وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة : إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة ؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا : لو قصصت علينا ؛ فنزل : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف : 3] فتلاه عليهم زمانا فقالوا : لو حدثتنا ؛ فأنزل : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر : 23]. قال العلماء : وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة ، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها ، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر ، ولا على معارضة غير المتكرر ، والإعجاز لمن تأمل.
3 - الآية : 1 {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}
قوله تعالى : {الر} تقدم القول فيه ؛ والتقدير هنا : تلك آيات الكتاب ، على الابتداء والخبر. وقيل : "الر" اسم السورة ؛ أي هذه السورة المسماة {الر}{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني بالكتاب المبين القرآن المبين ؛ أي المبين حلاله وحرامه ، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل : أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة.
الآية : 2 {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} يجوز أن يكون المعنى : إنا أنزلنا القرآن عربيا ؛ نصب "قرآنا" على الحال ؛ أي مجموعا. و"عربيا" نعت لقوله "قرآنا". ويجوز أن يكون توطئة للحال ، كما تقول : مررت بزيد رجلا صالحا ، و"عربيا" على الحال ،
(9/118)
أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين ، ومنه "الثيب تعرب عن نفسها". "لعلكم تعقلون" أي لكي تعلموا معانيه ، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع "لعل" تشبيها بعسى. واللام في "لعل" زائدة للتوكيد ؛ كما قال الشاعر :
يا أبتا علك أو عساكا
وقيل : {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لتكونوا على رجاء من تدبره ؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب ، ولا إلى الله عز وجل. وقيل : معنى "أنزلناه" أي أنزلنا خبر يوسف ، قال النحاس : وهذا أشبه بالمعنى ؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا : سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن خبر يوسف ؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة ، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه.
الآية : 3 {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}
قوله تعالى : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} ابتداء وخبره : {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} بمعنى المصدر ، والتقدير : قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء ، ومنه قوله تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص : 11] أي تتبعي أثره ؛ فالقاص ، يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال : فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل : القصص ليس مصدرا ، بل هو في معنى الاسم ، كما يقال : الله رجاؤنا ، أي مرجونا فالمعنى على هذا : نحن نخبرك بأحسن الأخبار. {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي بوحينا فـ "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر. {هَذَا الْقُرْآنَ} نصب القرآن على أنه نعت لهذا ، أو بدل منه ، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض ؛ قال : على التكرير ؛ وهو عند البصريين على البدل من "ما".
(9/119)
وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له : هو هذا القرآن. {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي من الغافلين عما عرفناكه.
مسألة : واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص ؟ فقيل : لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة ؛ وبيانه قوله في آخرها : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف : 111]. وقيل : سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته ، وصبره على أذاهم ، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه ، وكرمه في العفو عنهم ، حتى قال : {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف : 92]. وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين ، والجن والإنس والأنعام والطير ، وسير الملوك والممالك ، والتجار والعلماء والجهال ، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن ، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا ، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش ، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل : "أحسن" هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني : إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة ؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته ، وامرأة العزيز ؛ قيل : والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه ، ومستعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فيما يقال : فما كان أمر الجميع إلا إلى خير.
الآية : 4 {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} "إذ" في موضع نصب على الظرف ؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف "يؤسف" بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد : "يؤسف" بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي ؛ وقيل : هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن "يوسف" فقال : الأسف في اللغة
(9/120)
الحزن ؛ والأسيف العبد ، وقد اجتمعا في يوسف ؛ فلذلك سمي يوسف. {لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ} بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي ، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة ، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال : رجل نكحة وهزأة ؛ قال النحاس : إذا قلت "يا أبت" بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة ؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء ، وله على قوله دلائل : منها - أن قولك : "يا أبه" يؤدي عن معنى "يا أبي" ؛ وأنه لا يقال : "يا أبت" إلا في المعرفة ؛ ولا يقال : جاءني أبت ، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة ، ولا يقال : "يا أبتي" لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال : "يا أبت" فكسر دل على الياء لا غير ؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ ، والحق ما قال ، كيف تكون الياء في النية وليس يقال : "يا أبتي" ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر "يا أبت" بفتح التاء ؛ قال البصريون : أرادوا "يا أبتي" بالياء ، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت "يا أبتا" فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل : الأصل الكسر ، ثم أبدل من الكسرة فتحة ، كما يبدل من الياء ألف فيقال : يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء "يا أبت" بضم التاء. {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال : جاءني أحد عشر ، ورأيت ومررت بأحد عشر ، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما ؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي : أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا ؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال : جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال : "الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان ؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له" . قال ابن عباس وقتادة : الكواكب إخوته ، والشمس أمه ، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا : الشمس خالته ، لأن أمه كانت قد ماتت ، وكانت خالته تحت
(9/121)
أبيه. {رَأَيْتُهُمْ} توكيد. وقال : {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فجاء مذكرا ؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله : {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف : 198]. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته ، وإن كان خارجا عن الأصل.
الآية : 5 {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
فيه إحدى عشرة مسألة : -
الأولى : - قوله تعالى : {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} أي يحتالوا في هلاكك ؛ لأن تأويلها ظاهر ؛ فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في "لك" تأكيد. كقوله : {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف : 43].
الثانية : - الرؤيا حالة شريفة ، ومنزلة رفيعة ، قال صلى الله عليه وسلم : "لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له" . وقال : "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا" . وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وروي "من سبعين جزءا من النبوة". وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "جزءا من أربعين جزءا من النبوة". ومن حديث ابن عمر "جزء من تسعة وأربعين جزءا". ومن حديث العباس "جزء من خمسين جزءا من النبوة". ومن حديث أنس "من ستة وعشرين". وعن عبادة بن الصامت "من أربعة وأربعين من النبوة". والصحيح منها حديث الستة والأربعين ، ويتلوه في الصحة حديث السبعين ؛ ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين ، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ ؛ قاله ابن بطال. قال أبو عبدالله المازري : والأكثر والأصح عند أهل الحديث "من ستة وأربعين". قال الطبري : والصواب أن
(9/122)
يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح ، ولكل حديث منها مخرج معقول ؛ فأما قوله : "إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة" فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة ، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان ؛ وأما قوله : "إنها من أربعين أو ستة وأربعين" فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق رضي الله عنه أنه كان بها ؛ فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات ، والصبر في الله على المكروهات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة ، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص عن سبعين ، وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبدالبر فقال : اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والدين المتين ، وحسن اليقين ؛ فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء يتفاضلون قال الله تعالى : {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} الإسراء : 55].
قلت : فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث ، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه ؛ ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال : معنى قوله : "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا ؛ وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه "المعلم" واختاره القونوي في تفسيره من سورة "يونس" عند قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس : 64]. وهو فاسد من وجهين :
(9/123)
أحدهما : ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين ، فأقام بمكة عشر سنين ؛ وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه ، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس ، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني : أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.
الثالثة : - إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة ؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران ، وقلب الأعيان ، والاطلاع على شيء من علم الغيب ؛ كما قال عليه السلام : "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم..." الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله ، وأنها من النبوة ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" وأن التصديق بها حق ، ولها التأويل الحسن ، وربما أغنى بعضها عن التأويل ، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه ؛ ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر ، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة.
الرابعة : - إن قيل : إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها ؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة ؛ كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات ، ومنام الفتيين في السجن ؛ ورؤيا بختنصر ، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه ، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنام عاتكة ، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة ، وقد ترجم البخاري "باب رؤيا أهل السجن" : فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة ؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة ؛ وقد تقدم في "الأنعام" أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق ، لكن ذلك على الندور والقلة ، فكذلك رؤيا هؤلاء ؛ قال المهلب : إنما ترجم البخاري
(9/124)
بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة ، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة ، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها ، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة.
الخامسة : - الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام ، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم ، وهي المضافة إلى الشيطان ، وإنما سميت ضغثا ؛ لأن فيها أشياء متضادة ؛ قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل ؛ روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" . قال : قلت : سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السادسة : - قوله تعالى : {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} الآية. الرؤيا مصدر رأي في المنام ، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى ؛ وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا ؛ فقيل : هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة ، كالنوم المستغرق وغيره ؛ ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم ؛ فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا ، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك ، قال ابن العربي : ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة ، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال ، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل : إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم ، فيمثل له صورا محسوسة ؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود ، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة ، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة ؛ قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره : "رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى
(9/125)
و "رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون" . و "رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة" . و "رأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي" . إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال ؛ ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا ، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر ؛ وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين ، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه.
السابعة : - إن قيل : إن يوسف عليه السلام كان صغيرا وقت رؤياه ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه : {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} ؟ فالجواب : أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه ، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة ، وإذا أخبر عما رأى صدق ، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام ؛ وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض ؛ روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة.
الثامنة : - هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح ، ولا على من لا يحسن التأويل فيها ؛ روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة" . و "الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا" أخرجه الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح ؛ وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك : أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال : أبالنبوة يلعب ؟ وقال مالك : لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها ، فإن رأى خيرا أخبر به ، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت ؛ قيل : فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه ؟ فقال : لا! ثم قال ، : الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
التاسعة : - وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة ؛ لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن
(9/126)
يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا ، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود" . وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا ؛ فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم ، ولم يبال بذلك من نفسه ؛ فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه ، والأخ لا يود ذلك لأخيه ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه ؛ فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم ، فيعملوا الحيلة في هلاكه ؛ ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت ، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء ، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي ، وعن عقوق الآباء ، وتعريض مؤمن للهلاك ، والتآمر في قتله ، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء ، ولا يستحيل في العقل زلة نبي ، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر ، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها ، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي.
العاشرة - : روى البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" قالوا : وما المبشرات ؟ قال : "الرؤيا الصالحة" وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك ؛ فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها ، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة ، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه ؛ فإن أدرك تأولها بنفسه ، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك ، وقد تقدم في "يونس" في تفسير قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس : 64] أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب ، والله أعلم.
(9/127)
الحادية عشرة : - روى البخاري عن أبي سلمة قال : لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول : وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره" . قال علماؤنا : فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها ؛ ألا ترى قول أبي قتادة : إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل ، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل" . قال علماؤنا : وهذا كله ليس بمتعارض ؛ وإنما هذا الأمر بالتحول ، والصلاة زيادة ، فعلى الرائي أن يفعل الجميع ، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع ؛ لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور ؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه ، وإذا تمضمض تفل وبصق ، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة ؛ وذلك السحر من الليل.
الآية : 6 {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} الكاف في موضع نصب ؛ لأنها نعت لمصدر محذوف ، وكذلك الكاف في قوله : {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} و"ما" كافة. وقيل : {وَكَذَلِكَ} أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك ، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا. قال مقاتل : بالسجود لك. الحسن : بالنبوة. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى ، وأصله من جبيت
(9/128)
الشيء أي حصلته ، ومنه جبيت الماء في الحوض ؛ قال النحاس. وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام ، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى ؛ من التمكين في الأرض ، وتعليم تأويل الأحاديث ؛ وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا. قال عبدالله بن شداد بن الهاد : كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة ؛ وذلك منتهى الرؤيا. وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام ، وهي ، معجزة له ؛ فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك ، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها ، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم ، والطبع والإحسان ، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله : {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد ، فهو إشارة إلى النبوة ، وهو المقصود بقوله : {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي بالنبوة. وقيل : بإخراج إخوتك ، إليك ؛ وقيل : بإنجائك من كل مكروه. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ} بالخلة ، وإنجائه من النار. {وَإِسْحَاقَ} بالنبوة. وقيل : من الذبح ؛ قاله عكرمة. وأعلمه الله تعالى بقوله : {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أنه سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة ؛ قاله جماعة من المفسرين. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بما يعطيك. {حَكِيمٌ} في فعله بك.
الآية : 7 {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
الآية : 8 {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية : 9 {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}
قوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} يعني من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة "آية" على التوحيد ؛ واختار أبو عبيد "آيات" على الجمع ؛ قال : لأنها خير كثير. قال النحاس : و"آية" هنا قراءة حسنة ، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر
(9/129)
يوسف آية فيما خبروا به ، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا : أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر ، فبكى عليه حتى عمي ؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ، ولا من يعرف خبر الأنبياء ؛ وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة "يوسف" جملة واحدة ؛ فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة ، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم ، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. {آيَاتٌ} موعظة ؛ وقيل : عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف "عبرة". وقيل : بصيرة. وقيل : عجب ؛ تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره : لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه ؛ وقال ابن زيد : كانوا أنبياء ، وقالوا : ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه! فبغوه بالعداوة ، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} وأسماؤهم : روبيل وهو أكبرهم ، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر ، وأمهم ليا بنت ليان ، وهي بنت خال يعقوب ، وولد له من سريتين أربعة نفر ؛ دان ونفتالي وجاد وأشر ، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي : وأم يعقوب اسمها رفقا ، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين ، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب. وقيل : في اسم الأمتين ليا وتلتا ، كانت إحداهما لراحيل ، والأخرى لأختها ليا ، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب ، وكان يعقوب قد جمع بينهما ، ولم يحل لأحد بعده ؛ لقول الله تعالى : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء : 23]. وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد ، والحمد لله.
قوله تعالى : {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} "يوسف" رفع بالابتداء ؛ واللام للتأكيد ، وهي التي يتلقى بها القسم ؛ أي والله ليوسف. {وَأَخُوهُ} عطف عليه. {حَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} خبره ، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل ؛ وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي جماعة ، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى الخمسة عشر. وقيل : ما بين الأربعين إلى العشرة ؛ ولا واحد لها من لفظها كالنفر
(9/130)
والرهط. {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لم يريدوا ضلال الدين ، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا ؛ بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير ، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه. وقيل : لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا.
قوله تعالى : {اقْتُلُوا يُوسُفَ} في الكلام حذف ؛ أي قال قائل منهم : {اقْتُلُوا يُوسُفَ} ليكون أحسم لمادة الأمر. {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} أي في أرض ، فأسقط الخافض وانتصب الأرض ؛ وأنشد سيبويه فيما حذف منه "في" :
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال النحاس : إلا أنه في الآية حسن كثير ؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما بحرف ، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل : هو شمعون ، قال وهب بن منبه. وقال كعب الأحبار ؛ دان. وقال مقاتل : روبيل ؛ والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه ؛ فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض. {يَخْلُ} جزم لأنه جواب الأمر ؛ معناه : يخلص ويصفو. {لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فيقبل عليكم بكليته. {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد الذنب ، وقيل : من بعد يوسف. {قَوْماً صَالِحِينَ} أي تائبين ؛ أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم ؛ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة ، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. وقيل : {صَالِحِينَ} أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل.