فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 24 أكتوبر - 0:56 | |
|
________________________________________ قال : فجعل الخوف لغير الزوجين ، ولو أراد الزوجين لقال : فإن خافا ، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان. قلت : وهو قول سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين. وقال شعبة : قلت لقتادة : عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان ؟ قال : عن زياد ، وكان واليا لعمر وعلي. قال النحاس : وهذا معروف عن زياد ، ولا معنى لهذا القول لأن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به ، ولا يجبره السلطان على ذلك ، ولا معنى لقول من قال : هذا إلى السلطان. وقد أنكر اختياره أبي عبيد ورد ، وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف ، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى. أما الإعراب فإن عبدالله بن مسعود قرأ "إلا أن يخافا" تخافوا ، فهذا في العربية إذا رد إلى ما لم يسم فاعله قيل : إلا أن يخاف. وأما اللفظ فإن كان على لفظ "يخافا" وجب أن يقال : فإن خيف. وإن كان على لفظ "فإن خفتم" وجب أن يقال : إلا أن تخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال : لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ، إلا أن يخاف غيركم ولم يقل جل وعز : فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية ، فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاوي : وقد صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان ، وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع ، وهو قول الجمهور من العلماء. الرابعة : - قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا} أي على أن لا يقيما. {حُدُودُ اللَّهِ} أي فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجميل العشرة. والمخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما. وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها ، وسوء طاعتها إياه ، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء. وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه : إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا ، ولا أغتسل لك من جنابة ، ولا أبر لك قسما ، حل الخلع. وقال الشعبي : {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ألا يطيعا الله ، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال عطاء بن أبي رباح : يحل الخلع والأخذ أن تقول (3/138) ________________________________________ المرأة لزوجها : إني أكرهك ولا أحبك ، ونحو هذا : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . روى البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتردين عليه حديقته" ؟ قالت : نعم. وأخرجه ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "أتردين عليه حديقته" ؟ قالت : نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد." فيقال : إنها كانت تبغضه أشد البغض ، وكان يحبها أشد الحب ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع ، فكان أول خلع في الإسلام. روى عكرمة عن ابن عباس قال : أول من خالع في الإسلام أخت عبدالله بن أبي ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة إذ هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها! فقال : "أتردين عليه حديقته" ؟ قالت : نعم ، وإن شاء زدته ، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل في الخلع ، وعليه جمهور الفقهاء. قال مالك : لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم ، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا ، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها ، ولم تؤت من قبله ، وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق علها ويضرها رد عليها ما أخذ منها. وقال عقبة بن أبي الصهباء : سألت بكر بن عبدالله المزني عن الرجل تريد امرأته أن تخالعه فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت : فأين قول الله عز وجل في كتابه : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ؟ قال : نسخت. قلت : فأين جعلت ؟ قال : في سورة "النساء" : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ (3/139) ________________________________________ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء : 20]. قال النحاس : هذا قول شاذ خارج عن الإجماع لشذوذه ، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى فيقع النسخ. ، لأن قوله {فإن خفتم } الآية ، ليست بمزالة بتلك الآية ، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج. في { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} لأن هذا للرجال خاصة. وقال الطبري : الآية محكمة ، ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم. الخامسة - تمسك بهذه الآية من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر ، وأنه شرط في الخلع ، وعضد هذا بما رواه أبو داود عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر نغضها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكت إليه ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال : "خذ بعض مالها وفارقها". قال : ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال : "نعم". قال : فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "خذهما وفارقها" فأخذهما وفارقها. والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر ، كما دل عليه حديث البخاري وغيره. وأما الآية فلا حجة فيها ، لأن الله عز وجل لم يذكرها على جهة الشرط ، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع ، فخرج القول على الغالب ، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء : 4]. السادس - لما قال الله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} دل على جواز الخلع بأكثرها مما أعطاها. وقد اختلف العلماء في هذا ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور : يجوز أن تفتدى منه بما تراضيا عليه ، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه. وروي (3/140) ________________________________________ هذا عن عثمان بن عفان وابن عمر وقبيصة والنخعي. واحتج قبيصة بقوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . وقال مالك : ليس من مكارم الأخلاق ، ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة ، فكان بينهما كلام ، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "تردين عليه حديقته ويطلقك" ؟ قالت : نعم ، وأزيده. قال : "ردي عليه حديقته وزيديه". وفي حديث ابن عباس : "وإن شاء زدته ولم ينكر". وقالت طائفة : لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، كذلك قال طاوس وعطاء والأوزاعي ، قال الأوزاعي : كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ إلا ما ساق إليها ، وبه قال أحمد وإسحاق. واحتجوا بما رواه ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبدالله بن أبي بن سلول ، وكان أصدقها حديقة فكرته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما الزيادة فلا ولكن حديقته" ، فقالت : نعم. فأخذها له وخلى سبيلها ، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال : قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعه أبو الزبير من غير واحد ، أخرجه الدارقطني. وروي عن عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها". السابعة - الخلع عند مالك رضي الله عنه على ثمرة لم يبد صلاحها وعلى جمل شارد أو عبد آبق أو جنين في بطن أمه أو نحو ذلك من وجوه الغرر جائز ، بخلاف البيوع والنكاح. وله المطالبة بذلك كله ، فإن سلم كان له ، وإن لم يسلم فلا شيء له ، والطلاق نافذ على حكمه. وقال الشافعي : الخلع جائز وله مهر مثلها ، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك قال : لأن عقود المعاوضات إذا تضمنت بدلا فاسدا وفاتت رجع فيها إلى الواجب في أمثالها من البدل. وقال أبو ثور : الخلع باطل. وقال أصحاب الرأي : الخلع جائز ، وله ما في بطن الأمة ، وإن لم يكن فيه ولد فلا شيء له. وقال في "المبسوط" عن ابن القاسم : يجوز بما يثمره نخله العام ، وما تلد غنمه العام خلافا لأبي حنيفة والشافعي ، والحجة لما ذهب إليه (3/141) ________________________________________ مالك وابن القاسم عموم قوله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . ومن جهة القياس أنه مما يملك بالهبة والوصية ، فجاز أن يكون عوضا في الخلع كالمعلوم ، وأيضا فإن الخلع طلاق ، والطلاق يصح بغير عوض أصلا ، فإذا صح على غير شيء فلأن يصح بفاسد العوض أولى ، لأن أسوأ حال المبذول أن يكون كالمسكوت عنه. ولما كان النكاح الذي هو عقد تحليل لا يفسده فاسد العوض فلأن لا يفسد الطلاق الذي هو إتلاف وحل عقد أولى. الثامنة : - ولو اختلعت منه برضاع ابنها منه حولين جاز. وفي الخلع بنفقتها على الابن بعد الحولين مدة معلومة قولان : أحدهما : يجوز ، وهو قول المخزومي ، واختاره سحنون. والثاني : لا يجوز ، رواه ابن القاسم عن مالك ، وإن شرطه الزوج فهو باطل موضوع عن الزوجة. قال أبو عمر : من أجاز الخلع على الجمل الشارد والعبد الآبق ونحو ذلك من الغرر لزمه أن يجوز هذا. وقال غيره من القرويين : لم يمنع مالك الخلع بنفقة ما زاد على الحولين لأجل الغرر ، وإنما منعه لأنه حق يختص بالأب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره ، والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهي الرضاع قد تجب على الأم حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب ، فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأم ، لأنها محل لها. وقد احتج مالك في "المبسوط" على هذا بقوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة : 233]. التاسعة : - فإن وقع الخلع على الوجه المباح بنفقة الابن فمات الصبي قبل انقضاء المدة فهل للزوج الرجوع عليها ببقية النفقة ، فروى ابن المواز عن مالك : لا يتبعها بشيء ، وروى عنه أبو الفرج : يتبعها ، لأنه حق ثبت له في ذمة الزوجة بالخلع فلا يسقط بموت الصبي ، كما لو خالعها بمال متعلق بذمتها ، ووجه الأول أنه لم يشترط لنفسه مالا يتموله ، وإنما اشترط كفاية مؤونة ولده ، فإذا مات الولد لم يكن له الرجوع عليها بشيء ، كما لو تطوع رجل بالإنفاق على صبي سنة فمات الصبي لم يرجع عليه بشيء ، لأنه إنما قصد بتطوعه تحمل مؤونته ، والله أعلم. قال مالك : لم أر أحدا يتبع بمثل هذا ، ولو اتبعه لكان له في ذلك قول. (3/142) ________________________________________ واتفقوا على أنها إن ماتت فنفقة الولد في مالها ، لأنه حق ثبت فيه قبل موتها فلا يسقط بموتها. العاشرة : - ومن اشترط على امرأته في الخلع نفقة حملها وهي لا شيء لها فعليه النفقة إذا لم يكن لها مال تنفق منه ، وإن أيسرت بعد ذلك اتبعها بما أنفق وأخذه منها. قال مالك : ومن الحق أن يكلف الرجل نفقة ولده وإن اشترط على أمه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه. الحادية عشرة : - واختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق أو فسخ ، فروي عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين : هو طلاق ، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة : وأصحابه والشافعي في أحد قوليه. فمن نوى بالخلع تطليقتين أو ثلاثا لزمه ذلك عند مالك. وقال أصحاب الرأي : إن نوى الزوج ثلاثا كان ثلاثا ، وإن نوى اثنتين فهو واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة. وقال الشافعي في أحد قوليه : إن نوى بالخلع طلاقا وسماه فهو طلاق ، وإن لم ينو طلاقا ولا سمى لم تقع فرقة ، قاله في القديم. وقوله الأول أحب إلي. المزني : وهو الأصح عندهم. وقال أبو ثور : إذا لم يسم الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق ، وإن سمى تطليقة فهي تطليقة ، والزوج أملك برجعتها ما دامت في العدة. وممن قال : إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد. واحتجوا بالحديث عن ابن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس "أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله : رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها ؟ قال : نعم لينكحها ، ليس الخلع بطلاق" ، ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع فيما بين ذلك ، فليس الخلع بشيء ثم قال : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة : 229]. ثم قرأ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة : 230]. قالوا : ولأنه لو كان طلاقا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثا ، وكان قوله : {فإن طلقها} بعد ذلك دالا على الطلاق الرابع ، فكان يكون التحريم متعلقا بأربع تطليقات. واحتجوا أيضا بما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3/143) ________________________________________ فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة". قال الترمذي : حديث حسن غريب. وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم " فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة" . قال الترمذي : حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة. قالوا : فهذا يدل على أن الخلع فسخ لا طلاق ، وذلك أن الله تعالى قال : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة : 228] ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قرء واحد. قلت : فمن طلق امرأته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك - كما قال ابن عباس - وإن لم تنكح زوجا غيره ، لأنه ليس له غير تطليقتين والخلع لغو. ومن جعل الخلع طلاقا قال : لم يجز أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره ، لأنه بالخلع كملت الثلاث ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق : كيف يجوز القول في رجل قالت له امرأته : طلقني على مال فطلقها إنه لا يكون طلاقا ، وهو لو جعل أمرها بيدها من غير شيء فطلقت نفسها كان طلاقا!. قال وأما قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فهو معطوف. على قوله تعالى : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } ، لأن قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} إنما يعني به أو تطليق. فلو كان الخلع معطوفا على التطليقتين لكان لا يجوز الخلع أصلا إلا بعد تطليقتين وهذا لا يقوله أحد. وقال غيره : ما تأولوه في الآية غلط فإن قوله : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع ، وأثبت معهما الرجعة بقوله : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع فعاد الخلع إلى الثنتين المتقدم ذكرهما ، إذ المراد بذلك بيان الطلاق المطلق والطلاق بعوض ، والطلاق الثالث بعوض كان أو بغير عوض فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج. قلت : هذا الجواب عن الآية ، وأما الحديث فقال أبو داود - لما ذكر حديث ابن عباس في الحيضة : هذا الحديث رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وحدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال : عدة المختلعة عدة المطلقة. قال أبو داود : والعمل عندنا على هذا. (3/144) ________________________________________ قلت : وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأهل الكوفة. قال الترمذي : وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قلت : وحديث ابن عباس في الحيضة مع غرابته كما ذكر الترمذي ، وإرساله كما ذكر أبو داود فقد قيل فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضة ونصفا ، أخرجه الدارقطني من حديث معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس : أ ن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها "فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ونصفا". والراوي عن معمر هنا في الحيضة والنصف هو الراوي عنه في الحيضة الواحدة ، وهو هشام بن يوسف أبو عبدالرحمن الصنعاني اليماني : خرج له البخاري وحده فالحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن ، فسقط الاحتجاج به في أن الخلع فسخ ، وفي أن عدة المطلقة حيضة ، وبقي قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} نصا في كل مطلقة مدخول بها إلا ما خص منها كما تقدم. قال الترمذي : "وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : عدة المختلعة حيضة ، قال إسحاق : وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوي" قال ابن المنذر : قال عثمان بن عفان وابن عمر : "عدتها حيضة" ، وبه قال أبان بن عثمان وإسحاق. وقال علي بن أبي طالب : "عدتها عدة المطلقة" ، وبقول عثمان وابن عمر أقول ، ولا يثبت حديث علي. قلت : قد ذكرنا عن ابن عمر أنه قال : "عدة المختلعة عدة المطلقة" ، وهو صحيح. الثانية عشرة : - واختلف قول مالك فيمن قصد إيقاع الخلع على غير عوض ، فقال عبدالوهاب : هو خلع عند مالك ، وكان الطلاق بائنا. وقيل عنه : لا يكون بائنا إلا بوجود العوض ، قاله أشهب والشافعي ، لأنه طلاق عري عن عوض واستيفاء عدد فكان رجعيا كما لو كان بلفظ الطلاق قال ابن عبدالبر : وهذا أصح قوليه عندي وعند أهل العلم في النظر. ووجه الأول أن عدم حصول العوض في الخلع لا يخرجه عن مقتضاه ، أصل ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير. الثالثة عشرة : - المختلعة هي التي تختلع من كل الذي لها. والمفتدية أن تفتدي ببعضه وتأخذ بعضه. والمبارئة هي التي بارأت زوجها من قبل أن يدخل بها فتقول : قد أبرأتك (3/145) ________________________________________ فبارئني ، هذا هو قول مالك. وروى عيسى بن دينار عن مالك : المبارئة هي التي لا تأخذ شيئا ولا تعطي ، والمختلعة هي التي تعطي ما أعطاها وتزيد من مالها ، والمفتدية هي التي تفتدي ببعض ما أعطاها وتمسك بعضه ، وهذا كله يكون قبل الدخول وبعده ، فما كان قبل الدخول فلا عدة فيه ، والمصالحة مثل المبارئة. قال القاضي أبو محمد وغيره : هذه الألفاظ الأربعة تعود إلى معنى واحد وإن اختلفت صفاتها من جهة الإيقاع ، وهي طلقة بائنة سماها أو لم يسمها ، لا رجعة له في العدة ، وله نكاحها في العدة. وبعدها برضاها بولي وصداق وقبل زوج وبعده ، خلافا لأبي ثور ، لأنها إنما أعطته العوض لتملك نفسها ، ولو كان طلاق الخلع رجعيا لن تملك نفسها ، فكان يجتمع للزوج العوض والمعوض عنه. الرابعة عشرة - : وهذا مع إطلاق العقد نافذ ، فلو بذلت له العوض وشرط الرجعة ، ففيها روايتان رواهما ابن وهب عن مالك : إحداهما ثبوتها ، وبها قال سحنون. والأخرى نفيها. قال سحنون : وجه الرواية الأولى أنهما قد اتفقا على أن يكون العوض في مقابلة ما يسقط من عدد الطلاق ، وهذا جائز. ووجه الرواية الثانية أنه شرط في العقد ما يمنع المقصود منه فلم يثبت ذلك ، كما لو شرط في عقد النكاح : أني لا أطأها. الخامسة عشرة : - قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} لما بين تعالى أحكام النكاح والفراق قال : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} التي أمرت بامتثالها ، كما بين تحريمات الصوم في آية أخرى فقال : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا } [البقرة : 187] فقسم الحدود قسمين ، منها حدود الأمر بالامتثال ، وحدود النهي بالاجتناب ، ثم أخبر تعالى فقال : {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. الآية : 230 { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3/146) ________________________________________ قولة تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى - احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق ، قالوا : فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق ، لأن الفاء حرف تعقيب ، فيبعد أن يرجع إلى قوله : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا} على قوله {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة ، كما أن قوله تعالى : {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء : 23] فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء. وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة ، فقالت طائفة : إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة ، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو "أن الطلاق لا يلزمها" ، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال : إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه ، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء ، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا ، وكذلك إذا اتصل. الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء ، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام. الثانية : المراد بقوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} . وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه. واختلفوا فيما يكفي من النكاح ، وما الذي يبيح التحليل ، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه : مجرد العقد كاف. وقال الحسن بن أبي الحسن : لا يكفي مجرد الوطء حتى (3/147) ________________________________________ يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك ، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل ، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي : ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها ، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها ؟ فإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال ، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر : ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء ، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال : أما الناس فيقولون : لا تحل ، للأول حتى يجامعها الثاني ، وأنا أقول : إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج ، والسنة مستغنى بها عما سواها. قلت : وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير ، ذكره النحاس في كتاب "معاني القرآن" له. قال : وأهل العلم على أن النكاح ههنا الجماع ، لأنه قال : { زَوْجاً غَيْرَهُ} فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع ، إلا سعيد بن جبير فإنه قال : النكاح ههنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها. قلت : وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه". قال بعض علماء الحنفية : من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه ، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا : ويفهم من قوله عليه السلام : "حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه" استواؤهما في إدراك لذة الجماع ، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها. (3/148) ________________________________________ الثالثة : - روى النسائي عن عبدالله قال : "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له". وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال : "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له". وقال : هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهم ، وهو قول الفقهاء من التابعين ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا ، وقال : ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. وقال سفيان : إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يتزوجها بنكاح جديد. قال أبو عمر بن عبدالبر : اختلف العلماء في نكاح المحلل ، فقال مالك ، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا ، فإن أصابها فلها مهر مثلها ، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول ، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها ، ولا يقر على نكاحه ويفسخ ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وفيه قول ثان روي عن الثوري في نكاح الحيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل ، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة. وروي عن الأوزاعي في نكاح المحلل : بئس ما صنع والنكاح جائز. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : النكاح جائز إن دخل بها ، وله أن يمسكها إن شاء. وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه : لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها ، ومرة قالوا : تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح ، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث - قال الشافعي : إذا قال أتزوجك لأحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة ، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا. فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم : أحدهما (3/149) ________________________________________ مثل قول مالك ، والآخر مثل قول أبي حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط ، وهو قول داود. قلت : وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول ، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول ، قال : وهو قول الشافعي. وقال الحسن وإبراهيم : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح ، وهذا تشديد. وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور ، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد ، وقاله داود بن علي لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد. الرابعة : - مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح ، وسواء شرط ذلك أو نواه ، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه ، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها. وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء. وقد قيل : إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها ، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها ، ولا يقصد به التحليل ، ويكون وطؤه لها وطأ مباحا : لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها ، ويكون الزوج بالغا مسلما. وقال الشافعي : إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة ، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه ، وسواء أدخله بيده أم بيدها ، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي ، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة ، وهذا كله - على ما وصف الشافعي - قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك. الخامسة : - قال ابن حبيب : وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها ، وإلا كان قد احتسب في تحليلها الأجر لم يجز ، لما خالط نكاحه من نية التحليل ، ولا تحل بذلك للأول. السادسة : . - وطء السيد لأمته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها ، إذ ليس بزوج ، روي عن علي بن أبي طالب ، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبي سليمان وأبي الزناد ، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. ويروى عن (3/150) ________________________________________ عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك ، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق. والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح. السابعة : - في موطأ مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين ؟ فقالا : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. الثامنة : - روي عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة ، فقال : تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها ، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره. قال أبو عمر : وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون : "إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين" ، على عموم قوله عز وجل : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء : 3]. قال أبو عمر : وهذا خطأ من القول ، لأن قوله عز وجل : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لا يبيح الأمهات ولا الأخوات ، فكذلك سائر المحرمات. التاسعة : - إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها ، فقالت طائفة : الذمي زوج لها ، ولها أن ترجع إلى الأول ، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر : وكذلك نقول ، لأن الله تعالى قال : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والنصراني زوج. وقال مالك وربيعة : لا يحلها. العاشرة : - النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور. مالك والثوري. والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ، كلهم يقولون : لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح ، وكان الحكم يقول : هو زوج. قال ابن المنذر : ليس بزوج ، (3/151) ________________________________________ لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول : قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول. قال الشافعي : والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته. الحادية عشرة : - جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله : "لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما". وقال ابن عمر : التحليل سفاح ، ولا يزالون زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر : لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة ، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه. قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يريد الزوج الثاني. {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه. قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول ، فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها ، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص ، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو "أن النكاح جديد والطلاق جديد" ، هذا قول ابن عمر وابن عباس ، (3/152) ________________________________________ وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أصحاب عبدالله يقولون : أيهدم الزوج الثلاث ، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال : وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبدالله كانوا يقولون : يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث ، إلا عبيدة فإنه قال : هي على ما بقي من طلاقها ، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو : إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد ، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي ، هذا قول إبراهيم النخغي. قوله تعالى : {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} شرط. قال طاوس : إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه. وقيل : حدود الله فرائضه ، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني ، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها ، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين ، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج ، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره ، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك ، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب ، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد ، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها ، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال : "دلستم علي".
(3/153)
| |
|