فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 21 يوليو - 2:02 | |
| المجلد الثامن تابع سورة الأنفال الآيتان : 49 - 50 {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ، إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} من أذن يأذن. وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل ، ولا يجتمع همزتان ، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ايذن. فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين ، ثم همزت فقلت : {ومِنهم من يقول ائذن لي} وروى ورش عن نافع {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اوذَنْ لِي} خفف الهمزة. قال النحاس : يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط. فإن قلت : ايذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء وكذا الفاء. والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان. قال محمد بن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك : "يا جد ، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء" فقال الجد : قد عرف قومي أني مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "قد أذنت لك" فنزلت هذه الآية. أي لا تفتني بصباحة وجوههم ، ولم يكن به علة إلا النفاق. قال المهدوي : والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم. وقيل : سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم ، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة ، فكن صفرا لعسا. قال ابن عطية : في قول ابن أبي إسحاق فتور. وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (8/158) قال : "اغزوا تغنموا بنات الأصفر" فقال له الجد : ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء. وهذا منزع غير الأول ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة. ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم : "من سيدكم يا بني سلمة" ؟ قالوا : جد بن قيس ، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور" . فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه : وسود بشر بن البراء لجوده ... وحق لبشر بن البرا أن يسودا إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله ... وقال خذوه إنني عائد غدا قوله تعالى : {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي في الإثم والمعصية وقعوا. وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي مسيرهم إلى النار ، فهي تحدق بهم. قوله تعالى : {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} شرط ومجازاة ، وكذا {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} عطف عليه. والحسنة : الغنيمة والظفر. والمصيبة الانهزام. ومعنى قوله : {أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي احتطنا لأنفسنا ، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال. {وَيَتَوَلَّوْا} أي عن الإيمان. {وَهُمْ فَرِحُونَ} أي معجبون بذلك. الآية : 51 {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قوله تعالى : {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} قيل : في اللوح المحفوظ. وقيل : ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا ، وإما أن نقتل (8/159) فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا. والمعنى كل شيء بقضاء وقدر. وقد تقدم في "الأعراف" أن العلم والقدر والكتاب سواء. {هُوَ مَوْلانَا} أي ناصرنا. والتوكل تفويض الأمر إليه. وقراءة الجمهور {يُصِيبَنَا} نصب بلن. وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها. وقرأ طلحة بن مصرف {هل يصيبنا} وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا} بنون مشددة. وهذا لحن ، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا ، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز. قال الله تعالى : {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج : 15]. الآية : 52 {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} قوله تعالى : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} والكوفيون يدغمون اللام في التاء. فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الإدغام ، كما قال جل وعز : {التَّائِبُونَ} [التوبة : 112] لكثرة لام المعرفة في كلامهم ولا يجوز الإدغام في قوله : {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام : 151] لأن {قُلْ} معتل ، فلم يجمعوا عليه علتين. والتربص الانتظار. يقال : تربص بالطعام أي انتظر به إلى حين الغلاء. والحسنى تأنيث الأحسن. وواحد الحسنيين حسنى ، والجمع الحسنى. ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا. لا يقال : رأيت امرأة حسنى. والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة ، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. واللفظ استفهام والمعنى توبيخ. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} أي عقوبة تهلككم كما أصاب الأمم الخالية من قبلكم. {أَوْ بِأَيْدِينَا} أي يؤذن لنا في قتالكم. {فَتَرَبَّصُوا} تهديد ووعيد. أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله. (8/160) الآية : 53 {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} فيه أربع مسائل : - الأولى : قال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولفظ {أَنْفِقُوا} أمر ، ومعناه الشرط والجزاء. وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما قال الشاعر : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين. ومعنى الآية : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم. ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة : 54] فكان في هذا أدل دليل وهي : الثانية : على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا. دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟ قال : "لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" . وروي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها" . وهذا نص. ثم قيل : هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله : {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء : 18] وهذا هو الصحيح من القولين ، والله أعلم. وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب (8/161) ظن الكافر ، وإلا فلا يصح منه قربة ، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان. أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا. قولان أيضا. الثالثة : فإن قيل : فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أسلمت على ما أسلفت من خير" قلنا قوله : "أسلمت على ما أسلفت من خير" مخالف ظاهره للأصول ، لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته ، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه ، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط. فكان المعنى في الحديث : إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام. وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة ، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية ، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير ؟ وكذلك فعل في الإسلام. وهذا واضح. وقد قيل : لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام ، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام. وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب ، ومات كافرا. وهذا ظاهر الحديث. وهو الصحيح إن شاء الله. وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل ، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه. وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال : "أسلمت على ما أسلفت" ، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك. كما تقول : أسلمت على ألف درهم ، أي على أن أحرزها لنفسه. والله أعلم. الرابعة : فإن قيل : فقد روى مسلم عن العباس قال : قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : "نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح" . قيل له : لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب (8/162) بما عمل من الخير ، لكن مع انضمام شفاعة ، كما جاء في أبي طالب. فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله : {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر : 48]. وقال مخبرا عن الكافرين : {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء : 100 ، 101]. وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". من حديث العباس رضي الله عنه : "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أي كافرين. الآية : 54 {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} فيه ثلاث مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ} {أَنْ} الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع. والمعنى : وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون {أن يُقبل مِنهم} بالياء ، لأن النفقات والإنفاق واحد. الثانية : {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} قال ابن عباس : إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل ، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا. فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة. وقد تقدم في "النساء" القول في هذا كله. وقد ذكرنا هناك حديث العلاء موعبا. والحمد لله. الثالثة : {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم. (8/163) الآية : 55 {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} الآية : 56 {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} قال الحسن : المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله. وهذا اختيار الطبري. وقال ابن عباس وقتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما بريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وهذا قول أكثر أهل العربية ، ذكره النحاس. وقيل : يعذبهم بالتعب في الجمع. وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير ، وهو حسن. وقيل : المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون ، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون. {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين ، سبق بذلك القضاء. الآية : 56 {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون. نظيره {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون : 1] الآية. والفرق الخوف ، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا. الآية : 57 {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} قوله تعالى : {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} كذا الوقف عليه. وفي الخط بألفين : الأولى همزة ، والثانية عوض من التنوين ، وكذا رأيت جزءا. والملجأ الحصن ، عن قتادة وغيره. ابن عباس : الحرز ، وهما سواء. يقال : لجأت إليه لجأ بالتحريك وملجأ والتجأت إليه (8/164) بمعنى. والموضع أيضا لجأ وملجأ. والتلجئة الإكراه. وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه. وألجأت أمري إلى الله أسندته. وعمرو بن لجأ التميمي الشاعر عن الجوهري .{أَوْ مَغَارَاتٍ} جمع مغارة ، من غار يغير. قال الأخفش : ويجوز أن يكون من أغار يغير ، كما قال الشاعر : الحمد لله ممسانا ومصبحنا قال ابن عباس : المغارات الغيران والسراديب ، وهي المواضع التي يستتر فيها ، ومنه غار الماء وغارت العين. {أَوْ مُدَّخَلاً} مفتعل من الدخول ، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه ، وأعاده لاختلاف اللفظ. قال النحاس : الأصل فيه مدتخل ، قلبت التاء دالا ، لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد. وقيل : الأصل فيه متدخل على متفعل ، كما في قراءة أبي : {أو مُتَدَخَّلاً" ومعناه دخول بعد دخول ، أي قوما يدخلون معهم. المهدوي : متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول. وعن أبي أيضا : مندخلا من اندخل ، وهو شاذ ، لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن : {أو مَدْخلاً} بفتح الميم وإسكان الدال. قال الزجاج : ويقرأ {أو مُدْخلا}بضم الميم وإسكان الدال. الأول من دخل يدخل. والثاني من أدخل يدخل. كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه : مغار ابن همام على حي خثعما وروي عن قتادة وعيسى والأعمش {أو مدّخَلاً} بتشديد الدال والخاء. والجمهور بتشديد الدال وحدها ، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم. فهذه ست قراءات. {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} (8/165) أي لرجعوا إليه. {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون ، لا يرد وجوههم شيء. من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام. قال الشاعر : سبوحا جموحا وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد والمعنى : لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين. الآية : 58 {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يطعن عليك ، عن قتادة. الحسن : يعيبك. وقال مجاهد : أي يروزك ويسألك. النحاس : والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن. يقال : لمزه يلمزه إذا عابه. واللمز في اللغة العيب في السر. قال الجوهري : اللمز العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها ، وقد لمزه يلمزه ويلمز وقرئ بهما {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} . ورجل لماز ولمزة أي عياب. ويقال أيضا : لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه. والهمز مثل اللمز. والهامز والهماز العياب ، والهمزة مثله. يقال : رجل همزة وامرأة همزة أيضا. وهمزه أي دفعه وضربه. ثم قيل : اللمز في الوجه ، والهمز بظهر الغيب. وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات ، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم. قال أبو سعيد الخدري : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج ، ويقال له ذو الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا رسول الله. فقال : "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" فنزلت الآية. حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه. وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال : "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية". (8/166) الآية : 59 {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} جواب{لَوْ}محذوف ، التقدير لكان خيرا لهم. الآية : 60 {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيه ثلاثون مسألة : - الأولى : قوله تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم ، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له ، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود : 6]. الثانية : { لِلْفُقَرَاءِ} تبيين لمصارف الصدقات والمحل ، حتى لا تخرج عنهم. ثم الاختيار إلى من يقسم ، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال : السرج للدابة والباب للدار. وقال الشافعي : اللام لام التمليك ، كقولك : المال لزيد وعمرو وبكر ، فلا بد من التسوية بين المذكورين. قال الشافعي وأصحابه : وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين. واحتجوا بلفظة {إِنما} وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت : يا رسول الله احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم ، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (8/167) "يا أخا صداء المطاع في قومه". قال : قلت بل من الله عليهم وهداهم ، قال : ثم جاءه رجل يسأل عن الصدقات ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك" رواه أبو داود والدارقطني. واللفظ للدارقطني. وحكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف ، وجعله حقا لجميعهم ، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقوله تعالى : {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة : 271]. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض. وقال صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم". وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة ، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة. وقال به من التابعين جماعة. قالوا : جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية ، وإلى أي صنف منها دفعت جاز. روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} قال : إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف وأي صنف منها أعطيت أجزأك. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} قال : في أيها وضعت أجزأ عنك. وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما. قال الكيا الطبري : حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك. قلت : يريد إجماع الصحابة ، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر ، والله أعلم. ابن العربي : والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه ، فكذلك تعميم الأصناف مثله. والله أعلم. الثالثة : واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال : فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من (8/168) المسكين. قالوا : الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه ، والمسكين الذي لا شيء له ، واحتجوا بقول الراعي : أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبدالوهاب ، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام ، يقال : حلوبته وفق عيال أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه ، عن الجوهري. وقال آخرون بالعكس ، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير. واحتجوا بقوله تعالى : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف : 79]. فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملة من المال. وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال : "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا". فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران ، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه ، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مما أفاء الله عليه ، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية ، ولذلك رهن درعه. قالوا : وأما بيت الراعي فلا حجة فيه ، لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال. قالوا : والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزعِت فقرة من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه. وقد أخبر الله عنهم بقوله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} [البقرة : 273]. واستشهدوا بقول الشاعر : لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره ، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين. وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وللشافعي (8/169) قول آخر : أن الفقير والمسكين سواء ، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم ، وهو القول الثالث. وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك ، وبه قال أبو يوسف. قلت : ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير ، وأنهما صنفان ، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر ، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفا واحدا ، والله أعلم. ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف : 79] لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم ، كما يقال : هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره. وقد قال تعالى في وصف أهل النار : {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج : 21] فأضافها إليهم. وقال تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء : 5]. وقال صلى الله عليه وسلم : "من باع عبدا وله مال..." وهو كثير جدا يضاف الشيء إليه وليس له. ومنه قولهم : باب الدار. وجل الدابة ، وسرج الفرس ، وشبهه. ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف ، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية مسكين. وفي الحديث "مساكين أهل النار" وقال الشاعر : مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر وأما ما تأولوه من قوله عليه السلام : "اللهم أحيني مسكينا" الحديث. رواه أنس ، فليس كذلك ، وإنما المعنى ههنا : التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة ، ولا كبر ولا بطر ، ولا تكبر ولا أشر. ولقد أحسن ، أبو العتاهية حيث قال : إذا أردت شريف القوم كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الله رغبته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين وليس بالسائل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه ، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق : "دعوها فإنها جبارة" وأما قوله تعالى : {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} [البقرة : 273] فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. والله أعلم. وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي في أنهما سواء حسن. ويقرب منه (8/170) ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون ، قال : الفقير المحتاج المتعفف ، والمسكين السائل ، وروي عن ابن عباس وقاله الزهري ، واختاره ابن شعبان وهو القول الرابع. وقول خامس : قال محمد بن مسلمة : الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك. والمسكين الذي لا مال له. قلت : وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبدالله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم. قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم. قال : فأنت من الأغنياء. قال : فإن لي خادما قال : فأنت من الملوك. وقول سادس : روي عن ابن عباس قال : الفقراء من المهاجرين ، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا وقال الضحاك. وقول سابع : وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل. والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع ، قاله عبيدالله بن الحسن. وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري - المساكين الطوافون ، والفقراء فقراء المسلمين. وقول تاسع قاله عكرمة أيضا - أن الفقراء فقراء المسلمين ، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وسيأتي. الرابعة : وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين ، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين ، فمن قال هما صنف واحد قال : يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني. ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا. الخامسة : وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ - بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له دارا وخادما لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة ، وللمعطي أن يعطيه. وكان مالك يقول : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز ، ذكره ابن المنذر. وبقول مالك قال النخعي والثوري. وقال أبو حنيفة : من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة. (8/171) فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام : "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". وهذا واضح ، ورواه المغيرة عن مالك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم : لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب ، ولا يعطي منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما ، قال أحمد وإسحاق. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما". في إسناده عبدالرحمن بن إسحاق ضعيف ، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضا. ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وقال : "خمسون درهما" وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره ، قال الدارقطني رحمه الله. وقال أبو عمر : هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك. وعن علي وعبدالله قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب ، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري : لا يأخذ من له أربعون درهما. ورواه الواقدي عن مالك. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش" . فقيل : يا رسول الله وما غناؤه ؟ قال : "أربعون درهما" . وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية أربعون درهما" . والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل : هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما ؟ قال نعم. قال أبو عمر : يحتمل أن يكون الأول قويا على الاكتساب حسن التصرف. والثاني ضعيفا عن الاكتساب ، أو من له عيال. والله أعلم. وقال الشافعي وأبو ثور. من كان قويا على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام. واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة سوي" رواه عبدالله بن عمر ، (8/172) وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني. وروى جابر قال : جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس ، فقال : "إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل" أخرجه الدارقطني. وروى أبو داود عن عبيدالله بن عدي بن الخيار قال : أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها ، فرفع فينا النظر وخفضه ، فرآنا جلدين فقال : "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" . ولأنه قد صار غنيا بكسبه كغنى غيره بمال فصار كل واحد منهما غنيا عن المسألة. وقال ابن خويز منداد ، وحكاه عن المذهب. وهذا لا ينبغي أن يعول عليه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزمن باطل. قال أبو عيسى الترمذي في جامعه : إذا كان الرجل قويا محتاجا ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة. وقال الكيا الطبري : والظاهر يقتضي جواز ذلك ، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال عبيدالله بن الحسن : من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سنة فإنه يعطى الزكاة. وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة ، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع والسلاح مع قوله تعالى : {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى : 8]. وقال بعض أهل العلم : لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لا بد له منه. وقال قوم : من عنده عشاء ليلة فهو غني وروي عن علي. واحتجوا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم" قالوا : يا رسول الله ، وما ظهر الغنى ؟ قال : "عشاء ليلة" أخرجه الدارقطني وقال : في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك. وأخرجه أبو داود عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" . وقال النفيلي في موضع آخر "من جمر جهنم". فقالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ (8/173) وقال النفيلي في موضع آخر : وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة ؟ قال : "قدر ما يغديه ويعشيه". وقال النفيلي في موضع آخر : "أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم". قلت : فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الأخذ. ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة ، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم. وقال عكرمة : الفقراء فقراء المسلمين ، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وقال أبو بكر العبسي : رأى عمر بن الخطاب ذميا مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر : مالك ؟ قال : استكروني في هذه الجزية ، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود علي شيء. فقال عمر : ما أنصفت إذا ، فأمر له بقوته وما يصلحه. ثم قال : (هذا من الذين قال الله تعالى فيهم : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية. وهم زمنى أهل الكتاب. ولما قال تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية ، وقابل الجملة بالجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن : "أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" . فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده. وروى أبو داود أن زيادا أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة ، فلما رجع قال لعمران : أين المال ؟ قال : وللمال أرسلتني أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني والترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : قدم علينا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا. قال الترمذي : وفي الباب عن ابن عباس حديث ابن أبي جحيفة حديث حسن. (8/174) | |
|