" صفحة رقم 241 "
( فلما استيأسوا منه . . . . .) يوسف 80
(قوله تعالى فلما استيئسوا منه ( أي يئسوا مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر ) خلصوا ( أي انفردوا وليس هو معهم ) نجيا ( نصب على الحال من المضمر في خلصوا وهو واحد يؤدي عن جمع كما في هذه الآية ويقع على الواحد كقوله تعالى : وقربناه نجيا مريم وجمعه أنجية قال الشاعر : إني إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطرب القوم اضطراب الأرشيه هناك أوصيني ولا توصي بيه وقرأ بن كثير : استايسوا ولا تايسوا إنه لا يايس أفلم يايس بألف من غير همز على القلب قدمت الهمزة وأخرت الياء ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة والأصل قراءة الجماعة لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء يأسا والإياس ليس بمصدر أيس بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته وقال قوم : أيس ويئس لغتان أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس يتناجون فيما عرض لهم والنجي فعيل بمعنى المناجي قوله تعالى : ) قال كبيرهم ( قال قتادة : هو روبيل كان أكبرهم في السن مجاهد : هو شمعون كان أكبرهم في الرأي وقال الكلبي : يهوذا وكان أعقلهم وقال محمد بن كعب وبن إسحاق : هو لاوى وهو أبو الإنبياء ) ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم (9/241)
" صفحة رقم 242 "
موثقا من الله ( أي عهدا من الله في حفظ ابنه ورده إليه ) ومن قبل مافرطتم في يوسف ( ما في محل نصب عطفا على أن والمعنى : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله وتعلموا تفريطكم في يوسف ذكره النحاس وغيره ومن في قوله : ومن قبل متعلقة ب تعلموا ويجوز أن تكون ما زائدة فيتعلق الظرفان اللذان هما من قبل وفي يوسف بالفعل وهو فرطتم ويجوز أن تكون ما والفعل مصدرا ومن قبل متعلقا بفعل مضمر التقدير : تفريطكم في يوسف واقع من قبل فما والفعل في موضع رفع بالابتداء والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به من قبل ) فلن أبرح الأرض ( أي ألزمها ولا أبرح مقيما فيها يقال : برح براحا وبروحا أي زال فإذا دخل النفي صار مثبتا ) حتى يأذن لي أربي ( بالرجوع فإني أستحي منه ) أو يحكم الله لي ( بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي وقيل : المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب وآخذ أخي أو أعجز فأنصرف بعذر وذلك أن يعقوب قال : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن حارب وعجز فقد أحيط به وقال بن عباس : وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته وكان أشدهم غضبا : إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه قالوا : بل اكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق فأخذ كل واحد منهم سوقا ثم أن يهوذا دخل على يوسف وقال : أيها الملك لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب فأغضبه يوسف وأسمعه كلمة فغضب يهوذا واشتد غضبه وانتفجت شعراته وكذا كان كل واحد من بني يعقوب كان إذا غضب اقشعر جلده وانتفخ جسده وظهرت شعرات ظهره من تحت الثوب حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم
(9/242)
" صفحة رقم 243 "
والطير إلا وضعت ما في بطنها تماما أو غير تمام فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما أو تمسكه يد من نسل يعقوب فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره فخرج مسرعا إلى إخوته وقال : هل حضرني منكم أحد قالوا : لا قال : فأين ذهب شمعون قالوا : ذهب إلى الجبل فخرج فلقيه وقد احتمل صخرة عظيمة قال : ما تصنع بهذه قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رؤوس كل من فيه قال : فارجع فردها أو ألقها في البحر ولا تحدثن حدثا فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا لقد مسني كف من نسل يعقوب ثم دخلوا على يوسف وكان يوسف أشدهم بطشا فقال : يا معشر العبرانيين أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار الركل الضرب بالرجل الواحدة وقد ركله يركله قاله الجوهري ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه وقال : هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم ثم صعد على سريره وجلس على فراشه وأمر بصواعه فوضع بين يديه ثم نقره نقرة فخرج طنينه فالتفت إليهم وقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا قال : فإنه يقول : إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم ثم نقر نقرة ثانية وقال : إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه فقالوا : أيها العزيز استر علينا ستر الله عليك وامنن علينا من الله عليك فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول : إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله ثم نقره رابعة وقال : إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه ولم تتوبوا إليه ثم نقره خامسة وقال إنه يقول : إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا ثم نقره سادسة وقال إنه يقول : لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم لأجعلنكم نكالا للعالمين إيتوني بالحدادين أقطع
(9/243)
" صفحة رقم 244 "
أيديهم وأرجلهم فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا : لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده وترابا يطأ علينا برجله فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم : اخرجوا عني قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم ولولا هو لجعلتكم نكالا
يوسف : ) 81 ( ارجعوا إلى أبيكم . . . . .
) يوسف 81 (
قوله تعالى : ) ارجعوا إلى أبيكم ( قاله الذي قال : فلن أبرح الأرض ) فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ( وقرأ بن عباس والضحاك وأبو رزين إن ابنك سرق النحاس : وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا بن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال : سمعت الكسائي يقرأ : يا أبانا إن ابنك سرق بضم السين وتشديد الراء مكسورة على ما لم يسم فاعله أي نسب إلى السرقة ورمي بها مثل خونته وفسقته وفجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال وقال الزجاج : سرق يحتمل معنيين : أحدهما علم منه السرق والآخر اتهم بالسرق قال الجوهري : والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق والمصدر يسرق سرقا بالفتح قوله تعالى : ) وما شهدنا إلا بما علمنا ( فيه أربع مسائل : الأولى قوله تعالى : وما شهدنا إلا بما علمنا يريدون ما شهدنا قط إلا بما علمنا وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين : دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم قال معناه بن إسحاق وقيل المعنى : ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك قاله بن زيد ) وما كنا للغيب حفظين ( أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه وقال مجاهد وقتادة : ما كنا
(9/244)
" صفحة رقم 245 "
نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا وإنما قلنا : نحفظ أخانا فيما نطيق وقال بن عباس : يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير وعنه : ما كنا نعلم ما يصنع في ليله ونهاره وذهابه وإيابه وقيل : ما دام بمرأى منا لم يجر خلل فلما غاب عنا خفيت عنا حالاته وقيل معناه : قد أخذت السرقة من رحله ونحن أخرجناها وننظر إليها ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه ولم يسرق الثانية تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا فلا تسمع إلا ممن علم ولا تقبل إلا منهم وهذا هو الأصل في الشهادات ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة وشهادة المستمع جائزة وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة وكذلك الشهادة على الخط ذا تيقن أنه خطه أو خط فلان صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه قال الله تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهاداته قبل أن يسألها ) وقد مضى في البقرة الثالثة اختلف قول مالك في شهادة المرور وهو أن يقول : مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب وبه قال جماعة العلماء وهو الحق لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم فكان خير الشهداء إذا أعلم المشهود له وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم الرابعة إذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهرا
يوسف : ) 82 ( واسأل القرية التي . . . . .
) يوسف 82 (
(9/245)
" صفحة رقم 246 "
فيه مسألتان : الأولى قوله تعالى : ) واسأل القرية التي كنا فيها والعير ( حققوا بها شهادتهم عنده ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم فقولهم : واسأل القرية أي أهلها فحذف ويريدون بالقرية مصر وقيل : قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها وقيل المعنى : واسأل القرية وإن كانت جمادا فأنت نبي الله وهو ينطق الجماد لك وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار قال سيبويه : ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند لأن هذا يشكل والقول في العير كالقول في القرية سواء ) وإنا لصادقون ( في قولنا الثانية في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه ويصرح بالحق الذي هو عليه حتى لا يبقى لأحد متكلم وقد فعل هذا نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها من المسجد : ) على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي ) فقالا : سبحان الله وكبر عليهما فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ) رواه البخاري ومسلم
يوسف : ) 83 ( قال بل سولت . . . . .
) يوسف 83 (
فيه مسئلتان : الأولى قوله تعالى : ) قال بل سولت ( أي زينت ) لكم أنفسكم ( أن ابني سرق وما سرق وإنما ذلك لأمر يريده الله ) فصبر جميل ( أي فشأني صبر جميل أو صبر جميل أولى بي على ما تقدم أول السورة
(9/246)
" صفحة رقم 247 "
الثانية الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين صلوات الله عليهم أجمعين وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال : ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو وقال بن جريج عن مجاهد في قوله تعالى : فصبر جميل أي لا أشكو ذلك إلى أحد وروى مقاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من بث لم يصبر ) وقد تقدم في البقرة أن الصبر عند أول الصدمة وثواب من ذكر مصيبته واسترجع وإن تقادم عهدها وقال جويبر عن الضحاك عن بن عباس قال : إن يعقوب أعطي على يوسف أجر مائة شهيد وكذلك من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله مثل أجر يعقوب عليه السلام قوله تعالى : ) عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ( لأنه كان عنده أن يوسف ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمت وإنما غاب عنه خبره لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس ثم حبس فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه وقال : بهم لأنهم ثلاثة يوسف وأخوه والمتخلف من أجل أخيه وهو القائل : فلن أبرح الأرض ) إنه هو العليم ( بحالي ) الحكيم ( فيما يقضي
يوسف : ) 84 ( وتولى عنهم وقال . . . . .
) يوسف 84 (
فيه ثلاث مسائل : قوله تعالى : ) وتولى عنهم ( أي أعرض عنهم وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه وبلغ جهده وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال : ) ياأسفا
(9/247)
" صفحة رقم 248 "
على يوسف ( ونسي ابنه بنيامين فلم يذكره عن بن عباس وقال سعيد بن جبير : لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع ولو كان عنده لما قال : يا أسفا على يوسف قال قتادة والحسن : والمعنى يا حزناه وقال مجاهد والضحاك : يا جزعاه قال كثير : فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت والأسف شدة الحزن على ما فات والنداء على معنى : تعال يا أسف فإنه من أوقاتك وقال الزجاج : الأصل يا أسفي فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة ) وابيضت عيناه من الحزن ( قيل : لم يبصر بهما ست سنين وأنه عمي قاله مقاتل وقيل : قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية والله أعلم بحال يعقوب وإنما ابيضت عيناه من البكاء ولكن سبب البكاء الحزن فلهذا قال : من الحزن وقيل : إن يعقوب كان يصلي ويوسف نائما معترضا بين يديه فغط في نومه فالتفت يعقوب إليه ثم غط ثانية فالتفت إليه ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه فأوحى الله تعالى إلى ملائكته : انظروا إلى صفيي وبن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري وعزتي وجلالي لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري الثانية هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة وإن لم يبطل يدل على العقوبة عليها والنقص فيها وقد روى البخاري عن عائشة قالت : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الالتفات في الصلاة فقال : ) هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) وسيأتي ما للعلماء في هذا في أول سورة المؤمنون موعبا إن شاء الله تعالى الثالثة قال النحاس : فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى نبينا فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة : منها أن يعقوب ( صلى الله عليه وسلم ) لما علم أن يوسف ( صلى الله عليه وسلم ) حي خاف على دينه فاشتد حزنه لذلك وقيل : إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا فندم على ذلك والجواب الثالث وهو أبينها هو أن
(9/248)
" صفحة رقم 249 "
الحزن ليس بمحظور وإنما المحظور الولولة وشق الثياب والكلام بما لا ينبغي وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ) وقد بين الله جل وعز ذلك بقوله : ) فهو كظيم ( أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه قال الله تعالى : إذ نادى وهو مكظوم القلم أي مملوء كربا ويجوز أن يكون المكظوم بمعنى الكاظم وهو المشتمل على حزنه وعن بن عباس : كظيم مغموم قال الشاعر : فإن أك كاظما لمصاب شاس فإني اليوم منطلق لساني وقال بن جريج عن مجاهد عن بن عباس قال : ذهبت عيناه من الحزن فهو كظيم قال : فهو مكروب وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن بن عباس في قوله : فهو كظيم قال : فهو كمد يقول : يعلم أن يوسف حي وأنه لا يدري أين هو فهو كمد من ذلك قال الجوهري : الكمد الحزن المكتوم تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد النحاس يقال فلان كظيم وكاظم أي حزين لا يشكو حزنه قال الشاعر : فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من خوف المنايا كظم
يوسف : ) 85 ( قالوا تالله تفتأ . . . . .
) يوسف 85 : 86 (
قوله تعالى : ) قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ( أي قال له ولده : تالله تفتأ تذكر يوسف قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت وزعم الفراء أن لا مضمرة أي لا تفتأ وأنشد : فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
(9/249)
" صفحة رقم 250 "
أي لا أبرح قال النحاس : والذي قال حسن صحيح وزعم الخليل وسيبويه أن لا تضمر في القسم لأنه ليس فيه إشكال ولو كان واجبا لكان باللام والنون وإنما قالوا له ذلك لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك يقال : ما زال يفعل كذا وما فتىء وفتأ فهما لغتان ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر : فما فتئت حتى كأن غبارها سرداق يوم ذي رياح ترفع أي ما برحت فتفتأ تبرح وقال بن عباس : تزال ) حتى تكون حرضا ( أي تالفا وقال بن عباس ومجاهد : دنفا من المرض وهو ما دون الموت قال الشاعر : سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا كذاك الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا وقال قتادة : هرما الضحاك : باليا داثرا محمد بن إسحاق : فاسدا لا عقل لك الفراء : الحارض الفاسد الجسم والعقل وكذا الحرض بن زيد : الحرض الذي قد رد إلى أرذل العمر الربيع بن أنس : يابس الجلد على العظم المؤرج : ذائبا من الهم وقال الأخفش : ذاهبا بن الأنباري : هالكا وكلها متقاربة وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم عن أبي عبيدة وغيره وقال العرجي : إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم قال النحاس : يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضه إذا بلي وسقم ورجل حارض وحرض إلا أن حرضا لا يثنى ولا يجمع ومثله فمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان الثعلبي : ومن العرب من يقول حارض للمذكر والمؤنثة حارضة فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث ويقال : حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض ويقال : رجل محرض وينشد : طلبته الخيل يوما كاملا ولو الفته لأضحى محرضا
(9/250)
" صفحة رقم 251 "
وقال امرؤ القيس : أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض قال النحاس : وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه ورجل حارض أي أحمق وقرأ أنس : حرضا بضم الحاء وسكون الراء أي مثل عود الأشنان وقرأ الحسن بضم الحاء والراء قال الجوهري : الحرض والحرض الأشنان ) أو تكون من الهالكين ( أي الميتين وهو قول الجميع وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا السبب في ذلك قوله تعالى : ) قال إنما أشكو بثي ( حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها وهو من بثثته أي فرقته فسميت المصيبة بثا مجازا قال ذو الرمة : وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه وقال بن عباس : بثي همي الحسن : حاجتي وقيل : أشد الحزنوحقيقته ماذكرناه ) وحزني إلى الله ( معطوف عليه أعاده بغير لفظه ) وأعلم من الله مالا تعلمون ( أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سأسجد له قاله بن عباس قتادة : إني أعلم من إحسان الله تعالى إلي ما يوجب حسن ظني به وقيل : قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف قال : لا فأكد هذا رجاءه وقال السدي : أعلم أن يوسف حي وذلك أنه لما أخبره ولده بسيرة الملك وعدله وخلقه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع وقال : لعله يوسف وقال : لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ وقيل : أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون
يوسف : ) 87 ( يا بني اذهبوا . . . . .
) يوسف 87 (
(9/251)
" صفحة رقم 252 "
قوله تعالى : ) يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ( هذا يدل على أنه تيقن حياته إما بالرؤيا وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه وهو أظهر والتحسس طلب الشيء بالحواس فهو تفعل من الحس أي اذهبوا إلى هذا الذي طلب منكم أخاكم واحتال عليكم في أخذه فاسألوا عنه وعن مذهبه ويروى أن ملك الموت قال له : اطلبه من ها هنا وأشار إلى ناحية مصر وقيل : إن يعقوب تنبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة فلذلك وجههم إلى جهة مصر دون غيرها ) ولا تيئسوا من روح الله ( أي لا تقنطوا من فرج الله قاله بن زيد يريد : أن المؤمن يرجو فرج الله والكافر يقنط في الشدة وقال قتادة والضحاك : من رحمة الله ) إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ( دليل على أن القنوط من الكبائر وهو اليأس وسيأتي في الزمر بيانه إن شاء الله تعالى
يوسف : ) 88 ( فلما دخلوا عليه . . . . .
) يوسف 88 (
قوله تعالى : ) فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز ( أي الممتنع ) مسنا وأهلنا الضر ( هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر وفي الكلام حذف أي فخرجوا إلى مصر فلما دخلوا على يوسف قالوا : مسنا أي أصابنا وأهلنا الضر أي الجوع والحاجة وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر أي الجوع بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه ولا يكون ذلك قدحا في التوكل وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط والصبر والتجلد في النوائب أحسن والتعفف عن المسألة أفضل وأحسن الكلام
(9/252)
" صفحة رقم 253 "
في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى وذلك قول يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون أي من جميل صنعه وغريب لطفه وعائدته على عباده فأما الشكوى على غير مشك فهو السفه إلا أن يكون على وجه البث والتسلي كما قال بن دريد : لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرقني عرق المدى مارست من لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا لكنها نفثة مصدور إذا جاش لغام من نواحيها غما قوله تعالى : ) وجئنا ببضاعة ( البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء تقول : أبضعت الشيء واستبضعته أي جعلته بضاعة وفي المثل : كمستبضع التمر إلى هجر قوله تعالى : ) مزجاة ( صفة لبضاعة والإزجاء السوق بدفع ومنه قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا النور والمعنى أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها كل أحد قال ثعلب : البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة اختلف في تعيينها هنا فقيل : كانت قديدا وحيسا ذكره الواقدي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه وقيل : خلق الغرائر والحبال روي عن بن عباس وقيل : متاع الأعراب صوف وسمن قاله عبد الله بن الحارث وقيل : الحبة الخضراء والصنوبر وهو البطم حب شجر بالشام يؤكل ويعصر الزيت منه لعمل الصابون قاله أبو صالح فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام وتنفق فيما بين الناس فقالوا : خذها منا بحساب جياد تنفق في الطعام وقيل : دراهم رديئة قاله بن عباس أيضا وقيل : ليس عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر عليها صورة يوسف وقال الضحاك : النعال والأدم وعنه : كانت سويقا منخلا والله أعلم
(9/253)