فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 21 يوليو - 14:17 | |
| وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات أي الحروف وأطول الكلم في كتاب الله عز وجل ما بلغ عشرة أحرف نحو قوله تعالى : {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} و { أَنُلْزِمُكُمُوهَا} وشبههما ؛ فأما قوله : {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فهو عشرة أحرف في الرسم وأحد عشر في اللفظ وأقصرهن ما كان على حرفين نحو ما ولا ولك وله وما أشبه ذلك ومن حروف المعاني ما هو على كلمة واحدة مثل همزة الاستفهام وواو العطف إلا أنه لا ينطق به مفردا وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى : {وَالْفَجْرِ} {وَالضُّحَى} {وَالْعَصْرِ} وكذلك {الم} و {المص} و {طه} و {يس} و {حم} في قول الكوفيين وذلك في فواتح السور فأما في حشوهن فلا. قال أبو عمرو الداني : ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله : في الرحمن {مُدْهَامَّتَانِ} لا غير. وقد أتت كلمتان متصلتان وهما آيتان وذلك في قوله : {حم عسق} على قول الكوفيين لا غير. وقد تكون الكلمة في غير هذا الآية التامة والكلام القائم بنفسه وإن كان أكثر أو أقل قال عز وجل : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} قيل : إنما يعني بالكلمة ها هنا قوله تبارك وتعالى : {نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} . إلى آخر الآيتين وقال عز وجل : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال مجاهد : لا إله إلا الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" . وقد تسمي العرب القصيدة بأسرها والقصة كلها كلمة فيقولون قال قس في كلمته كذا أي في خطبته وقال زهير : في كلمته كذا أي في قصيدته وقال فلان في كلمته يعني في رسالته فتسمي جملة الكلام كلمة إذ كانت الكلمة منها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان بسبب منه مجازا واتساعا. وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع والمجاز قال أبو عمرو الداني : فإن قيل فكيف يسمى ما جاء من(1/67) حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد نحو ص و ق و ن حرفا أو كلمة ؟ قلت : كلمة لا حرفا وذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه ولا ينفرد وحده في الصورة ولا ينفصل مما يختلط به وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها فلذلك سميت كلمات لا حروفا قال أبو عمرو : وقد يكون الحرف في غير هذا المذهب والوجه. قال الله عز وجل : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي على وجه ومذهب ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي سبعة أوجه من اللغات والله أعلم. باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أولا لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط واختلفوا هل وقع فيه غير أعلام مفردة من غير كلام العرب فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه وأن القرآن عربي صريح وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم وذهب بعضهم إلى وجودها فيه وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا ولا رسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه فالمشكاة الكوة ونشأ قام من الليل ومنه {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} و {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين. {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي الأسد كله بلسان الحبشة والغساق البارد المنتن بلسان الترك والقسطاس الميزان بلغة الروم والسجيل الحجارة والطين بلسان الفرس والطور الجبل واليم البحر بالسريانية والتنور وجه الأرض بالعجمية قال ابن عطية : فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام ، (1/68) وكسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرى مجرى العربي الصحيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره كما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك قال ابن عطية : وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا. قال غيره : والأول أصح وقوله هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم ليس بأولى من العكس فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أولا فإن كان الأول فهي من كلامهم إذ لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة. فإن قيل : ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه قلنا ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم والله أعلم. باب ذكر نكت في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها المعجزة واحدة معجزات الأنبياء الدالة على صدقهم صلوات الله عليهم وسميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها وشرائطها خمسة فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة.(1/69) فالشرط الأول من شروطها أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه لو أتى آت في زمان يصح فيه مجيء الرسل وادعى الرسالة وجعل معجزته أن يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد لم يكن هذا الذي ادعاه معجزة له ولا دالا على صدقه لقدرة الخلق على مثله وإنما يجب أن تكون المعجزات كفلق البحر وانشقاق القمر وما شاكلها مما لا يقدر عليها البشر. والشرط الثاني هو أن تخرق العادة وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعي للرسالة آيتي مجيء الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها لم يكن فيما ادعاه معجزة لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلا الله فلم تفعل من أجله وقد كان قبل دعواه على ما هي عليه في حين دعواه ودعواه في دلالتها على نبوته كدعوى غيره فبان أنه لا وجه له يدل على صدقه والذي يستشهد به الرسول عليه السلام له وجه يدل على صدقه وذلك أن يقول الدليل على صدقي أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواي على الرسالة فيقلب هذه العصا ثعبانا ويشق الحجر ويخرج من وسطه ناقة أو ينبع الماء من بين أصابعي كما ينبعه من العين أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادات التي ينفرد بها جبار الأرض والسموات فتقوم له هذه العلامات مقام قول الرب سبحانه لو أسمعنا كلامه العزيز وقال صدق أنا بعثته ومثال هذه المسألة ولله ولرسوله المثل الأعلى ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض وقال أحد رجاله وهو بمرأى منه والملك يسمعه الملك يأمركم أيها الجماعة بكذا وكذا ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل من أفعاله وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي فإذا سمع الملك كلامه لهم ودعواه فيهم ثم عمل ما استشهد به على صدقه قام ذلك مقام قوله لو قال صدق فيما ادعاه علي فكذلك إذا عمل الله عملا لا يقدر عليه إلا هو وخرق به العادة على يد الرسول قام ذلك الفعل مقام كلامه تعالى لو أسمعناه وقال صدق عبدي في دعوة الرسالة وأنا أرسلته إليكم فاسمعوا له وأطيعوا.(1/70) والشرط الثالث هو أن يستشهد بها مدعي الرسالة على الله عز وجل فيقول آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا أو يحرك الأرض عند قولي لها تزلزلي فإذا فعل الله سبحانه ذلك حصل المتحدى به. الشرط الرابع هو أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعي للرسالة : آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدي أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت كذب وليس هو نبي فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي للرسالة لأن ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب لعنه الله تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء فما فعل الله سبحانه من هذا كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه لأنها وقعت على خلاف ما أراده المتنبئ الكذاب. والشرط الخامس من شروط المعجزة ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة فإن تم الأمر المتحدى به المستشهد به على النبوة على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة فهي معجزة دالة على نبوة من ظهرت على يده فإن أقام الله تعالى من يعارضه حتى يأتي بمثل ما أتى به يعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيا وخرج عن كونه معجزا ولم يدل على صدقه ولهذا قال المولى سبحانه : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} وقال : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} كأنه يقول : إن ادعيتم أن هذا القرآن من نظم محمد صلى الله عليه وسلم وعمله فاعملوا عشر سور من جنس نظمه فإذا عجزتم بأسركم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من نظمه ولا من عمله لا يقال إن المعجزات المقيدة بالشروط الخمسة لا تظهر إلا على أيدي الصادقين وهذا المسيح الدجال فيما رويتم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم يظهر على يديه من الآيات العظام والأمور الجسام ما هو معروف مشهور فإنا نقول ذلك يدعي الرسالة وهذا يدعي الربوبية وبينهما من الفرقان ما بين البصراء والعميان وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق(1/71) إلى بعض غير ممتنعة ولا مستحيلة فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة. ودلت الأدلة العقلية أيضا على أن المسيح الدجال فيه التصوير والتغيير من حال إلى حال وثبت أن هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات تعالى رب البريات عن أن يشبه شيئا أو يشبه شيء ليس كمثله شيء هو السميع البصير. فصل- إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين : الأول- ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلى الله عليه وسلم والثاني- ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله واستفاضت بثبوته ووجوده ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب وهذه صفة نقل القرآن ونقل وجود النبي عليه الصلاة والسلام لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة وصدقه بالأدلة والمعجزات والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلوه ويسمعونه لكثرة العدد ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد صلى الله عليه وسلم ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان كالبصرة والشام والعراق وخرسان والمدينة ومكة وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة فالقرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه أو دخلها التبديل والتغيير كالتوراة والإنجيل.(1/72) ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة : منها : النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال : يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : {حم} فصلت على ما يأتي بيانه هنالك. فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه. ومنها : الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب. ومنها : الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال وتأمل ذلك في سورة { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلى آخرها وقوله سبحانه : {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى آخر السورة وكذلك قوله سبحانه : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة. قال ابن الحصار : فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ولا أن يقول ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء قال ابن الحصار : وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة بل هي لازمة كل آية وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدي والتعجيز ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة ، من غير أن(1/73) ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار وهي أقصر صورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين أحدهما : الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله. ومنها : التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه. ومنها : الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه قال القاضي ابن الطيب : ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى المتعلم منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ومنها : الوفاء بالوعد ، المدرك بالحس في العيان في كل ما وعد الله سبحانه وينقسم إلى أخباره المطلقة كوعده بنصر رسوله عليه السلام وإخراج الذين أخرجوه من وطنه وإلى وعد مقيد بشرط كقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} { َومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} و{ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وشبه ذلك. ومنها : الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك : (1/74) ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي الله عنه : إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح وكان عمر يفعل ذلك فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وقال : {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين أو من أوقفه عليها رب العالمين فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه. ومنها : ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام. ومنها : الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي. ومنها : التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف قال الله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . قلت : فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم ، ووجه حادي عشر قاله النظام وبعض القدرية أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرفة عند التحدي بمثله وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن وذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله وهذا فاسد لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا وذلك خلاف الإجماع وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة(1/75) على قولين : أحدهما- أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه الثاني- أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. قال ابن عطية : وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النظر يبطل قول من قال إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ويظهر لك قصور البشر أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر والبدل وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره ذكر في آية واحدة أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وهو قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء ونهي عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن حكمته وقدرته وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وأنبأ سبحانه عن الموت وحسرة الفوت والدار الآخرة وثوابها وعقابها وفوز الفائزين وتردي المجرمين والتحذير من الاغترار بالدنيا ووصفها بالقلة بالإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وأنبا أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين وعواقب المهلكين في شطر آية وذلك في قوله تعالى : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ(1/76) مَنْ أَغْرَقْنَا} وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عز وجل : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} إلى قوله تعالى : { َقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى غير ذلك. فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي صلى الله عليه وسلم تقوله أنزل الله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل ذكره : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثروا سبي الحريم والأولاد ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن. فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان وأرفع درجات الإيجاز والبيان بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم واختص به من غرائب الحكم إذا تأملت قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان وجدته منحطا عن رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام : " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . فأين ذلك من قوله عز وجل : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} وقوله : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . هذا أعدل وزنا وأحسن تركيبا وأعذب لفظا وأقل حروفا على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف وضاق المقال عن القاصر المتكلف وبهذا قامت الحجة على العرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء ومعجزة موسى(1/77) عليه السلام على السحرة ؛ فإن الله سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره ؛ فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. باب التنبيه عن أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن وغير ذلك من فضائل الأعمال قد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم ومقاصدهم في ارتكابها فمن قوم من الزنادقة مثل المغيرة بن سعيد الكوفي ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة وغيرهما وضعوا أحاديث وحدثوا بها ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس فمما رواه محمد بن سعيد عن أنس بن مالك في قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي إلا ما شاء الله" . فزاد هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة. قلت : وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب التمهيد ولم يتكلم عليه بل تأول الاستثناء على الرؤيا فالله أعلم. ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوى يدعون الناس إليه قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب إن هذه الأحاديث دين فانظروا ممن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا. ومنهم جماعة الحديث حسبة كما زعموا يدعون الناس إلى فضائل الأعمال كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي ومحمد بن عكاشة الكرماني وأحمد بن عبد الله الجويباري وغيرهم قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة قال أبو عمرو عثمان بن(1/78) الصلاح في كتاب علوم الحديث له : وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه وإن أثر الوضع عليه لبين وقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم. ومنهم : قوم من السؤال والمكدين يقفون في الأسواق والمساجد فيضعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد قال جعفر بن محمد الطيالسي صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فقام بين أيديهما قاص فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا أنبأنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه مرجان" وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال أنت حدثته بهذا فقال والله ما سمعت به إلا هذه الساعة قال فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه فقال له يحيى من حدثك بهذا الحديث فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فقال أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا فقال له : أنت يحيى بن معين قال نعم قال لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق وما علمته إلا هذه الساعة فقال له يحيى : وكيف علمت أني أحمق قال كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا قال فوضع أحمد كمه على وجهه وقال دعه يقوم فقام كالمستهزئ بهما فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجري مجراهم يذكر أن الرشيد كان يعجبه الحمام واللهو به فأهدي إليه حمام وعنده أبو البختري(1/79) القاضي فقال روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح" فزاد أو جناح وهي لفظة وضعها للرشيد فأعطاه جائزة سنية فلما خرج قال الرشيد والله لقد علمت أنه كذاب وأمر بالحمام أن يذبح فقيل له وما ذنب الحمام قال من أجله كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته فلا يكتب العلماء حديثه بحال قلت فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من المصنفات التي تداولها العلماء ورواها الأئمة الفقهاء لكان لهم في ذلك غنية وخرجوا عن تحذيره صلى الله عليه وسلم حيث قال : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" . الحديث فتخويفه صلى الله عليه وسلم أمته بالنار على الكذب دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه فحذار مما وضعه أعداء الدين وزنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك وأعظمهم ضررا أقوام من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم فضلوا وأضلوا . باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له على نحو ما تقدم وأنه محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف معلومة على الاضطرار سوره وآياته مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته فلا يحتاج في تعريفه بحد ولا في حصره بعد فمن ادعى زيادة عليه أو نقصانا منه فقد أبطل الإجماع وبهت الناس ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه ورد قوله تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وأبطل آية رسوله(1/80) عليه السلام لأنه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية وخرج عن أن يكون معجزا فالقائل بأن القرآن فيه زيادة ونقصان راد لكتاب الله ولما جاء به الرسول وكان كمن قال : الصلوات المفروضات خمسون صلاة وتزوج تسع من النساء حلال وفرض الله أياما مع شهر رمضان إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين فإذا رد هذا الإجماع كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد وألزم وأوجب قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلو منزلته ما يوجبه الحق والإنصات والديانة وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين حتى نبع في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها ويثبت أسسها وينمي فرعها ويحرسها من معايب أولي الجنف والجور ومكايد أهل العداوة والكفر فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيتها فمنها والعصر ونوائب الدهر فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين ونوائب الدهر ومنها حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها فادعى هذا الإنسان أنه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وذكر مما يدعى حروفا كثيرة وادعى أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم زادوا في القرآن ما ليس فيه فقرأ في صلاة الفرض والناس يسمعون (الله الواحد الصمد) فأسقط من القرآن (قل هو) وغير لفظ(1/81) أحد وادّعى أن هذا هو الصواب والذي عليه الناس هو الباطل والمحال وقرأ في صلاة الفرض قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون وطعن في قراءة المسلمين. وادعى أن المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيرة منها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فادعى أن الحكمة والعزة لا يشاكلان المغفرة وأن الصواب وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم وترامى به الغي في هذا وأشكاله حتى ادعى أن المسلمين يصحفون {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} والصواب الذي لم يغير عنده وكان عبدا لله وجيها وحتى قرأ في صلاة مفترضة على ما أخبرنا جماعة سمعوه وشهدوه لا تحرك به لسانك إن علينا جمعه وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به وحكى لنا آخرون عن آخرين أنهم سمعوه يقرأ ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة وروى هؤلاء أيضا لنا عنه قال هذا صراط علي مستقيم وأخبرونا أنه أدخل في آية من القرآن ما لا يضاهي فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل في لسان قومه الذين قال الله عز وجل فيهم : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فقرأ أليس قلت للناس في موضع أأنت قلت للناس وهذا لا يعرف في نحو المعربين ولا يحمل على مذاهب النحويين لأن العرب لم تقل ليس قمت فأما لست قمت بالتاء فشاذ قبيح خبيث رديء لأن ليس لا تجحد الفعل الماضي ولم يوجد مثل هذا إلا في قولهم أليس قد خلق الله مثلهم وهو لغة شاذة لا يحمل كتاب الله عليها وادعى أن عثمان رضي الله عنه لما أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب لأن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب كانا أولى بذلك من زيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أقرأ أمتي أبي بن كعب" . ولقوله عليه السلام : " من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد" . وقال هذا القائل لي أن أخالف مصحف عثمان كما خالفه أبو عمرو بن العلا فقرأ إن هذين فأصدق وأكون وبشر عبادي الذين بفتح الياء فما أتاني الله بفتح الياء والذي في المصحف { ِإنْ هَذَانِ} بالألف(1/82) { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بغير واو { فَبَشِّرْ عِبَادِ} { فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} بغير ياءين في الموضعين وكما خالف ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي مصحف عثمان فقرءوا {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} بإثبات نونين يفتح الثانية بعضهم ويسكنها بعضهم وفي المصحف نون واحدة وكما خالف حمزة المصحف فقرأ أتمدون بمال بنون واحدة ووقف على الياء وفي المصحف نونان ولا ياء بعدهما وكما خالف حمزة أيضا المصحف فقرأ ألا إن ثمودا كفروا ربهم بغير تنوين وإثبات الألف يوجب التنوين وكل هذا الذي شنع به على القراء ما يلزمهم به خلاف للمصحف قلت قد أشرنا إلى العد فيما تقدم مما اختلف فيه المصاحف وسيأتي بيان هذه المواضع في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى قال أبو بكر : وذكر هذا الإنسان أن أبي بن كعب هو الذي قرأ كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وذلك باطل لأن عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد ومجاهد قرأ على ابن عباس وابن عباس قرأ القرآن على أبي بن كعب {حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ} في رواية وقرأ أبي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الإسناد متصل بالرسول عليه السلام نقله أهل العدالة والصيانة وإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه وقال يحيى بن المبارك اليزيدي : قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء وقرأ أبو عمرو على مجاهد وقرأ مجاهد على ابن عباس وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيه عليه السلام فليس بكافر ولا آثم حدثني أبي نبأنا نصر بن داود الصاغاني نبأنا أبو عبيد قال : ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الذي عليه الإجماع من الحروف التي يعرف أسانيدها الخاصة دون العامة فيما نقلوا فيه عن أبي وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ؛ وعن ابن عباس : " ليس(1/83) عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ". ومما يحكون عن عمر بن الخطاب أنه قرأ : " غير المغضوب عليهم وغير الضالين ". مع نظائر لهذه الحروف كثيرة لم ينقلها أهل العلم على أن الصلاة بها تحل ولا على أنها معارض بها مصحف عثمان لأنها حروف لو جحدها جاحد أنها من القرآن لم يكن كافرا والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له لو أنكر بعضه منكر كان كافرا حكمه حكم المرتد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وقال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان رضي الله عنه في جمعه القرآن يعتد له بأنه من مناقبه العظام وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ فانكشف عوراه ووضحت فضائحه قال أبو عبيد : وقد حدثت عن يزيد بن زريع عن عمران بن جرير عن أبي مجلز قال : طعن قوم على عثمان رحمه الله بحمقهم جمع القرآن ثم قرءوا بما نسخ قال أبو عبيد : يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم كما أثبت الذي أثبت بعلم قال أبو بكر : وفي قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} دلالة على كفر هذا الإنسان لأن الله عز وجل قد حفظ القرآن من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان فإذا قرأ قاريء : " تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف " فقد كذب على الله جل وعلا وقوله ما لم يقل وبدل كتابه وحرفه وحاول ما قد حفظه منه ومنع من اختلاطه به وفي هذا الذي أتاه توطئة الطريق لأهل الإلحاد ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرا الإسلام وينسبونه إلى قوم كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام وبثباته تقام الصلوات وتؤدى الزكوات وتتحرى المتعبدات وفي قول الله تعالى : {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . دلالة على بدعة هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر لأن معنى أحكمت آياته منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها أو ينقصوا منها أو يعارضوها بمثلها وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها : وكفى الله المؤمنين القتال بعلي وكان الله قويا عزيزا. فقال في القرآن هجرا وذكر عليا في مكان لو سمعه يذكره فيه لأمضى عليه الحد وحكم عليه بالقتل وأسقط من كلام الله(1/84) " قل هو " وغير" أحد " فقرأ : الله الواحد الصمد وإسقاط ما أسقط نفي له وكفر ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله وأبطل معنى الآية ؛ لأن أهل التفسير قالوا : نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك أمن ذهب أم من نحاس أم من صفر فقال الله جل وعز ردا عليهم : " قل هو الله أحد " ففي هو دلالة على موضع الرد ومكان الجواب فإذا سقط بطل معنى الآية ووضح الافتراء على الله عز وجل والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لهذا الإنسان : ومن ينتحل نصرته أخبرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا من كان قبلنا من أسلافنا سواه هل هو مشتمل على جميع القرآن من أوله إلى آخره صحيح الألفاظ والمعاني عار على الفساد والخلل أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين من أهل ملتنا فإن أجابوا بأن القرآن الذي معنا مشتمل على جميع القرآن لا يسقط منه شيء صحيح اللفظ والمعاني سليمها من كل زلل وخلل فقد قضوا على أنفسهم بالكفر حين زادوا فيه فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم فأي زيادة في القرآن أوضح من هذه وكيف تخلط بالقرآن وقد حرسه الله منها ومنع كل مفتر ومبطل من أن يلحق به مثلها وإذا تؤملت وبحث عن معناها وجدت فاسدة غير صحيحة لا تشاكل كلام الباريء تعالى ولا تخلط به ولاتوافق معناه وذلك أن بعدها لا يأكله إلا الخاطئون فكيف يؤكل الشراب والذي أتى به قبلها فليس له اليوم ها هنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم {لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} فهذا متناقض يفسد بعضه بعضا لأن الشراب لا يؤكل ولا تقول العرب : أكلت الماء لكنهم يقولون شربته وذقته وطعمته ومعناه فيما أنزل الله تبارك وتعالى على الصحة في القرآن الذي من خالف حرفا منه كفر ولا طعام إلا من غسلين لا يأكل الغسلين إلا الخاطئون أو لا يأكل الطعام إلا الخاطئون والغسلين : ما يخرج من أجوافهم من الشحم وما يتعلق به من الصديد وغيره فهذا طعام يؤكل عند البلية والنقمة والشراب محال أن(1/85) يؤكل. فإن ادعى هذا الإنسان أن هذا الباطل الذي زاده من قوله من عين تجري من تحت الجحيم ليس بعدها لا يأكله إلا الخاطئون ونفي هذه الآية من القرآن لتصح له زيادته فقد كفر لما جحد آية من القرآن وحسبك بهذا كله ردا لقوله وخزيا لمقاله وما يؤثر عن الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بكذا وكذا إنما ذلك على جهة البيان والتفسير لا أن ذلك قرآنا يتلى وكذلك ما نسخ لفظه وحكمه أو لفظه دون حكمه ليس بقرآن على ما يأتي بيانه عند قوله تعالى ما ننسخ من آية إن شاء الله تعالى.(1/86) | |
|