ) اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل بن عمرو والمشركون ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي : ) اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال مشركو قريش : لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فقال أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : دعنا نقاتلهم فقال : ) لا ولكن اكتب ما يريدون ) فنزلت وقال بن عباس : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) اسجدوا للرحمن ) قالوا وما الرحمن فنزلت ) قل ( لهم يامحمد : الدي أنكرتم ) هو ربي لا إله إلا هو ( ولا معبود سواه هو واحد بذاته وإن اختلفت أسماء صفاته ) عليه توكلت ( واعتمدت ووثقت ) وإليه متاب ( أي مرجعي غدا واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت رضا بقضائه وتسليما لأمره وقيل : سمع أبو جهل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو في الحجر ويقول : ) يا الله يا رحمن ) فقال : كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين فنزلت هذه الآية ونزل قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
(9/318)