المجلد الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السلام
سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاث آيات من قوله تعالى : {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس : 94] إلى آخرهن. وقال مقاتل : إلا آيتين وهي قوله : {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} نزلت بالمدينة. وقال الكلبي : مكية إلا قوله : {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس : 40] نزلت بالمدينة في اليهود. وقالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.
الآية : 1 {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}
قوله تعالى : {الر} قال النحاس : قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسن بن حريث قال : أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس : الر ، وحم ، ونون حروف الرحمن مفرقة ؛ فحدثت به الأعمش فقال : عندك أشباه هذا ولا تخبرني به ؟ . وعن ابن عباس أيضا قال : {الر} أنا الله أرى. قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ؛ لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد :
بالخير خيرات وإن شرافا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
وقال الحسن وعكرمة : {الر} قسم. وقال سعيد عن قتادة : {الر} اسم السورة ؛ قال : وكذلك كل هجاء في القرآن. وقال مجاهد : هي فواتح السور. وقال محمد بن يزيد : هي تنبيه ، وكذا حروف التهجي. وقرئ {الر} من غير إمالة. وقرئ بالإمالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف.
(8/304)
قوله تعالى : {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ابتداء وخبر ؛ أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. قال مجاهد وقتادة : أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة ؛ فإن {تِلْكَ} إشارة إلى غائب مؤنث. وقيل : {تِلْكَ} بمعنى هذه ؛ أي هذه آيات الكتاب الحكيم. ومنه قول الأعشى :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي. والمراد القرآن وهو أولى بالصواب ؛ لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر ، ولأن {الْحَكِيمِ} من نعت القرآن. دليله قوله تعالى : {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود : 1] وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة "البقرة". والحكيم : المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام ؛ قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل : الحكيم بمعنى الحاكم ؛ أي إنه حاكم بالحلال والحرام ، وحاكم بين الناس بالحق ؛ فعيل بمعنى فاعل. دليله قوله : {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة : 213]. وقيل : الحكيم بمعنى المحكوم فيه ؛ أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر ، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه ؛ فهو فعيل بمعنى المفعول ؛ قاله الحسن وغيره. وقال مقاتل : الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف ؛ فعيل بمعنى مفعل ، كقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
الآية : 2 {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}
(8/305)
قوله تعالى : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} استفهام معناه التقرير والتوبيخ. و {عَجَباً} خبر كان ، واسمها {أَنْ أَوْحَيْنَا} وهو في موضع رفع ؛ أي كان إيحاؤنا عجبا للناس. وفي قراءة عبدالله "عجب" على أنه اسم كان. والخبر {أَنْ أَوْحَيْنَا}. {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} قرئ {رَجْل} بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد : إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وقالوا : ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب ؛ فنزلت : {أَكَانَ لِلنَّاسِ} يعني أهل مكة {أَكَانَ لِلنَّاسِ} . وقيل : إنما تعجبوا من ذكر البعث.
قوله تعالى : {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب بإسقاط الخافض ؛ أي بأن أنذر الناس ، وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية. {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} اختلف في معنى {قَدَمَ صِدْقٍ} فقال ابن عباس : قدم صدق منزل صدق ؛ دليله قوله تعالى : {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء : 80]. وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضا {قَدَمَ صِدْقٍ} سبق السعادة في الذكر الأول ، وقاله مجاهد. الزجاج : درجة عالية. قال ذو الرمة :
لكم قدر لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العالي طمت على البحر
قتادة : سلف صدق. الربيع : ثواب صدق. عطاء : مقام صدق. يمان : إيمان صدق. وقيل : دعوة الملائكة. وقيل : ولد صالح قدموه. الماوردي : أن يوافق صدق الطاعة الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضا : هو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه شفيع مطاع يتقدمهم ؛ كما قال : "أنا فرطكم على الحوض" . وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال : "هي شافعتي توسلون بي إلى ربكم" . وقال الترمذي الحكيم : قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضا : مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم. وقال
(8/306)
عبدالعزيز بن يحيى : {قَدَمَ صِدْقٍ} قوله تعالى : {نَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء : 101] وقال مقاتل : أعمالا قدموها ؛ واختاره الطبري. قال الوضاح :
صل لذي العرش واتخذ قدما ... تنجيك يوم العثار والزلل
وقيل : هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المفضي لهم قبل الخلائق" . وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح ؛ فكني عنه بالقدم كما يكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسان :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع
يريد السابقة بإخلاص الطاعة ، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم ؛ يقال : لفلان قدم في الإسلام ، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر ؛ يقال : قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الأعرابي : القدم التقدم في الشرف ؛ قال العجاج :
زل بنو العوام عن آل الحكم ... وتركوا الملك لملك ذي قدم
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب" يريد آخر الأنبياء ؛ كما قال تعالى : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب : 40].
قوله تعالى : {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش {لساحِر} نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون {لَسِحْرٌ} نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في "البقرة".
الآية : 3 {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
(8/307)
قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في الأعراف. {يُدَبِّرُ الْأَمْر} قال مجاهد : يقضيه ويقدره وحده. ابن عباس : لا يشركه في تدبير خلقه أحد. وقيل : يبعث بالأمر. وقيل : ينزل به. وقيل : يأمر به ويمضيه ؛ والمعنى متقارب. فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وإسرافيل للصور ، وعزرائيل للقبض. وحقيقته تنزيل الأمور في عواقبها ، واشتقاقه من الدبر. والأمر اسم لجنس الأمور. {مَا مِنْ شَفِيعٍ} في موضع رفع ، والمعنى ما شفيع {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وقد تقدم في "البقرة" معنى الشفاعة. فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه ، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله : {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس : 18] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه ، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل.
قوله تعالى : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره. {فَاعْبُدُوهُ} أي وحدوه وأخلصوا له العبادة. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه.
الآية : 4 {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}
قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} رفع بالابتداء. {جَمِيعاً}نصب على الحال. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى أجزائه. {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} مصدران ؛ أي وعد الله ذلك وعدا وحققه {حَقّاً} صدقا لا خلف فيه. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة {وَعْدَ الله حَقًّا} على الاستئناف.
(8/308)
قوله تعالى : {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} أي من التراب. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} إليه. مجاهد : ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث ؛ أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال. وقرأ يزيد ابن القعقاع {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} تكون {أن} في موضع نصب ؛ أي وعدكم أنه يبدأ الخلق. ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق ؛ كما يقال : لبيك إن الحمد والنعمة لك ؛ والكسر أجود. وأجاز الفراء أن تكون {أن} في موضع رفع فتكون اسما. قال أحمد بن يحيى : يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق.
قوله تعالى : {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي ماء حار قد انتهى حره ، والحميمة مثله. يقال : حممت الماء احمه فهو حميم ، أي محموم ؛ فعيل بمعنى مفعول. وكل مسخن عند العرب فهو حميم. {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع ، يخلص وجعه إلى قلوبهم. {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي بكفرهم ، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم ؛ فاحتج عليهم بهذا فقال : من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء.
الآية : 5 {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} مفعولان ، أي مضيئة ، ولم يؤنث لأنه مصدر ؛ أو ذات ضياء {وَالْقَمَرَ نُوراً} عطف ، أي منيرا ، أو ذا نور ، فالضياء ما يضيء الأشياء ، والنور ما يبين فيخفى ، لأنه من النار من أصل واحد. والضياء جمع ضوء ؛ كالسياط والحياض جمع سوط وحوض. وقرأ قنبل عن ابن كثير {ضئَاءً} بهمز الياء ولا وجه له ، لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل ، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام. قال المهدوي : ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب ، قدمت
(8/309)
الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف ضئايا ، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة. وكذلك إن قردت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال. ويقال : إن الشمس والقمر تضيء وجوهها لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع.
قوله تعالى : {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي ذا منازل ، أو قدر له منازل. ثم قيل : المعنى وقدرهما ، فوحد إيجازا واختصارا ؛ كما قال : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} . وكما قال :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقيل : إن الإخبار عن القمر وحده ؛ إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها ، كما تقدم في "البقرة". وفي سورة يس : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس : 39] أي على عدد الشهر ، وهو ثمانية وعشرون منزلا. ويومان للنقصان والمحاق ، وهناك يأتي بيانه.
قوله تعالى : {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قال ابن عباس : لو جعل شمسين ، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل ، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور. وواحد {السِّنِينَ} سنة ، ومن العرب من يقول : سنوات في الجمع ومنهم من يقول : سنهات. والتصغير سنية وسنيهة.
قوله تعالى : {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} أي ما أراد الله عز وجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب ، وإظهارا لصنعته وحكمته ، ودلالة على قدرته وعلمه ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ؛ فهذا هو الحق. {يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى ، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب ؛
(8/310)
فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب {يفصل} بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لقوله من قبله : {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} وبعده {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيكون متبعا له. وقرأ ابن السميقع {تفصل} بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول ، "والآيات" رفعا. الباقون {نفصل} بالنون على التعظيم.
الآية : 6 {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}
تقدم في "البقرة" وغيرها معناه ، والحمد لله. وقد قيل : إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها ؛ قاله ابن عباس. {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي الشرك ؛ فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية.
الآيتان : 7 - 8 {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} {يَرْجُونَ} يخافون ؛ ومنه قول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل
وقيل يرجون يطمعون ؛ ومنه قول الآخر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
(8/311)
فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع ؛ أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما. وقيل : يجري اللقاء على ظاهره ، وهو الرؤية ؛ أي لا يطمعون في رؤيتنا. وقال بعض العلماء : لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد ؛ كقوله تعالى : {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح : 13]. وقال بعضهم : بل يقع بمعناه في كل موضع دل عليه المعنى.
قوله تعالى : {ورضوا بالحياة الدنيا} أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها. {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} أي فرحوا بها وسكنوا إليها ، وأصل اطمأن طأمن طمأنينة ، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل ، ذكره الغزنوي. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا} أي عن أدلتنا {غَافِلُونَ} لا يعتبرون ولا يتفكرون. {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ} أي مثواهم ومقامهم. {النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي من الكفر والتكذيب.
الآية : 9 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يزيدهم هداية ؛ كقوله : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد : 17]. وقيل : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} إلى مكان تجري من تحتهم الأنهار. وقال أبو روق : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة. وقال عطية : {يَهْدِيهِمْ} يثيبهم ويجزيهم. وقال مجاهد : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} بالنور على الصراط إلى ا الجنة ، يجعل لهم نورا يمشون به. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال : "يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله". هذا معنى الحديث. وقال ابن جريج : يجعل عملهم هاديا لهم. الحسن : {يَهْدِيهِمْ} يرحمهم.
قوله تعالى : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} قيل : في الكلام واو محذوفة ، أي وتجري من نحتهم ، أي من نحت بساتينهم. وقيل : من تحت أسرتهم ؛ وهذا أحسن في النزهة والفرجة.
(8/312)
الآية : 10 {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} دعواهم : أي دعاؤهم ؛ والدعوى مصدر دعا يدعو ، كالشكوى مصدر شكا يشكو ؛ أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل : إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد. وقيل : نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاؤوا ثم سبحوا. وقيل : إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31] أي ما تتمنون. والله أعلم. {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض : سلام. وقد مضى في "النساء" معنى التحية مستوفى. والحمد لله.
قوله تعالى : {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قيل : إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا : سبحانك اللهم ؛ فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد. ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف {أن} ورفع ما بعدها ؛ قال : وإنما نراهم مم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل : {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} و {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله. قال النحاس : مذهب الخليل وسيبويه أن {أن} هذه مخففة من الثقيلة. والمعنى أنه الحمد لله. قال محمد بن يزيد : ويجوز {أن الحمدَ لله} يعملها خفيفة عملها ثقيلة ؛ والرفع أقيس. قال النحاس : وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ {وآخر دعواهم أَنّ الحَمد لله رب العالمين}.
قلت : وهى قراءة ابن محيصن ، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه.
(8/313)
الثانية : التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء ؛ روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : "لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" . قال الطبري : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب. وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال : أما علمت أن الله تعالى يقول (إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعوة ذي النون إذا دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له" .
الثالثة : من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة ؛ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" .
الرابعة : يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ؛ وحسن أن يقرأ آخر "والصافات" فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه ، والتسليم على المرسلين ، والختم بالحمد لله رب العالمين.
الآية : 11 {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
(8/314)
قوله تعالى : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} قيل : معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا ، لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا ، وليس هم كذا يوم القيامة ؛ لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. وقيل : المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ؛ وهو معنى {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} . وقيل : إنه خاص بالكافر ؛ أي ولو يجعل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة ؛ قال ابن إسحاق. مقاتل : هو قول النضر بن الحارث : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ؛ فلو عجل لهم هذا لهلكوا. وقال مجاهد : نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب : اللهم أهلكه ، اللهم لا تبارك له فيه وألعنه ، أو نحو هذا ؛ فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم. فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر ؛ فلو عجل لهم لهلكوا.
الثانية : واختلف في إجابة هذا الدعاء ؛ فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه" . وقال شهر بن حوشب : قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملائكة الموكلين بالعبد : لا تكتبوا على عبدي في حال ضجره شيئا ؛ لطفا من الله تعالى عليه. قال بعضهم : وقد يستجاب ذلك الدعاء ، واحتج بحديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه آخر الكتاب ، قال جابر : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني
(8/315)
وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة ، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركب ، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن ؛ فقال له : شأ ؛ لعنك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من هذا اللاعن بعيره" ؟ قال : أنا يا رسول الله ؛ قال : "انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" .
في غير كتاب مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال : "أين الذي لعن ناقته" ؟ فقال الرجل : أنا هذا يا رسول الله ؛ فقال : "أخرها عنك فقد أجبت فيها" ذكره الحليمي في منهاج الدين. "شأ" يروى بالسين والشين ، وهو زجر للبعير بمعنى سر.
الثالثة : قوله تعالى : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} قال العلماء : التعجيل من الله ، والاستعجال من العبد. وقال أبو علي : هما من الله ؛ وفي الكلام حذف ؛ أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه ، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه ؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه. وعلى قول الأخفش والفراء كاستعجالهم ، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء : كما تقول ضربت زيدا ضربك ، أي كضربك. وقرأ ابن عامر {لَقَضَى إليهم أجلهم}. وهي قراءة حسنة ؛ لأنه متصل بقوله : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} .
قوله تعالى : {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب ، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي يتحيرون. والطغيان : العلو والارتفاع ؛ وقد تقدم في "البقرة". وقد قيل : إن المراد بهذه الآية أهل مكة ، وإنها نزلت حين قالوا : {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال : 32] الآية ، على ما تقدم والله أعلم.
(8/316)
الآية : 12 { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} قيل : المراد بالإنسان هنا الكافر ، قيل : هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك ، تصيبه البأساء والشدة والجهد. {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} أي على جنبه مضطجعا. {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} وإنما أراد جميع حالاته ؛ لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة. قال بعضهم : إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر ، فهو يدعو أكثر ، واجتهاده أشد ، ثم القاعد ثم القائم. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ.
قلت : وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين ، إذا أصابته. العافية مر على ما كان عليه من المعاصي ؛ فالآية تعم الكافر وغيره. {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا} قال الأخفش : هي "كأن" الثقيلة خففت ، والمعنى كأنه وأنشد :
وي كأنْ من يكن له نشب يُحْـ ... ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
{كَذَلِكَ زُيِّنَ} أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء. {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي. وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله ، ويجوز أن يكون من الشيطان ، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر.
الآية : 13 {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم. {لَمَّا ظَلَمُوا} أي كفروا وأشركوا. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}
(8/317)
أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات. {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي أهلكناهم لعلمنا أنهم لا يؤمنون. يخوف كفار مكة عذاب الأمم الماضية ؛ أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان. وقيل : معنى {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي جازاهم على كفرهم بأن طبع على قلوبهم ؛ ويدل على هذا أنه قال : {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}.
الآية : 14 {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ} مفعولان. والخلائف جمع خليفة ، وقد تقدم آخر "الأنعام" أي جعلناكم سكانا في الأرض. {مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد القرون المهلكة. {لِنَنْظُرَ} نصب بلام كي ، وقد تقدم نظائره وأمثاله ؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب ، ولم يزل يعلمه غيبا. وقيل : يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل. وقيل : النظر راجع إلى الرسل ؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم. و"كيف" نصب بقوله : تعملون : لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله.
الآية : 15 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
(8/318)
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} {تُتْلَى} تقرأ ، و {بَيِّنَاتٍ} نصب على الحال ؛ أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال. {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب. قال قتادة : يعني مشركي أهل مكة. {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه ؛ وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا ، والحلال حراما والحرام حلالا ؛ قاله ابن جرير الطبري.
الثاني : سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ؛ قاله ابن عيسى.
الثالث : أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور ؛ قاله الزجاج.
الثانية : قوله تعالى : {قُلْ مَا يَكُونُ لِي} أي قل يا محمد ما كان لي {أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ومن عندي ، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد ، وتحريم وتحليل ، وأمر ونهي. وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة ؛ لأنه تعالى قال : {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وهذا فيه بعد ؛ فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما ، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك ، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ ؛ ولأن الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه ، بل كان من عند الله تعالى.
الثالثة : قوله تعالى : {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة.
(8/319)