فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الثلاثاء 8 مارس - 1:51 | |
| (/) فيه خمس مسائل : الأولى : لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث. ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري ، توفي وترك امرأة يقال لها : أم كجة وثلاث بنات له منها ؛ فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما : سويد وعرفجة ؛ فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا ، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ، ويقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل ، وطاعن بالرمح ، وضارب بالسيف ، وحاز الغنيمة. فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما ، فقالا : يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا. فقال عليه السلام : "انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن". فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم ، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم ؛ فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار ، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم ، فعكسوا الحكم ، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم ، وأخطؤوا في آرائهم وتصرفاتهم. الثانية : قال علماؤنا : في هذه الآية فوائد ثلاث : الأولى : بيان علة الميراث وهي القرابة. الثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد. الثالثة : إجمال النصيب المفروض. وذلك مبين في آية المواريث ؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي. الثالثة : ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : "اجعلها في فقراء أقاربك" فجعلها لحسان وأبي. قال أنس : "وكانا أقرب إليه مني". قال أبو داود : بلغني عن محمد بن عبدالله الأنصاري أنه قال : أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام. وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. قال الأنصاري : بين أبى طلحة وأبي ستة آباء. قال : وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب (5/46) وأبا طلحة. قال أبو عمر : في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه ، وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة. الرابعة : قوله تعالى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو ؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا ؛ فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا. فنزلت { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } إلى قوله تعالى : { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فأرسل إليهما "أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس ، ولبناته الثلثين ، ولكما بقية المال". الخامسة : استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله ، كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها. فقال مالك : يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به ؛ لقوله تعالى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً }. وهو قول ابن كنانة ، وبه قال الشافعي ، ونحوه قول أبي حنيفة. قال أبو حنيفة : في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له. وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم. وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم ؛ وهو قول أبي ثور. قال ابن المنذر : وهو أصح القولين. ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي. قال ابن القاسم : وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات ، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم ، أن يباع ولا شفعة فيه ؛ لقوله عليه السلام : "الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود ، وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. هذا دليل الحديث. قلت : ومن الحجة لهذا القول ما خرجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تعضية (5/47) على أهل الميراث إلا ما حمل القسم". قال أبو عبيد : هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم. يقول : فلا يقسم ؛ وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك. والتعضية التفريق ؛ يقال : عضيت الشيء إذا فرقته. ومنه قوله تعالى : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }. وقال تعالى : { غَيْرَ مُضَارٍّ } فنفى المضارة. وكذلك قال عليه السلام : "لا ضرر ولا ضرار". وأيضا فإن الآية ليس فيها تعرض للقسمة ، وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا ، ردا على الجاهلية فقال : "للرجال نصيب" "وللنساء نصيب" [النساء : 32] وهذا ظاهر جدا. فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر ؛ وذلك بأن يقول الوارث : قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه ؛ فيقول له شريكه : أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن ؛ لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال ، وتغيير الهيئة ، وتنقيص القيمة ؛ فيقع الترجيح. والأظهر سقوط القسمة فيه يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل. والله الموفق. قال الفراء : { نَصِيباً مَفْرُوضاً } هو كقولك : قسما واجبا ، وحقا لازما ؛ فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب. الزجاج : أنتصب على الحال. أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض. الأخفش : أي جعل الله لهم نصيبا. والمفروض : المقدر : الواجب. 8- { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } فيه أربع مسائل : الأولى : بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيرا ؛ والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا الرضخ. وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ؛ (5/48) درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة ؛ قاله ابن عباس. وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري وروي عن ابن عباس "أنها منسوخة نسخها قوله تعالى : {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك. والأول أصح ؛ فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير : ضيع الناس هذه الآية. قال الحسن : ولكن الناس شحوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى : {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين} قال : "هي محكمة وليست بمنسوخة". وفي رواية قال : "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها ؛ هما واليان : وال يرث وذلك الذي يرزق ، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أملك لك أن أعطيك". قال ابن عباس : "أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث". قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير ، والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة : هذا الرضخ واجب على جهة الفرض ، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب ؛ لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث ، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة ، وسبب للتنازع والتقاطع. وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية ، لا الورثة. وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد. "فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه". وهذا والله أعلم - يتنزل حيث كانت الوصية واجبة ، ولم تنزل آية الميراث. والصحيح الأول وعليه المعول. (5/49) الثانية : فإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله ؛ فقالت طائفة : يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل : لا يعطي بل يقول لمن حضر القسمة : ليس لي شيء من هذا المال إنما هو لليتيم ، فإذا بلغ عرفته حقكم. فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء ؛ فإن أوصى يصرف له ما أوصى. ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه ؛ وفعلا ذلك ، ذبحا شاة من التركة ، وقال عبيدة : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث محكمات تركهن الناس : هذه الآية ، وآية الاستئذان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى }. الثالثة : قوله تعالى : { مِنْهُ } الضمير عائد على معنى القسمة ؛ إذ هي بمعنى المال والميراث ؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } أي السقاية ؛ لأن الصواع مذكر. ومنه قوله عليه السلام : "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" فأعاد مذكرا على معنى الدعاء. وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سأل عن الخمر "إنه ليس بدواء ولكنه داء" فأعاد الضمير على معنى الشراب. ومثله كثير. يقال : قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه ، والاسم القسمة مؤنثة ؛ والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم ، والموضع مقسم مثل مجلس ، وتقسمهم الدهر فتقسموا ، أي فرقهم فتفرقوا. والتقسيم التفريق. والله أعلم. الرابعة : قوله تعالى : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } قال سعيد بن جبير : يقال لهم خذوا بورك لكم. وقيل : قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر من هذا. وقيل : لا حاجة مع الرزق إلى عذر ، نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار. 9- { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } (5/50) فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ } حذفت الألف من "ليخش" للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر. وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم ؛ وأنشد الجميع : محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا أراد لتفد ، ومفعول "يخش" محذوف لدلالة الكلام عليه. و { خَافُوا } جواب "لو". التقدير لو تركوا لخافوا. ويجوز حذف اللام في جواب "لو". وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها ؛ فقالت طائفة : "هذا وعظ للأوصياء ، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم" ؛ قاله ابن عباس. ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } . وقالت طائفة : المراد جميع الناس ، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ؛ وإن لم يكونوا في حجورهم. وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده. ومن هذا ما حكاه الشيباني قال : كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبدالملك ، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي ، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان. فقلت له : يا أبا بشر ، ودي ألا يكون لي ولد. فقال لي : ما عليك ! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت ، أحب أو كره ، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ؛ ثم تلا الآية. وفي رواية : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت : بلى ! فتلا هذه الآية { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا } إلى آخرها. قلت : ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته". وقول ثالث قاله جمع من المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت (5/51) فيقول له من بحضرته عند وصيته : إن الله سيرزق ولدك فأنظر لنفسك ، وأوص بمالك في سبيل الله ، وتصدق وأعتق. حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته ؛ فنهوا عن ذلك. فكأن الآية تقول لهم : "كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله" ؛ قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : "إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك ، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك" ؛ فذلك قوله تعالى : { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ }. وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس هذا ، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره : أمسك على ورثتك ، وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك ، وينهاه عن الوصية ، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له ؛ فقيل لهم : كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضررهم. وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ؛ روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب. قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان ؛ يصلح لأحدهما القول الواحد ، ولآخر القول الثاني. وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه. وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ؛ فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه. قلت : وهذا التفصيل صحيح ؛ لقوله عليه السلام لسعد : "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" . فإن لم يكن للإنسان ولد ، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه ؛ فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح ، فيكون وزره عليه. الثانية : قوله تعالى : { وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } السديد : العدل والصواب من القول ؛ أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما عليه من الحقوق الواجبة ، ثم يوصي لقرابته (5/52) بقدر [ما] لا يضر بورثته الصغار. وقيل : المعنى قولوا للميت قولا عدلا ، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله ، ولا يأمره بذلك ، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن. هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ولم يقل مروهم ؛ لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد. وقيل : المراد اليتيم ؛ أن لا ينهروه ولا يستخفوا به. 10- { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ؛ فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية ، قال مقاتل بن حيان ؛ ولهذا قال الجمهور : إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم. وقال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار. وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا ؛ لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف الأشياء. وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق. وسمى المأكول نارا بما يؤول إليه ؛ كقوله تعالى : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً } أي عنبا. وقيل : نارا أي حراما ؛ لأن الحرام يوجب النار ، فسماه الله تعالى باسمه. وروى أبو سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال : "رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما". فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر. وقال صلى الله عليه وسلم : "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر فيها "وأكل مال اليتيم". الثانية : قوله تعالى : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله ؛ من أصلاه الله حر النار إصلاء. قال الله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ }. وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة (5/53) الفعل مرة بعد أخرى. دليله قوله تعالى : { ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ }. ومنه قولهم : صليته مرة بعد أخرى. وتصليت : استدفأت بالنار. قال : وقد تصليت حر حربهم ... كما تصلى المقرور من قرس وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاة. قال الله تعالى : { لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى }. والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها ؛ ومنه قول الحارث بن عباد : لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـــه وإني لحرها اليوم صال والسعير : الجمر المشتعل. الثالثة : وهذه آية من آيات الوعيد ، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب. والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت ؛ بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون ، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة ، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } . وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل" . فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية. (5/54) 11– {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 12- {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} 13- { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } 14- { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } فيه خمس وثلاثون مسألة : الأولى : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } بين تعالى في هذه الآية ما أجمله في قوله : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } و { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ } فدل هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمهات الآيات ؛ فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم ، وروي نصف العلم. وهو أول (5/55) علم ينزع من الناس وينسى. رواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول شيء ينتزع من أمتي". وروي أيضا عن عبدالله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما" . وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جل علم الصحابة ، وعظيم مناظرتهم ، ولكن الخلق ضيعوه. وقد روى مطرف عن مالك ، قال عبدالله بن مسعود : "من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية ؟ " وقال ابن وهب عن مالك : كنت أسمع ربيعة يقول : "من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها". قال مالك : وصدق. الثانية : روى أبو داود والدارقطني عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة". قال الخطابي أبو سليمان : الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى : واشترط فيها الإحكام ؛ لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به ، وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة. وقوله : "أو فريضة عادلة" يحتمل وجهين من التأويل : أحدهما : أن يكون من العدل في القسمة ؛ فتكون معدلة عل الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة. والوجه الآخر : أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما ؛ فتكون هذه الفريضة تعدل ما اخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا. روى عكرمة قال : أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأل عن امرأة تركت زوجها وأبويها. قال : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي. فقال : تجده في كتاب الله أو تقول برأي ؟ قال : أقوله برأي ؛ لا أفضل أما على أب. قال أبو سليمان : فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص ؛ وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه ، (5/56) وهو قوله تعالى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ }. فلما وجد نصيب الأم الثلث ، وكان باقي المال هو الثلثان للأب ، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم ؛ فقسمه بينهما على ثلاثة ، للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي. وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي وهو السدس ، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل. وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم ، وبخس الأب حقه برده إلى السدس ؛ فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد. قال أبو عمر : وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين : "للزوج النصف ، وللأم ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي". وقال في امرأة وأبوين : "للمرأة الربع ، وللأم ثلث جميع المال ، والباقي للأب". وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداود بن علي ، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبدالله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا. وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة. وقال في موضع آخر : إنه قد روي ذلك عن علي أيضا. قال أبو عمر : المعروف المشهور عن علي وزيد وعبدالله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك. ومن الحجة لهم على ابن عباس : "أن الأبوين إذا اشتركا في الوراثة ، ليس معهما غيرهما ، كان للأم الثلث وللأب الثلثان". وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج ، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين. وهذا صحيح في النظر والقياس. الثالث : واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث ؛ فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني عن جابر بن عبدالله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله ، إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنما تنكح النساء على أموالهن ؛ فلم يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ، ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ادع لي أخاه" فجاء فقال له : "ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي" . لفظ أبي داود. في رواية الترمذي وغيره : فنزلت آية المواريث. قال : هذا حديث صحيح. وروى جابر أيضا قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم (5/57) وأبو بكر في بني سلمة يمشيان ، فوجداني لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رش علي منه فأفقت. فقلت : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ }. أخرجاه في الصحيحين. وأخرجه الترمذي وفيه "فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي ؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } الآية. قال : "حديث حسن صحيح". وفي البخاري عن ابن عباس "أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد ، والوصية للوالدين ؛ فنسخ ذلك بهذه الآيات". وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كجة ؛ وقد ذكرناها. السدي : نزلت بسبب بنات عبدالرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت. وقيل : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو ؛ فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه. ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع ؛ ولذلك تأخر نزولها. والله أعلم. قال الكيا الطبري : وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك ، بل ثبت خلافه ؛ فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع. وقيل : نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس. والأول أصح عند أهل النقل. فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم ، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه. ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم. قلت : وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال : ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة ؛ وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه ؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما ؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت. قاله ابن العربي. (5/58) الرابعة : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } قالت الشافعية : " قول الله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} حقيقة في أولاد الصلب ، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز ؛ فإذا حلف أن لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث ؛ وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده ". وأبو حنيفة يقول : "إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب". ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه. الخامسة : قال ابن المنذر : لما قال تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد ، المؤمن منهم والكافر ؛ فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يرث المسلم الكافر" علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض ، فلا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث. قلت : ولما قال تعالى : { فِي أَوْلادِكُمْ } دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار ؛ فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام. وبه قال كافة أهل العلم ، إلا النخعي فإنه قال : لا يرث الأسير. فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود. ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : "لا نورث ما تركنا صدقة" وسيأتي بيانه في "مريم" إن شاء الله تعالى. وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أو جده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الأمة ، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا ؛ على ما تقدم بيانه في البقرة. فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدية ، ويرث من المال في قول مالك ، ولا يرث في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي ، من المال ولا من الدية شيئا ؛ حسبما تقدم بيانه في البقرة. وقول مالك أصح ، وبه قال إسحاق وأبو ثور. وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والأوزاعي وابن المنذر ؛ لأن ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع. وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث. (5/59) | |
|