المجلد الثامنتابع سورة الأنفال
الآية : 38 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {مَا لَكُمْ}{مَا}حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ التقدير : أي شيء يمنعكم عن كذا كما تقول : مالك عن فلان معرضا. ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا على تتخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، وسيأتي ذكرها في آخر السورة إن شاء الله. والنفر : هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال في ابن آدم : نفر إلى الأم يفر نفورا. وقوم نفور ، ومنه قوله تعالى : {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء : 46]. ويقال في الدابة : نفرت تنفر - بضم الفاء وكسرها - نفارا ونفورا. يقال : في الدابة نفار ، وهو اسم مثل الحران. ونفر الحاج من منى نفرا.
الثانية : قوله تعالى : {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} قال المفسرون : معناه أثاقلتم إلى نعيم الأرض ، أو إلى الإقامة بالأرض. وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج ، وهو نحو من أخلد إلى الأرض. وأصله تثاقلتم ، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها ، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن ، ومثله {ادَّارَكُوا} [الأعراف : 38] و{ادَّارَأْتُمْ} [البقرة : 72] و{اطَّيَّرْنَا} [النمل : 47] و{وَازَّيَّنَتْ} [يونس : 24]. وأنشد الكسائي :
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا ... عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
(8/140)
وقرأ الأعمش {تَثَاقَلْتُمْ} على الأصل. حكاه المهدوي. وكانت تبوك - ودعا الناس إليها - في حرارة القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال - كما جاء في الحديث الصحيح على ما يأتي - فاستولى على الناس الكسل فتقاعدوا وتثاقلوا فوبخهم الله بقوله هذا وعاب عليهم الإيثار للدنيا على الآخرة. ومعنى : {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أي بدلا ، التقدير : أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة فـ{مِنَ} تتضمن معنى البدل ، كقوله تعالى : {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف : 60] أي بدلا منكم. وقال الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طَهيان
ويروى من ماء حمنان. أراد : ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة مبردة. والطهيان : عود ينصب في ناحية الدار للهواء ، يعلق عليه الماء حتى يبرد. عاتبهم الله على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة ، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد طافت راكبة : " أجْرُك على قدر نَصَبِك" . خرجه البخاري.
الآية : 39 {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
فيه مسألة واحدة :
قوله تعالى : {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} {إِلاّ تَنْفِرُوا} شرط ، فلذلك حذفت منه النون. والجواب {يُعَذِّبْكُمْ} ، {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وهذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير. قال ابن العربي : ومن محققات الأصول أن الأمر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل. فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الأمر ولا يقتضيه
(8/141)
الاقتضاء ، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه ، كقوله : إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا ، كما ورد في هذه الآية. فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا. وروى أبو داود عن ابن عباس قال : {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ - إلى قوله - يَعْمَلُونَ} [التوبة : 120] نسختها الآية التي تليها : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة : 122]. وهو قول الضحاك والحسن وعكرمة. {يُعَذِّبْكُمْ} قال ابن عباس : هو حبس المطر عنهم. قال ابن العربي : فإن صح ذلك عنه فهو أعلم من أين قال ، وإلا فالعذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة.
قلت : قول ابن عباس خرجه الإمام أبو داود في سننه عن ابن نفيع قال : سألت ابن عباس عن هذه الآية {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قال : فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم. وذكره الإمام أبو محمد بن عطية مرفوعا عن ابن عباس قال : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت ، فأمسك الله عنهم المطر وعذبها به. و{أَلِيماً} بمعنى مؤلم ، أي موجع. وقد تقدم. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} توعد بأن يبدل لرسوله قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم. قيل : أبناء فارس. وقيل : أهل اليمن. {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} عطف. والهاء قيل لله تعالى ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم. والتثاقل عن الجهاد مع إظهار الكراهة حرام على كل أحد. فأما من غير كراهة فمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليه التثاقل وإن أمن منهما فالفرض فرض كفاية ، ذكره القشيري. وقد قيل : إن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم. وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء ، لأنه متعين. وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستنفار يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام. والله أعلم.
(8/142)
الآية : 40 {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
فيه إحدى عشرة مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {إِلاّ تَنْصُرُوهُ} يقول : تعينوه بالنفر معه في غزوة تبول. عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك. قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة [براءة] والمعنى : إن تركتم نصره فالله يتكفل به ، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة. وقيل : فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه ، وبوفاته ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد : ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عيينة. خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : {إِلاّ تَنْصُرُوهُ} .
الثانية : قوله تعالى : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهو خرج بنفسه فارا ، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله ، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم ، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه ، لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف.
الثالثة : قوله تعالى : {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة ، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة. وهو منصوب على الحال ، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر. والعامل فيها "نصره الله" أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين. وقال علي بن سليمان : التقدير فخرج ثاني اثنين ، مثل {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح : 17]. وقرأ جمهور الناس
(8/143)
{ثَانِيَ} بنصب الياء. قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا. وقرأت فرقة {ثانِي} بسكون الياء. قال ابن جني : حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف. قال ابن عطية : فهي كقراءة الحسن {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} وكقول جرير :
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
الرابعة : قوله تعالى : {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} الغار : ثقب في الجبل ، يعني غار ثور. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا : هذا شر شاغل لا يطاق ، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره ، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم ، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعملوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة ، فدفعا راحلتيهما إلى عبدالله بن أرقط. ويقال ابن أريقط ، وكان كافرا لكنهما وثقا به ، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور ، وأمر أبو بكر ابنه عبدالله أن يستمع ما يقول الناس ، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبدالله بن أبي بكر بالأخبار ، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثارهما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر ، حتى وقف على الغار فقال : هنا انقطع الأثر. فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم
(8/144)
الخبر مشهور ، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة. وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما : أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت ، وجعلت ترقد على بيضها ، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.
الخامسة : روى البخاري عن عائشة قالت : استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل.
قال المهلب : فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر : فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق. وقال البخاري في ترجمته : [باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام] قال ابن بطال : إنما قال البخاري في ترجمته [أو إذا لم يوجد أهل الإسلام] من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض ، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها. وفيه : استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما. وفيه : دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو ، والاستخفاء في الغيران وغيرها ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له. ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم ، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال : من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله ، ولم يؤمن بالقدر. وهذا كله في معنى الآية ، ولله الحمد والهداية
(8/145)
السادسة : قوله تعالى : {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه. روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هو الصديق. فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه. قال بعض العلماء : من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع. ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، لأنه رد نص القرآن. ومعنى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة. روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا : حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ، فقال : "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما". قال المحاسبي : يعني معهما بالنصر والدفاع ، لا على معنى ما عم به الخلائق ، فقال : {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة : 7]. فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين.
السابعة : قال ابن العربي : قالت الإمامية قبحها الله : حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه. وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص ، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه : {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [هود : 70]. ولم ينقص موسى قوله : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. قُلْنَا لا تَخَفْ} [طه 67 ، 68]. وفى لوط : {وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إ} [العنكبوت : 33]. فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص ، وكذلك في أبي بكر. ثم هي عند الصديق احتمال ، فإنه قال : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. جواب ثان - إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر ،
(8/146)
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة : 67] بالمدينة.
الثامنة : قال ابن العربي : قال لنا أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم : {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء : 62] وقال في محمد صلى الله عليه وسلم : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده ، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل. ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال.
التاسعة : خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد - له صحبة - قال : أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم... ، الحديث. وفيه : واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا : انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر. فقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر رضي الله عنه : من له مثل هذه الثلاث {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} من هما ؟ قال : ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة.
قلت : ولهذا قال بعض العلماء : في قوله تعالى : {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وسمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر يقول : إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر ، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها ، ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة ومكة وجواثا ، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على
(8/147)
الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين.
قلت : وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة ، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده ، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف. والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه. وهل يكفر أم لا ، يختلف فيه ، والأظهر تكفيره. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة [الفتح] إن شاء الله. والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة فضل الصديق على جميع الصحابة. ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع ، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته ، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته. ثم بعد الصديق عمر الفاروق ، ثم بعده عثمان. روى البخاري عن ابن عمر قال : كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي ، فالجمهور منهم على تقديم عثمان. وروي عن مالك أنه توقف في ذلك. وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور. وهو الأصح إن شاء الله.
العاشرة : قوله تعالى : {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}
فيه قولان :
أحدهما : على النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني : على أبي بكر. ابن العربي : قال علماؤنا وهو الأقوى ، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة ، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق : "هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت" رواه أبو الدرداء.
(8/148)
الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أي من الملائكة. والكناية في قوله {وَأَيَّدَهُ} ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والضميران يختلفان ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} أي كلمة الشرك. {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} قيل : لا إله إلا الله. وقيل : وعد النصر. وقرأ الأعمش ويعقوب {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالنصب حملا على {جَعَلَ} والباقون بالرفع على الاستئناف. وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة ، قال : لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه ، ولا تقول غلام أبي فلان. وقال أبو حاتم نحوا من هذا. قال : كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا. قال النحاس : الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية ، ولكن يشبهها ما أنشد سيبويه :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فهذا حسن جيد لا إشكال فيه ، بل يقول النحويون الحذاق : في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم ، قال الله تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة : 1 ، 2] فهذا لا إشكال فيه. وجمع الكلمة كلم. وتميم تقول : هي كلمة بكسر الكاف. وحكى الفراء فيها ثلاث لغات : كلمة وكلمة وكلمة مصل كبد وكبد وكبد ، وورق وورق وورق. والكلمة أيضا القصيدة بطولها ، قاله الجوهري.
الآية : 41 {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : روى سفيان عن حصين بن عبدالرحمن عن أبي مالك الغفاري قال : أول ما نزل من سورة براءة {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . وقال أبو الضحاك كذلك أيضا. قال : ثم نزل أولها وآخرها.
(8/149)
الثانية : قوله تعالى : {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} نصب على الحال ،
وفيه عشرة أقوال :
الأول : يذكر عن ابن عباس {انْفِرُوا ثُبَاتٍ} [النساء : 71 : : سرايا متفرقين.
الثاني : روي عن ابن عباس أيضا وقتادة : نشاطا وغير نشاط.
الثالث : الخفيف : الغني ، والثقيل : الفقير ، قاله مجاهد.
الرابع : الخفيف : الشاب ، والثقيل : الشيخ ، قاله الحسن.
الخامس : مشاغيل وغير مشاغيل ، قاله زيد بن علي والحكم بن عتبة.
السادس : الثقيل : الذي له عيال ، والخفيف : الذي لا عيال له ، قاله زيد بن أسلم.
السابع : الثقيل : الذي له ضيعة يكره أن يدعها ، والخفيف : الذي لا ضيعة له ، قاله ابن زيد. الثامن : الخفاف : الرجال ، والثقال : الفرسان ، قاله الأوزاعي.
التاسع : الخفاف : الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش والثقال : الجيش بأثره. العاشر : الخفيف : الشجاع ، والثقيل : الجبان ، حكاه النقاش. والصحيح في معنى الآية أن الناس أمروا جملة أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : أعلي أن أنفر ؟ فقال : "نعم" حتى أنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور : 61]. وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة.
الثالثة : واختلف في هذه الآية ، فقيل إنها منسوخة بقوله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة : 91]. وقيل : الناسخ لها قوله : {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة : 122]. والصحيح أنها ليست بمنسوخة. روى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى : {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قال شبانا وكهولا ، ما سمع الله عذر أحد. فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضي الله عنه. وروى حماد عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة [براءة] فأتى على هذه الآية {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فقال : أي بني جهزوني جهزوني فقال بنوه : يرحمك الله لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى
(8/150)
مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك. قال. لا ، جهزوني. فغزا في البحر فمات في البحر ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ، ولم يتغير رضي الله عنه. وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صراف ، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو. فقيل له : لقد عذرك الله. فقال : أتت علينا سورة البعوث {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} .وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له : إنك عليل. فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشأم رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له : يا عم إن الله قد عذرك فقال : يا ابن أخي ، قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا. ولقد قال ابن أم مكتوم رضي الله عنه - واسمه عمرو - يوم أحد : أنا رجل أعمى ، فسلموا لي اللواء ، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش ، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب بن عمير على ما تقدم في "آل عمران" بيانه. فلهذا وما كان مثله مما روي عن الصحابة والتابعين ، قلنا : إن النسخ لا يصح. وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل
الرابعة : وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر ، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا ، شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته ، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له ، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج ، من مقاتل أو مكثر. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم. وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم ، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم ، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين. ولو قارب العدو
(8/151)
دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه ، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو. ولا خلاف في هذا.
وقسم ثان من واجب الجهاد - فرض أيضا على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم ، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد.
ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف وإظهار القوة.
فإن قيل : كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع ، وهي
الخامسة : قيل له : يعمد إلى أسير واحد فيفديه ، فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى في الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة ، فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسارى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم. ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا. قال صلى الله عليه وسلم : "من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" أخرجه الصحيح. وذلك لأن مكانه لا يغني وماله لا يكفي.
السادسة : روي أن بعض الملوك عاهد كفارا على ألا يحبسوا أسيرا ، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم فمر على بيت مغلق ، فنادته امرأة إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذبة فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازيا من فوره ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه. ذكره ابن العربي وقال : ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر خيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه. فقلت للوالي والمولى عليه : هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة ، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط
(8/152)
به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ورجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره وإن رأى المكيدة بجاره. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وحسبنا الله ونعم الوكيل).
السابعة : قوله تعالى : {وَجَاهَدُوا} أمر بالجهاد ، وهو مشتق من الجهد {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" . وهذا وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله تعالى. فحض على كمال الأوصاف ، وقدم الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز. فرتب الأمر كما هو نفسه.
الآية : 42 {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم. والعرض : ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى : غنيمة قريبة. أخبر عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة لاتبعوه. {عَرَضاً} خبر كان. {قَرِيباً} نعته. {وَسَفَراً قَاصِداً} عطف عليه. وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه. التقدير : لو كان المدعو إليه عرضا قريبا وسفرا قاصدا - أي سهلا معلوم الطرق - لاتبعوك. وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا ، لأنهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير. وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها ، كما قيل في قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم : 71] أنها القيامة. ثم قال جل وعز : {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم : 72] يعني جل وعز جهنم. ونظير هذه الآية من السنة في المعنى قوله عليه السلام : "لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا
(8/153)
أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" . يقول : لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرا معجلا يأخذه لأتى المسجد من أجله. {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة. يقال : منه شقة شاقة. والمراد بذلك كله غزوة تبوك. وحكى الكسائي أنه يقال : شُقة وشِقة. قال الجوهري : الشقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر. والشقة شظية تشظى من لوح أو خشبة. يقال للغضبان : احتد فطارت منه شقة ، بالكسر. {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا} أي لو كان لنا سعة في الظهر والمال. {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} نظيره {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران : 97] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "زاد وراحلة" وقد تقدم. {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي بالكذب والنفاق. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في الاعتلال.
الآية : 43 {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}
قوله تعالى : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قيل : هو افتتاح كلام ، كما تقول : أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا. وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على قوله : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} ، حكاه مكي والمهدوي والنحاس. وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا. وقيل : المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم ، فلا يحسن الوقف على قوله : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} على هذا التقدير ، حكاه المهدوي واختاره النحاس. ثم قيل : في الإذن
قولان :
الأول : {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} في الخروج معك ، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة فساد.
الثاني - {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} في القعود لما اعتلوا بأعذار ، ذكرها القشيري قال : وهذا عتاب تلطف إذ قال : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} . وكان عليه السلام أذن من غير وحي نزل فيه. قال قتادة وعمرو بن ميمون : اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر
(8/154)
بهما : إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون. قال بعض العلماء : إنما بدر منه ترك الأولى فقدم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب.
قوله تعالى : {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي ليتبين لك من صدق ممن نافق. قال ابن عباس : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ يعرف المنافقين وإنما عرفهم بعد نزول سورة [التوبة]. وقال مجاهد : هؤلاء قوم قالوا : نستأذن في الجلوس فإن أذن لنا جلسنا وإن لم يؤذن لنا جلسنا. وقال قتادة : نسخ هذه الآية بقوله في سورة "النور" : {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور : 62]. ذكره النحاس في معاني القرآن له.
الآيتان : 44 - 45 {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ، إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}
قوله تعالى : {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي في القعود ولا في الخروج ، بل إذا أمرت بشيء ابتدروه ، فكان الاستئذان في ذلك الوقت من علامات النفاق لغير عذر ، ولذلك قال : "إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون". روى أبو داود عن ابن عباس قال : {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} نسختها التي في "النور] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور : 62] {أَنْ يُجَاهِدُوا} في موضع نصب بإضمار في ، عن الزجاج. وقيل : التقدير
(8/155)
كراهية أن يجاهدوا ، كقوله : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء : 176]. {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شكت في الدين. {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي في شكهم يذهبون ويرجعون.
الآية : 46 {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر. فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أي خروجهم معك. {فَثَبَّطَهُمْ} أي حبسهم عنك وخذلهم ، لأنهم قالوا : إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين. ويدل على هذا أن بعده {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً}. {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}
قيل : هو من قول بعضهم لبعض. وقيل : هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون هذا هو الإذن الذي تقدم ذكره. قيل : قال النبي صلى الله عليه وسلم غضبا فأخذوا بظاهر لفظه وقالوا قد أذن لنا. وقيل : هو عبارة عن الخذلان ، أي أوقع الله في قلوبهم القعود. ومعنى {مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي مع أولي الضرر والعميان والزمنى والنسوان والصبيان.
الآية : 47 {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} هو تسلية للمؤمنين في تخلف المنافقين عنهم. والخبال : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. وهذا استثناء منقطع ، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال. وقيل : المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالا ، فلا يكون الاستثناء منقطعا.
(8/156)
قوله تعالى : {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد. والإيضاع ، سرعة السير. وقال الراجز :
يا ليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع
يقال : وضع البعير إذا عدا ، يضع وضعا ووضوعا إذا أسرع السير. وأوضعته حملته على العدو. وقيل : الإيضاع سير مثل الخبب. والخلل الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال ، أي الفرج التي تكون بين الصفوف. أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} مفعول ثان. والمعنى يطلبون لكم الفتنة ، أي الإفساد والتحريض. ويقال : أبغيته كذا أعنته على طلبه ، وبغيته كذا طلبته له. وقيل : الفتنة هنا الشرك. {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم. قتادة : وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم. النحاس : القول الأول أولى ، لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام : ومثله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة : 41]. والقول الثاني : لا يكاد يقال فيه إلا سامع ، مثل قائل.
الآية : 48 {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}
قوله تعالى : {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم ، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه. وقال ابن جريج : أراد اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به. {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} أي دينه {وَهُمْ كَارِهُونَ}
(8/157)