________________________________________
الثامنة : قوله تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا} يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي.
الآية : 58 {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} حذفت الألف من "قلنا" لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل
الثانية : قوله تعالى : {هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى "بكسر القاف" مقصور وكذلك ما قري به الضيف قال الجوهري : والمقراة للحوض والقري لمسيل الماء والقرا للظهر ومنه قوله :
لاحق بطن بقرا سمين
والمقاري : الجفان الكبار. قال :
عظام المقاري ضيفهم لا يفزع
وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز والقرية "بكسر القاف" لغة اليمن واختلف في تعيينها فقال الجمهور : هي بيت المقدس وقيل : أريحاء من بيت المقدس قال عمر بن شبة كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كيسان الشام : الضحاك : الرملة والأردن وفلسطين وتدمر. وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
(1/409)
________________________________________
الثالثة : قوله تعالى : {فَكُلُوا} إباحة {رَغَداً} كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال "رغدا"
الرابعة : قوله تعالى : {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} الباب يجمع أبوابا وقد قالوا : أبوبة للازدواج قال الشاعر :
هتاك أخيية ولاج أبوبة ... يخلط بالبر منه الجد واللينا
ولو أفرده لم يجز. ومثله قول عليه السلام : "مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا ندامى" وتبوبت بوابا اتخذته. وأبواب مبوبة كما قالوا : أصناف مصنفة. وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك. وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته والحمد لله.
والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ "باب حطه" عن مجاهد وغيره وقيل : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و"سجدا" قال ابن عباس : منحنين ركوعا وقيل : متواضعين خشوعا لا على هية متعينة.
الخامسة : قوله تعالى : {وَقُولُوا} عطف على أدخلوا {حِطَّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الأخفش : وقرئت "حطة" بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. قال النحاس : الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة - تفسير للنصب ، أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال : قل خيرا والأئمة من القراء على الرفع. وهو أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى : يقال بدلته ، أي غيرته ولم أزل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال :
عزل الأمير للأمير المبدل
(1/410)
________________________________________
وقال الله عز وجل : {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس : 15] وحديث ابن مسعود قالوا "حطة" تفسير على الرفع هذا كله قول النحاس وقال الحسن وعكرمة : "حطه" بمعنى حط ذنوبنا ، أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم. وقال ابن جبير : معناه الاستغفار أبان بن تغلب : التوبة قال الشاعر :
فاز بالحطة التي جعل اللـ ... ـه بها ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المجمل : "حطة" كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم وقاله الجوهري أيضا في الصحاح.
قلت : يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث روى مسلم عن أبي هريرة : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة" وأخرجه البخاري وقال : "فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة" في غير الصحيحين : "حنطة في شعر" وقيل : قالوا هطا سمهانا وهي لفظة عبرانية تفسيرها : حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزؤوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب وقال ابن زيد : كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا. وروي أن الباب جعل فصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم والله أعلم.
السادسة- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.
(1/411)
________________________________________
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة وقال مجاهد : انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التاء والياء ونحو هذا وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه. وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم. وروى نحوه عن عبدالله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ.وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه. والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها. وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى. وقال قتادة عن زرارة بن أوفى : لقيت عده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن : إذا أصبت المعنى أجزأك. وقال سفيان الثوري رحمه الله : إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى. وقال وكيع رحمه الله : إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء
(1/412)
________________________________________
والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب.
فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها" وذكر الحديث. وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه : "آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت" فقال الرجل : ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ونبيك الذي أرسلت" قالوا : أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال : "فأداها كما سمعها" قيل لهم : أما قوله "فأداها كما سمعها" فالمراد حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتد به. ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله : " فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل على الجواز وأما رده عليه السلام الرجل من قوله : "ورسولك - إلى قوله - ونبيك" لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي صلى الله عليه وسلم يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال : "ونبيك" جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله : "الذي أرسلت" وأيضا فإن نقله من قوله : "ورسولك - إلى قوله - ونبيك" ليجمع بين النبوة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول : هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك : رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول. وإنما يحسن أن تقول : هذا رسول عبدالله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أوفي وقعة كذا والله ولي التوفيق.
(1/413)
________________________________________
فإن قيل : إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له : الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز. قال ابن العربي : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق والله أعلم.
قال بعض علمائنا : لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم ، لو قال : المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله اعلم.
السابعة : قوله تعالى : {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قراءة نافع بالياء مع ضمها وابن عامر بالتاء مع ضمها وهي قراءة مجاهد وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لأن قبلها "وإذ قلنا ادخلوا" فجرى "نغفر" على الأخبار عن الله تعالى ، والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده "وسنزيد" بالنون. و"خطاياكم" اتباعا للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أثبت لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله : {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة : 37] وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله "وإذ قلنا" لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة.
الثامنة : واختلف في أصل خطايا جمع خطية بالهمزة فقال الخليل : الأصل في خطايا أن يقول : خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول :
(1/414)
________________________________________
خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة ، فأبدلت من الثانية ياء فقلت : خطائى ثم عملت كما عملت في الأول. وقال الفراء : خطايا جمع خطية بلا همزة كما تقول : هدية وهدايا. قال الفراء : ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءا وقال الكسائي : لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت : دواب.
التاسعة : قوله تعالى : {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال : يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال : يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم. وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. وفي حديث جبريل عليه السلام : "ما الإحسان قال أن تعبدالله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت..." وذكر الحديث. خرجه مسلم.
الآية : 59 {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً} "الذين" في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم : قولوا حطة فقالوا حنطة ، على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل.
الثانية : {فَبَدَّلَ} تقدم معنى بدل وأبدل وقرئ {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا} على الوجهين قال الجوهري : وأبدلت الشيء بغيره. وبدله الله من الخوف
(1/415)
________________________________________
أمنا. وتبديل الشيء أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل. واستبدل الشيء بغيره ، وتبدل به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والأبدال : قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دريد الواحد بديل والبديل البدل. وبدل الشيء : غيره يقال : بدل وبدل لغتان مصل : شبَه وشِبْه ومثَلَ ومِثْل ونكَلَ ونِكْل قال أبو عبيد : لم يسمع في فعَلَ وفِعْل غير هذه الأربعة اليدين والرجلين. وقد بدل "بالكسر" يبدل بدلا.
الثالثة : قوله تعالى : {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} كرر لفظ "ظلموا" ولم يضمره تعظيما للأمر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله : {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة : 79] ثم قال بعد : {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبْت أَيْدِيهِمْ} ولم يقل : مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء :
تعرقني الدهر نهسا وحزا ... وأوجعني الدهر قرعا وغمزا
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغيرياتها والضرب الثاني : مجي تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة : 1 - 2] و {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة : 1 - 2] كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم : الحاقة ما هي ، والقارعة ما هي ، ومثله : {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} كرر "أصحاب الميمنة" تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ "أصحاب المشأمة" لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر :
ليت الغراب غداة ينعب دائبا ... كان الغراب مقطع الأوداج
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال :
(1/416)
________________________________________
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الأول ومنه قول الآخر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها
قوله تعالى : {رِجْزاً} قراءة الجماعة "رجزا" بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء والرجز : العذاب "بالزاي" و"بالسين" النتن والقذر ومنه قوله تعالى {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة : 125] أي نتنا إلى نتنهم قاله الكسائي وقال الفراء الرجز هو الرجس. قال أبو عبيد : كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى. قال الفراء : وذكر بعضهم أن الرجز "بالضم" اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قوله تعالى : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والرجز "بفتح الراء والجيم" نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها.
قوله تعالى : {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بفسقهم والفسق الخروج وقد تقدم. وقرأ ابن وثاب والنخعي "يفسقون" بكسر السين..
الآية 60 {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} كسرت الذال لالتقاء الساكنين والسين سين السؤال مثل استعلم واستخبر واستنصر ونحو ذلك أي طلب وسأل السقيَ لقومه. والعرب تقول : سقيته وأسقيته لغتان بمعنى ، قال :
(1/417)
________________________________________
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
وقيل : سقيته من سقي الشفة وأسقيته دللته على الماء.
الثانية : الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى لكن قد قال صلى في حديث ابن عمر : "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا" الحديث. وسيأتي بكماله إن شاء الله.
الثالثة : سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى - على الصفة التي ذكرنا - والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج وإنما هو دعاء لا غير. واحتج بحديث أنس الصحيح أخرجه البخاري ومسلم. ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفي به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنة ولما قصد البيان بين بفعله حسب ما رواه عبدالله بن يزيد المازني قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين رواه مسلم. وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة "هود" إن شاء الله.
الرابعة : قوله تعالى : {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} العصا : معروف وهو اسم مقصور مؤنث وألفه منقلبة عن واو ، قال :
على عصويها سابري مشبرق
(1/418)
________________________________________
والجمع عُصِيّ وعِصِيّ وهو فعول وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعص أيضا مثله مثل زمن وأزمن وفي المثل : "العصا من العصية" أي بعض الأمر من بعض وقولهم "ألقى عصاه" أي أقام وترك الأسفار وهو مَثَل. قال :
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
وفي التنزيل : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه : 17 - 18] وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى. قال الفراء : أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق ، ومنه يقال في الخوارج : قد شقوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم. وانشقت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند
أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقولهم : لا ترفع عصاك عن أهلك براد به الأدب والله أعلم. والحجر معروف وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار ، وفي الكثير حجار وحجارة ، والحجارة نادر. وهو كقولنا : جمل وجمالة ، وذكر وذكارة ، كذا قال ابن فارس والجوهري.
قلت : وفي القرآن {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة : 74] {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة : 74] {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء : 50] {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ} [الفيل : 4] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر : 74] فكيف يكون نادرا ، إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح. والله أعلم.
قوله تعالى : {فَانْفَجَرَتْ} في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن بربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. والانفجار : الانشقاق ومنه انشق الفجر. وانفجر الماء انفجارا : انفتح. والفجرة : موضع تفجر الماء. والانبجاس أضيق من الانفجار ، لأنه يكون انبجاسا ثم يصير انفجارا. وقيل : انبجس وتبجس وتفجر وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره.
(1/419)
________________________________________
الخامسة- قوله تعالى : {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} "اثنتا" في موضع رفع بـ "انفجرت" وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبدا لصحة معناها. "عينا" نصب على البيان. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى "عشرة" بكسر الشين وهي لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر ، لأن سبيلهم التخفيف. ولغة أهل الحجاز "عشْرة" وسبيلهم التثقيل. قال جميعه النحاس. والعين من الأسماء المشتركة يقال : عن الماء وعين الإنسان وعين الركبة وعين الشمس. والعَيْن : سحابة تقبل من ناحية القبلة والعين : مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع. وبلد قليل العَيْن : أي قليل الناس. وما بها عين ، محركة الياء والعين : الثقب في المزادة والعَين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان. وقيل : لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبهت به عين الماء لأنها أشرف ما في الأرض
السادسة : لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قيل مربعا طوريا "من الطور" على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحله في منزلته من المرحلة الأولى وهذا أعظم في الآية والإعجاز. وقيل : إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الإعجاز. وقيل : إن الله تعالى أمره أن يضرب حجرا بعينه بينه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ التعريف. قال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه. قال ابن عطية : ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون.
(1/420)
________________________________________
قلت : ما أوتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم. روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات عن عبدالله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتور ؟ ؟ فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول : "حي على الطهور" قال الأعمش : فحدثني سالم بن أبي الجعد قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي.
السابعة : قوله تعالى : {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها. والمشرب : موضع الشرب وقيل : المشروب. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها. قال عطاء : كان للحجر أربعة أوجه يخرج من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم. وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم. قال عطاء : كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولا ثم يسيل.
الثامنة : قوله تعالى : {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل.. {وَلاَ تَعْثَوا } أي لا تفسدوا والعيث : شدة الفساد ، نهاهم عن ذلك. يقال : عث يعث عثيا وعثا يعثو عثوا ، وعاث يعيث عيثا وعيوثا ومعاثا والأول لغة القرآن. ويقال : عث يعث في المضاعف أفسد ومنه العثة ، وهي السوسة التي تلحس الصوف. و {مُفْسِدِينَ} حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ. وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها والتقدم في المعاصي والنهي عنها.
(1/421)
________________________________________
الآية : 61 {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ} كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر قال الحسن : كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا طعام واحد وقيل لتكرارهما : في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة : هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل : المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم.
قوله تعالى : {عَلَى طَعَامٍ} الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} وقال : {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة : 93] أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه. وإن كان السلوى العسل - كما حكى المؤرج - فهو مشروب أيضا. وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من
(1/422)
________________________________________
شعير الحديث. والعرف جار بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام فليس يفهم منه إلا موضع به دون غيره مما يؤكل أو يشرب والطعم "بالفتح" : هو ما يؤديه الذوق يقال : طعمه مر. والطعم أيضا : ما يشتهى منه يقال : ليس له طعم. وما فلان بذي طعم : إذا كان غثا. والطعم "بالضم" : الطعام قال أبو خراش :
أرد شجاع البطن لو تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم
وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى. منه وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة : 249] أي من لم يذقه. وقال : {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب : 53] أي أكلتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم : "إنها طعام طعم وشفاء سقم" واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه. وفي الحديث : "إذا استطعمكم الإمام فأطعموه" يقول : إذا استفتح فافتحوا عليه وفلان ما يطعم النوم إلا قائما. وقال الشاعر :
نعاما بوجرة صفر الخدو ... د ما تطعم النوم إلا صياما
قوله تعالى : {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} لغة بني عامر "فادع" بكسر العين لالتقاء الساكنين ، يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف. و"يخرج" مجزوم على معنى سلْه وقل له : أخرج ، يخرج. وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف
(1/423)
________________________________________
اللام وضعفه الزجاج. و"من" في قول "مما" زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه لأن الكلام موجب. قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا لـ "يخرج" فأراد أن يجعل "ما" مفعولا. والأوْلى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام ، التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا. فـ "من" الأولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص.
قوله تعالى : {مِنْ بَقْلِهَا} بدل من "ما" بإعادة الحرف ، والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق. والشجر : ما له ساق. و {وَقِثَّائِهَا} عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف لغتان والكسر. أكثر وقيل في جمع قثاء : قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول : اقثأئت القوم أي أطعمتهم ذلك.
وقثأت القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي :
تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
وقثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه. وعدا حتى أفثأ أي أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم : إن الرثيئة تفثأ في الغضب. وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جامعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم. الرثيئة : اللبن المحلوب على الحامض ليخثر. رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر.
وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيح.
(1/424)
________________________________________
قوله تعالى : {وَفُومِهَا} اختلف في الفوم فقيل هو الثوم لأنه المشاكل للبصل. رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا : مغافير ومغاثير. وجدث وجدف للقبر. وقرأ ابن مسعود "ثومها" بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس. وقال أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل
الفراديس : واحدها فرديس. وكرم مفردس أي معرش. وقال حسان :
وأنتم أناس لئام الأصول ... طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل. وقيل : الفوم الحنطة. روي عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال : وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب. وأنشد عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم
وقل أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء!. وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة. وأنشد الأخفش :
قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... نزل المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن دريد : الفومة السنبلة وأنشد :
وقال ربيئهم لما أتانا ... بكفه فومة أو فومتان
(1/425)
________________________________________
والهاء في "كفه" غير مشبعة. وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية. وبائعه فامي مغير عن فومي لأنهم قد يغيرون في النسب ، كما قالوا : سهلي ودهري. ويقال : فوموا لنا أي اختبزوا. قال الفراء : هي لغة قديمة. وقال عطاء وقتادة : الفوم كل حب يختبز.
مسألة : اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول. جمهور العلماء إلى إباحة ذلك ، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر - القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا - إلى المنع ، وقالوا : كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به. واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة ، والله عز قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث. ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا ، قال : فأخبر بما فيها من البقول ، فقال : "قربوها" - إلى بعض أصحابه كان معه - فلما رآه كره أكلها ، قال : " كل فإني أناجي من لا تناجي" . أخرجه مسلم وأبو داود. فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم ، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل. ففزع وصعد إليه فقال : أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا ولكني أكرهه" . قال : فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى "يعني يأتيه الوحي". فهذا نص على عدم التحريم. وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : "أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها" الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به ، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك. لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال : "من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة : من أكل البصل والثوم
(1/426)
________________________________________
والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه مسلم.
قوله تعالى : {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} العدس معروف. والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت. وعدس : زجر للبغال ، قال :
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسة. وعدس في الأرض : ذهب فيها. وعدست إليه المنية أي سارت ، قال الكميت :
أكلفها هول الظلام ولم أزل ... أخا الليل معدوسا إلي وعادسا
أي يسار إلي بالليل. وعدس : لغة في حدس ، قاله الجوهري. ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال : "عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم" ، ذكره الثعلبي وغيره. وكان عمر بن عبدالعزيز يأكل يوما خبزا بزيت ، ويوما بلحم ، ويوما بعدس. قال الحليمي : والعدس والزيت طعام الصالحين ، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية. وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة ، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم. والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام ، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/427)
________________________________________
لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل.
قوله تعالى : {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} الاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر ، ومنه البدل ، وقد تقدم. و"أدنى" مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة ، من قولهم : ثوب مقارب ، أي قليل الثمن. وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفف همزته. وقيل : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون ، أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وحولت الواو ألفا لتطرفها. وقرئ في الشواذ "أدنى". ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير.
واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة :
الأول : أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ، قاله الزجاج.
الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه.
الثالث : لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.
الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى.
الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه ، كانت أدنى من هذا الوجه.
(1/428)