المجلد الثامنتابع سورة الأنفال
الآية : 111 {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فيه ثمان مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} قيل : هذا تمثيل ؛ مثل قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة : 16]. ونزلت الآية في البيعة الثانية ، وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو ؛ وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ، فقال عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : "الجنة" قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ؛ فنزلت : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية. ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
الثانية : هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه. وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره ؛ لأن ماله له وله انتزاعه.
الثالثة : أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع ؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك. وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به ، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء. وروى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن فوق كل بِرٍّ بِرٌّ حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك" . وقال الشاعر في معنى البر :
الجود بالماء جود فيه مكرمة ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
(8/267)
وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه :
أثامن بالنفس النفيسة ربها ... وليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشتري الجنات إن أنا بعتها ... بشيء سواها إن ذلكم غبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
قال الحسن : ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} فقال : كلام من هذا ؟ قال : (كلام الله) قال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله. فخرج إلى الغزو واستشهد.
الرابعة : قال العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم ؛ لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين ، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال ، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة. ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه. ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى ، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر.
الخامسة : قوله تعالى : {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بيان لما يقاتل له وعليه ؛ وقد تقدم. {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل ؛ ومنه قول امرئ القيس :
فإن تقتلونا نقتلكم...
أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول.
السادسة : قوله تعالى : {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب ، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام. و"وعدا" و"حقا" مصدران موكدان.
(8/268)
السابعة : قوله تعالى : {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أو في بعهده من الله. وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد ، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل ؛ فأما وعده فللجميع ، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى.
الثامنة : قوله تعالى : {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} أي أظهروا السرور بذلك. والبشارة إظهار السرور في البشرة. وقد تقدم. وقال الحسن : والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة. {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الظفر بالجنة والخلود فيها.
الآية : 112 {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله. والتائب هو الراجع. والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. {الْعَابِدُونَ} أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. {الْحَامِدُونَ} أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته ، الذين يحمدون الله على كل حال. {السَّائِحُونَ} الصائمون ؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. ومنه قوله تعالى : {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم : 5]. وقال سفيان بن عيينة : إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال أبو طالب :
وبالسائحين لا يذوقون قطرة ... لربهم والذاكرات العوامل
(8/269)
وقال آخر :
برا يصلي ليله ونهاره ... يظل كثير الذكر لله سائحا
وروي عن عائشة أنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ؛ أسنده الطبري. ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "سياحة أمتي الصيام" . قال الزجاج : ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون القرض. وقد قيل : إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء : السائحون المجاهدون. وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" . صححه أبو محمد عبدالحق. وقيل : السائحون المهاجرون قاله عبدالرحمن بن زيد. وقيل : هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم ؛ قال عكرمة. وقيل : هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال : أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى : {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر : 71] وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع.
قلت : لفظ "س ي ح" يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء ؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح. والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا. وفي الحديث : "إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي" ويروى "صياحين" بالصاد ، من الصياح. {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها. {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي بالسنة ، وقيل : بالإيمان. {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قيل : عن البدعة. وقيل : عن الكفر. وقيل : هو عموم في كل معروف ومنكر. {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه.
(8/270)
الثانية : واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة : الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها. وقالت فرقة : هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك. قال ابن عطية : وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة. وقال الزجاج : الذي عندي أن قوله : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} رفع بالابتداء وخبره مضمر ؛ أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. واختار هذا القول القشيري وقال : وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله : {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لكان الوعد خاصا للمجاهدين. وفي مصحف عبدالله {التائِبين العابدين} إلى آخرها ؛ ولذلك وجهان : أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع. والثاني النصب على المدح.
الثالثة : واختلف العلماء في الواو في قوله : {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فقيل : دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى : {حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر : 1 ، 2 ، 3] فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها. وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة. وقيل : دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منها مفردا. وكذلك قوله : {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم : 5]. ودخلت في قوله : {وَالْحَافِظُونَ} لقربه من المعطوف. وقد قيل : إنها زائدة ، وهذا ضعيف لا معنى له. وقيل : هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح. وكذلك قالوا
(8/271)
في قوله : {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم : 5]. وقول في أبواب الجنة : {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر : 73] وقوله : {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف : 22] وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله : {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر : 73] وأنكرها أبو علي. قال ابن عطية : وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبي عبدالله الكفيف المالقي ، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا : واحد اثنان ثلاثة أربعة خمس ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو. قلت : هي لغة قريش. وسيأتي بيانه ونقضه في سورة [الكهف] إن شاء الله تعالى وفي "الزمر] أيضا بحول الله تعالى.
الآية : 113 {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك" فأنزل الله عز وجل : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : {إِنَّكَ
(8/272)
لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص : 56]. فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح. وقال الحسين بن الفضل : وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
الثانية : هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. فإن قيل : فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين. قيل له : إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبدالله قال : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" . وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
قلت : وهذا صريح في الحكاية عمن قبله ، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم. والله أعلم. والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام ؛ على ما يأتي بيانه في سورة [هود] إن شاء الله. وقيل : إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة. قال بعضهم : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنى لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية. قال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة. جواب ثالث : وهو أن الاستغفار للأحياء جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن
(8/273)
تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين. وقد قال كثير من العلماء : لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين. فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له. قال ابن عباس : كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا.
الثالثة : قال أهل المعاني : {مَا كَانَ} في القرآن يأتي على وجهين : على النفي نحو قوله : {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل : 60] ، "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله" [آل عمران : 145]. والآخر بمعنى النهي كقوله : {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب : 53] ، و {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} .
الآية : 114 {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : أتستغفر لهما وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} . والمعنى : لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة. وقال ابن عباس : كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له فالكناية في قوله : {إِيَّاهُ} ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه. وقيل : الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه. ودل على هذا الوعد قوله : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم : 47]. قال القاضي أبو بكر بن العربي : تعلق النبي صلى الله عليه وسلم
(8/274)
في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم : 47] فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا.
الثانية : ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس : يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء ؟ قال : "نعم". وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب "التذكرة".
الثالثة : قوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} اختلف العلماء في الأواه على
خمسة عشر قولا :
[الأول] أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء ؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير.
الثاني : أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة ، وروي عن ابن مسعود. والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس.
الثالث : إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس.
الرابع : أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا.
الخامس : أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة ؛ قاله الكلبي وسعيد بن المسيب.
السادس : أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال : "إنه لأواه".
السابع : أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس.
قلت : وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها.
الثامن : أنه المتأوه ؛ قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول : (آه من النار قبل ألا تنفع آه). وقال أبو ذر : كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه : أوه أوه ؛ فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "دعه فإنه أواه" فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
التاسع : أنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي.
العاشر : أنه المتضرع الخاشع رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أنس : تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(8/275)
"دعوها فإنها أواهة" قيل : يا رسول الله ، وما الأواهة ؟ قال : "الخاشعة" .
الحادي عشر : أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها قاله أبو أيوب.
الثاني عشر : أنه الكثير التأوه من الذنوب قال الفراء.
الثالث عشر : أنه المعلم للخير قاله سعيد بن جبير.
الرابع عشر : أنه الشفيق قاله عبدالعزيز بن يحيى. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته ورأفته.
الخامس عشر : أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى قاله عطاء وأصله من التأوه ، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال كعب : كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه. قال الجوهري : قولهم عند الشكاية أوه من كذا ساكنة الواو إنما هو توجع. قال الشاعر :
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن ب عد أرض بيننا وسماء
وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا : آه من كذا. وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا : أوه من كذا. وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا : أو من كذا بلا مد. وبعضهم يقول : آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا : أوتاه يمد ولا يمد. وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه ، والاسم منه الآهة بالمد. قال المثقب العبدي :
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
والحليم : الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى. وقيل : الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله. وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين.
الآية : 115 {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
الآية : 116 {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
(8/276)
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الإضلال.
قلت : ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكب وانتهك حجابها كانت سببا إلى الضلالة والردى وسلما إلى ترك الرشاد والهدى. نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه. وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في قوله : {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ} أي حتى يحتج عليهم بأمره ؛ كما قال : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء : 16] وقال مجاهد : {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ} أي أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة. وروي انه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وهذه الآية رد على المعتزلة وغيرهم الذين يقولون بخلق هداهم وإيمانهم كما تقدم.
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
تقدم معناه غير مرة.
الآية : 117 {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
روى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد
(8/277)
كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل فذكر الحديث بطول قال : (فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال : "أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتي عليك منذ ولدتك أمك" فقلت : يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك ؟ قال : "بل من عند الله - ثم تلا هذه الآية – {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ - حتى بلغ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال : وفينا أنزلت أيضا {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]...) وذكر الحديث. وسيأتي بكمال من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال فقال ابن عباس : كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة : 43] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه. وقيل : توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة. وقيل : خلاصهم من نكاية العدو ، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحال الأولى. وقال أهل المعاني : إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال : 41].
قوله تعالى : {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي في وقت العسرة ، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها. وقيل : ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة. والعسرة صعوبة الأمر. قال جابر : اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد
(8/278)
وعسرة الماء. قال الحسن : كانت العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم - إلا التمرات - بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة : (خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش ، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال : "أتحب ذلك" ؟ قال : نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر). وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا : يا رسول الله ، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "افعلوا" فجاء عمر وقال : يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. قال : "نعم" ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال أبو هريرة : فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال : "خذوا في أوعيتكم" فأخذوا في أوعيتهم حتى - والذي لا إله إلا هو - ما بقي في العسكر وعاء إلا ملؤوه ، وأكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد شاك فيهما فيحجب عن الجنة" . خرجه مسلم في صحيحه
(8/279)
بلفظه ومعناه ، والحمد لله.
وقال ابن عرفة : سمي جيش تبوك جيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ ، فغلظ عليهم وعسر ، وكان إبان ابتياع الثمرة. قال : وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية. وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون : خلفه بغضا له ؛ فخرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام : "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه لأن المدار على أمر الشارع. وإنما قيل لها : غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء ، فقال : "ما زلتم تبوكونها بوكا" فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك. الحسي بالكسر ما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري.
قوله تعالى : {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} {قُلُوبُ} رفع بـ {تزيغ} عند سيبويه. ويضمر في "كاد" الحديث تشبيها بكان ؛ لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان. وإن شئت رفعتها بكاد ، ويكون التقدير : من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص {يزيغ} بالياء ، وزعم أبو حاتم أن من قرأ {يزيغ} بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس : والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء رحب البلاد وأرحبت ، ورحبت لغة أهل الحجاز واختلف في معنى تزيغ ، فقيل : تتلف بالجهد والمشقة والشدة. وقال ابن عباس : تعدل - أي تميل - عن الحق في الممانعة والنصرة.
(8/280)
وقيل : من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به وقيل : هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به.
قوله تعالى : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم. وينشد :
منك أرجو ولست أعرف ربا ... يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأرض ... على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجوع ... وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ ... فتيقنت أنني بك أنجو
وقال في حق الثلاثة : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} فقيل : معنى {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للتوبة ليتوبوا. وقيل : المعنى تاب عليهم ؛ أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا. وقيل : تاب عليهم ليثبتوا على التوبة. وقيل : المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا ؛ دليله قوله عليه السلام : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له".