" صفحة رقم 291 "
( له معقبات من . . . . .) الرعد 11 (
قوله تعالى : ) له معقبات ( أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار وقال : معقبات والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة يقال : ملك معقب وملائكة معقبة ثم معقبات جمع الجمع وقرأ بعضهم له معاقيب من بين يديه ومن خلفه ومعاقيب جمع معقب وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل : أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة وراوية قاله الجوهري وغيره والتعقب العود بعد البدء قال الله تعالى : ولى مدبرا ولم يعقب النمل أي لم يرجع وفي الحديث : ) معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن ) فذكر التسبيح والتحميد والتكبير قال أبو الهيثم : سمين معقبات لأنهن عادت مرة بعد مرة فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى وقوله : ) من بين يديه ( أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار ) يحفظونه من أمر الله ( اختلف في هذا الحفظ فقيل : يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة لطفا منه به فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه قاله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي فقال : احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك فقال : إن مع كل
(9/291)
" صفحة رقم 292 "
رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله وإن الأجل حصن حصينة وعلى هذا يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله وبإذنه فمن بمعنى الباء وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض وقيل : من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله وهذا قريب من الأول أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم وهذا قول الحسن تقول : كسوته عن عري ومن عري ومنه قوله عز وجل : أطعمهم من جوع قريش أي عن جوع وقيل : يحفظونه من ملائكة العذاب حتى لا تحل به عقوبة لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة وتزول عنهم الحفظة المعقبات وقيل : يحفظونه من الجن قال كعب : لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن وملائكة العذاب من أمر الله وخصهم بأن قال : من أمر الله لأنهم غير معاينين كما قال : قل الروح من أمر ربي أي ليس مما تشاهدونه أنتم وقال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير تقديره له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه وهو مروي عن مجاهد وبن جريج والنخعي وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير وقال بن جريج : إن المعنى يحفظون عليه عمله فحذف المضاف وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في له لله عز وجل كما ذكرنا ويجوز أن تكون للمستخفي فهذا قول وقيل : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يعني به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه وقد جرى ذكر الرسول في قوله : لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل له معقبات يحفظونه عليه السلام ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل لأنه قد قال : ولكل قوم هاد أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه وقول رابع أن المراد بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم
(9/292)
" صفحة رقم 293 "
يحفظونهم فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا قاله بن عباس وعكرمة وكذلك قال الضحاك : هو السلطان المتحرس من أمر الله المشرك وقد قيل : إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا تقديره : لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماوردي قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه وقيل : سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ قال القشيري : وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه فقوله : يحفظونه من أمر الله أي من امتثال أمر الله وقال عبد الرحمن بن زيد : المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده قال الماوردي ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله يحفظونه من أمر الله وجهان أحدهما يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل قاله الضحاك الثاني يحفظونه من الجن والهوام المؤذية ما لم يأت قدر قاله أبو أمامة وكعب الأحبار فإذا جاء المقدور خلوا عنه والصحيح أن المعقبات الملائكة وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وبن جريج وروى عن بن عباس واختاره النحاس واحتج بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) الحديث رواه الأئمة وروى الأئمة عن عمرو عن بن عباس قرأ معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه فهذا قد بين المعنى وقال كنانة العدوي : دخل عثمان رضي الله تعالى عنه على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك قال : ) ملك عن يمينك يكتب الحسنات وآخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه
(9/293)
" صفحة رقم 294 "
فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ق وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع بن آدم بالنهار وولده بالليل ) ذكره الثعلبي قال الحسن : المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر واختيار الطبري : أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم والهاء في له لهن على ما تقدم وقال العلماء رضوان الله عليهم : إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين : أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره والآخر قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ قوله تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير إما منهم أو من الناظر لهم أو ممن هو منهم بسبب كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم إلى غير هذا من أمثلة الشريعة فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) وقد سئل أنهلك وفينا الصالحون قال ) نعم إذا كثر الخبث ) والله أعلم قوله تعالى : ) وإذا أراد الله بقوم سوءا ( أي هلاكا وعذابا ) فلا مرد له ( وقيل : إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه وقيل : إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى
(9/294)
" صفحة رقم 295 "
أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه ) ومالهم من دونه من وال ( أي ملجأ وهو معنى قول السدي وقيل : من ناصر يمنعهم من عذابه وقال الشاعر : ما في السماء سوى الرحمن من وال ووال وولي كقادر وقدير
الرعد : ) 12 ( هو الذي يريكم . . . . .) الرعد 12 : 13 (
قوله تعالى : ) هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ( أي بالمطر والسحاب جمع والواحدة سحابة وسحب وسحائب في الجمع أيضا ) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق ( قد مضى في البقرة القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للأعادة والمراد بالآية بيان كمال قدرته وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز أي يريكم البرق في السماء خوفا للمسافر فإنه يخاف أذاه لما يناله من المطر والهول والصواعق قال الله تعالى : أذى من مطر وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما وقال الحسن : خوفا من صواعق البرق وطمعا في غيثه المزيل للقحط وينشئ السحاب الثقال قال مجاهد : أي بالماء ويسبح الرعد بحمده من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه ودليل صحة هذا القول قوله : والملائكة من خيفته فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة ومن قال إنه ملك قال : معنى من خيفته من خيفة الله قاله الطبري وغيره قال بن عباس : إن الملائكة
(9/295)
" صفحة رقم 296 "
خائفون من الله ليس كخوف بن آدم لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب وعنه قال : الرعد ملك يسوق السحاب وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه وأنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر وأنه يسبح الله فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل القطر وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان الذي سبحت له وروى مالك عن عامر بن عبد الله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان الله الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثم يقول : إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد وقيل : إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله ) ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ( ذكر الماوردي عن بن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد : نزلت في يهودي قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أخبرني من أي شيء ربك أمن لؤلؤ أم من ياقوت فجاءت صاعقة فأحرقته وقيل : نزلت في بعض كفار العرب قال الحسن : كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم : أخبروني عن رب محمد ما هو ومم هو أمن فضة أم من حديد أم نحاس فاستعظم القوم مقالته فقال : أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليه مرارا وهو يقول مثل هذا فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فرجعوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : احترق صاحبكم فقالوا : من أين علمتم قالوا : أوحى الله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ذكره الثعلبي عن الحسن والقشيري بمعناه عن أنس وسيأتي وقيل : نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة وفي عامر بن الطفيل قال بن عباس : أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة
(9/296)
" صفحة رقم 297 "
العامريان يريدان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجمل الناس فقال رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك فقال : ) دعه فإن يرد الله به خيرا يهده ) فأقبل حتى قام عليه فقال يا محمد مالي إن أسلمت فقال : ) لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ) قال : أتجعل لي الأمر من بعدك قال : ) ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء ) قال : أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر قال : ) لا ) قال : فما تجعل لي قال : ) ) أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله ) قال : أو ليس لي أعنة الخيل اليوم قم معي أكلمك فقام معه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان عامر أومأ إلى أربد : إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف فجعل يخاصم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويراجعه فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله ويبست يده على سيفه وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هاربا وقال : يا محمد دعوت ربك على أربد حتى قتلته والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا فقال عليه السلام : ) ) يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة ) يعني الأوس والخزرج فنزل عامر بيت امرأة سلولية وأصبح وهو يقول : والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه يريد ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ثم ركب على فرسه فمات على ظهره ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال : يا عين هلا بكيت أربد إذ قم نا وقام الخصوم في كبد أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد
(9/297)
" صفحة رقم 298 "
وفيه قال : إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه مسألة روى أبان عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل ) وقال أبو هريرة رضي الله عنه : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سمع صوت الرعد يقول : ) سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته ) وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال : كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد فقال لنا كعب : من قال حين يسمع الرعد : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد ففعلنا فعوفينا ثم لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به فقلت : يا أمير المؤمنين ما هذا قال بردة أصابت أنفي فأثرت فقلت : إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا : من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد فقلنا فعوفينا فقال عمر : أفلا قلتم لنا حتى نقولها وقد تقدم هذا المعنى في البقرة قوله تعالى : ) وهم يجادلون في الله ( يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى : من أي شيء هو قاله مجاهد وقال بن جريج : جدال أربد فيما هم به من قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجوز أن يكون وهم يجادلون في الله حالا ويجوز أن يكون منقطعا وروى أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل فقال لرسول الله : أخبرني عن إلهك هذا أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس
(9/298)
" صفحة رقم 299 "
فاستعظم ذلك فرجع إليه فأعلمه فقال : ) ارجع إليه فادعه ) فرجع إليه وقد أصابته صاعقة وعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد نزل : وهم يجادلون في الله ) وهو شديد المحال ( قال بن الأعرابي : المحال المكر والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق النحاس : المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر وروى بن اليزيدي عن أبي زيد وهو شديد المحال أي النقمة وقال الأزهري : المحال أي القوة والشدة والمحل : الشدة الميم أصلية وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد وقال أبو عبيد : المحال العقوبة والمكروه وقال بن عرفة : المحال الجدال يقال : ما حل عن أمره أي جادل وقال القتيبي : أي شديد الكيد وأصله من الحيلة جعل ميمه كميم المكان وأصله من الكون ثم يقال : تمكنت وقال الأزهري : غلط بن قتيبة أن الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية مثل : مهاد وملاك ومراس وغير ذلك من الحروف ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل : مزود ومحول ومحور وغيرها من الحروف وقال : وقرأ الأعرج وهو شديد المحال بفتح الميم وجاء تفسيره على هذه القراءة عن بن عباس أنه الحول ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي إلا ما ذكرناه أولا عن بن الأعرابي وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها وهي ثمانية : أولها شديد العداوة قاله بن عباس وثانيها شديد الحول قاله بن عباس أيضا وثالثها شديد الأخذ قاله علي بن أبي طالب ورابعها شديد الحقد قاله بن عباس وخامسها شديد القوة قاله مجاهد وسادسها شديد الغضب قاله وهب بن منبه وسابعها شديد الهلاك بالمحل وهو القحط قاله الحسن أيضا وثامنها شديد الحيلة قاله قتادة وقال أبو عبيدة معمر : المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة وأنشد للأعشى : فرع نبع يهتز في غصن المج د كثير الندى شديد المحال
(9/299)
" صفحة رقم 300 "
وقال آخر : ولبس بين أقوام فكل أعد له الشغازب والمحالا وقال عبد المطلب : لا هم إن المرء يم نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك
الرعد : ) 14 ( له دعوة الحق . . . . .) الرعد 14 (
قوله تعالى : ) له دعوة الحق ( أي لله دعوة الصدق قال بن عباس وقتادة وغيرهما : لا إله إلا الله وقال الحسن : إن الله هو الحق فدعاؤه دعوة الحق وقيل : إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق قاله بعض المتأخرين وقيل : دعوة الحق دعاؤه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه إلا إياه كما قال : ضل من تدعون إلا إياه قال الماوردي : وهو أشبه بسياق الآية لأنه قال : ) والذين يدعون من دونه ( يعني الأصنام والأوثان ) لا يستجيبون لهم بشيء ( أي لا يستجيبون لهم دعاء ولا يسمعون لهم نداء ) إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ( ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الأجابة لدعائهم لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد قال : فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
(9/300)
" صفحة رقم 301 "
وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه : أحدها أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا لأن الماء لا يستجيب وما الماء ببالغ إليه قاله مجاهد الثاني أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه لكذب ظنه وفساد توهمه قاله بن عباس الثالث أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه وزعم الفراء أن المراد بالماء ها هنا البئر لأنها معدن للماء وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء وشاهده قول الشاعر : فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت قال علي رضي الله عنه : هو كالعطشان على شفة البئر فلا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع إليه ومعنى إلا كباسط إلا كاستجابة باسط كفيه إلى الماء فالمصدر مضاف إلى الباسط ثم حذف المضاف وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء والمعنى : إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء واللام في قوله : ليبلغ فاه متعلقة بالبسط وقوله : وما هو ببالغه كناية عن الماء أي وما الماء ببالغ فاه ويجوز أن يكون هو كناية عن الفم أي ما الفم ببالغ الماء ) وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ( أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال لأنها شرك وقيل : إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه سبيلا كما قال : أينما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وقال بن عباس : أي أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاءهم
الرعد : ) 15 ( ولله يسجد من . . . . .) الرعد 15 (
قوله تعالى : ) ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ( قال الحسن وقتادة وغيرهما : المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد كرها بالسيف وعن قتادة أيضا : يسجد الكافر كارها حين لاينفعه الإيمان وقال الزجاج : سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة
(9/301)
" صفحة رقم 302 "
وقال بن زيد : طوعا من دخل في الإسلام رغبة وكرها من دخل فيه رهبة بالسيف وقيل : طوعا من طالت مدة إسلامه فألف السجود وكرها من يكره نفسه لله تعالى فالآية في المؤمنين وعلى هذا يكون معنى والأرض وبعض من في الأرض قال القشيري : وفي الآية مسلكان : أحدهما أنها عامة والمراد بها التخصيص فالمؤمن يسجد طوعا وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين فالآية محمولة على هؤلاء ذكره الفراء وقيل على هذا القول : الآية في المومنين منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه والمسلك الثاني وهو الصحيح إجراء الآية على التعميم وعلى هذا طريقان : أحدهما أن المؤمن يسجد طوعا وأما الكافر فمأمور بالسجود مؤاخذ به والثاني وهو الحق أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع وهذا كقوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة ) وظلالهم بالغدو والآصال ( أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال لأنها تبين في هذين الوقتين وتميل من ناحية إلى ناحية وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء وهو كقوله تعالى : أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون قاله بن عباس وغيره وقال مجاهد : ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره وقال بن الأنباري : يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت قال القشيري : في هذا نظر لأن الجبل عين فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظلال فآثار وأعراض ولا يتصور تقدير الحياة لها والسجود بمعنى الميل فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب يقال : سجدت النخلة أي مالت والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو ما بين العصر إلى الغروب ثم أصائل جمع الجمع قال أبو ذؤيب الهذلي : لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
و ظلالهم يجوز أن يكون معطوفا على من ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف التقدير : وظلالهم سجد بالغدو والآصال وبالغدو يجوز أن يكون مصدرا ويجوز أن يكون جمع غداة يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به