الآية : 96 {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
قوله تعالى : {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} نعت لاسم الله تعالى ، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح. وقيل : المعنى إن الله فالق الإصباح. والصبح والصباح أول النهار ، وكذلك الإصباح ؛ أي فالق الصبح كل يوم ، يريد الفجر. والإصباح مصدر أصبح. والمعنى : شاق الضياء عن الظلام وكاشفه. وقال الضحاك : فالق الإصباح خالق النهار. وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر {فَالِقُ الْأَِصْبَاحِ} بفتح الهمزة ، وهو جمع صبح. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ {فلق الإصباحَ} على فعل ، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} بغير ألف. ونصب {الليل} حملا على معنى {فَالِقُ} في الموضعين ؛ لأنه بمعنى فلق ، لأنه أمر قد كان فحمل على المعنى. وأيضا فإن بعده أفعالا ماضية وهو قوله : {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} [الأنعام : 97]. {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الرعد : 17]. فحمل أول الكلام على آخره. يقوي ذلك إجماعهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فعل ، ولم يحملوه على فاعل فيخفضوه ؛ قال مكي رحمه الله. وقال النحاس : وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني {وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَاناً} بالخفض عطفا على اللفظ.
قلت : فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة. والله أعلم. وقرأ يعقوب في رواية رويس عنه {وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَاكِناً} . وأهل المدينة {وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً} أي محلا للسكون. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول : "اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك" . فإن قيل : كيف قال "وأمتعني بسمعي وبصري" وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما "واجعله الوارث مني" وذلك يفنى مع البدن ؟ قيل له : في الكلام تجوز ، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي. وقد قيل : إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر ؛ لقوله عليه السلام فيهما : "هما السمع والبصر". وهذا تأويل بعيد ، إنما المراد بهما الجارحتان. ومعنى {حُسْبَاناً} أي بحساب يتعلق به مصالح العباد. وقال ابن عباس في قول جل وعز : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أي بحساب. الأخفش : حسبان جمع حساب ؛ مثل شهاب وشهبان. وقال يعقوب : حسبان مصدر
(7/45)
حسبت الشيء أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة ، والحساب الاسم. وقال غيره : جعل الله تعالى سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص ؛ فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته. وقيل : {حُسْبَاناً} أي ضياء. والحسبان : النار في لغة ؛ وقد قال الله تعالى : {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف : 40]. قال ابن عباس : نارا. والحسبانة : الوسادة الصغيرة.
الآية : 97 {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} بين كمال قدرته ، وفي النجوم منافع جمة. ذكر في هذه الآية بعض منافعها ، وهي التي ندب الشرع إلى معرفتها ؛ وفي التنزيل : {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات : 7]. {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك : 5]. و {جَعَلَ} هنا بمعنى خلق. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أي بيناها مفصلة لتكون أبلغ في الاعتبار. "لقوم يعلمون" خصهم لأنهم المنتفعون بها.
الآية : 98 {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يريد آدم عليه السلام. وقد تقدم في أول السورة. {فَمُسْتَقَرٌّ} قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي بكسر القاف ، والباقون بفتحها. وهي في موضع رفع بالابتداء ، إلا أن التقدير فيمن كسر القاف فمنها {مستَقِر} والفتح بمعنى لها{مستَقَر}. قال عب الله بن مسعود : فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها ؛ وهذا التفسير يدل على الفتح. وقال الحسن : فمستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون : المستقر ما كان في الرحم ، والمستودع
(7/46)
ما كان في الصلب ؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقاله النخعي. وعن ابن عباس أيضا : مستقر في الأرض ، ومستودع في الأصلاب. قال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس هل تزوجت ؟ قلت : لا ؛ فقال : إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. وروي عن ابن عباس أيضا أن المستقر من خلق ، والمستودع من لم يخلق ؛ ذكره الماوردي. وعن ابن عباس أيضا : ومستودع عند الله.
قلت : وفي التنزيل {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة : 36] والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب ؛ وقد تقدم في "البقرة". {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} قال قتادة : {فَصَّلْنَا}بينا وقررنا. والله أعلم.
الآية : 99 {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي المطر. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل صنف من النبات. وقيل : رزق كل حيوان. {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} قال الأخفش : أي أخضر ؛ كما تقول العرب : أرينها نمرة أركها مطرة. والخضر رطب
(7/47)
البقول. وقال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب. {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً} أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة.
الثانية : قوله تعالى : {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} ابتداء وخبر. وأجاز الفراء في غير القرآن "قِنْوَاناً دَانِيَةً" على العطف على ما قبله. قال سيبويه : ومن العرب من يقول : قنوان. قال الفراء : هذه لغة قيس ، وأهل الحجاز يقولون : قنوان ، وتميم يقولون : قنيان ؛ ثم يجتمعون في الواحد فيقولون : قنو وقنو. والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض يسمى طلعا أيضا. والطلع ؛ ما يرى من عذق النخلة. والقنوان : جمع قنو ، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان "بكسر النون". وجاء الجمع على لفظ الاثنين. قال الجوهري وغيره : الاثنان صنوان والجمع صنوان "برفع النون". والقنو : العذق والجمع القنوان والأقناء ؛ قال :
طويلة الأقناء والأثاكل
غيره : "أقناء" جمع القلة. قال المهدوي : قرأ ابن هرمز {قَنوان}بفتح القاف ، وروي عنه ضمها. فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر ، بمنزلة ركب عند سيبويه ، وبمنزلة الباقر والجامل ؛ لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع ، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق "بكسر العين" وهي الكباسة ، وهي عنقود النخلة. والعذق "بفتح العين" النخلة نفسها. وقيل : القنوان الجمار. {دَانِيَةٌ} قريبة ، ينالها القائم والقاعد. عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما. وقال الزجاج : منها دانية ومنها بعيدة ؛ فحذف ؛ ومثله {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81]. وخص الدانية بالذكر ، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة ، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر
(7/48)
الثالثة : قوله تعالى : {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} أي وأخرجنا جنات. وقرأ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى والأعمش ، وهو الصحيح من قراءة عاصم {وَجَنَّاتٌ} بالرفع. وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، حتى قال أبو حاتم : هي محال ؛ لأن الجنات لا تكون من النخل. قال النحاس. والقراءة جائزة ، وليس التأويل على هذا ، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف ؛ أي ولهم جنات. كما قرأ جماعة من القراء {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة : 22]. وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ؛ ومثله كثير. وعلى هذا أيضا {وَحُوراً عِيناً} حكاه سيبويه ، وأنشد :
جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيار
وقيل : التقدير "وجنات من أعناب" أخرجناها ؛ كقولك : أكرمت عبدالله وأخوه ، أي وأخوه أكرمت أيضا. فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. وقيل : {وجناتٌ} بالرفع عطف على {قِنْوَانٌ}لفظا ، وإن لم تكن في المعنى من جنسها. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي متشابها في الأوراق ؛ أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال على جميع الغصن وفي حجم الورق ، وغير متشابه في الذواق ؛ عن قتادة وغيره. قال ابن جريج : {مُتَشَابِهاً} في النظر {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم ؛ مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما مختلف. وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم. وهو كقوله : {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية : 17]. ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه.
الرابعة : قوله تعالى : {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي نظر الاعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكر. والثمر في اللغة جنى الشجر. وقرأ حمزة والكسائي {ثُمُره}بضم الثاء والميم. والباقون بالفتح فيهما جمع ثمرة ، مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر. قال مجاهد الثمر أصناف المال ، والتمر ثمر النخل. وكأن المعنى على قول مجاهد : انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه
(7/49)
الثمر ؛ فالثمر بضمتين جمع ثمار وهو المال المثمر. وروي عن الأعمش {ثُمْره}بضم الثاء وسكون الميم ؛ حذفت الضمة لثقلها طلبا للخفة. ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة مثل بدنة وبدن. ويجوز أن يكون ثمر جمع جمع ، فتقول : ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر. ويجوز أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب لا جمع الجمع.
الخامسة : قوله تعالى : {وَيَنْعِهِ} قرأ محمد بن السميقع {ويانعه}. وابن محيصن وابن أبي إسحاق {وَيُنْعِهِ} بضم الياء. قال الفراء : هي لغة بعض أهل نجد ؛ يقال : ينع الثمر يينع ، والثمر يانع. وأينع يونع والتمر مونع. والمعنى : ونضجه. ينع وأينع إذا نضج وأدرك. وقال الحجاج في خطبته : أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها. قال ابن الأنباري : الينع جمع يانع ، كراكب وركب ، وتاجر وتجر ، وهو المدرك البالغ. وقال الفراء : أينع أكثر من ينع ، ومعناه أحمر ؛ ومنه ما روي في حديث الملاعنة "إن ولدته أحمر مثل الينعة" وهي خرزة حمراء ، يقال : إنه العقيق أو نوع منه. فدلت الآية لمن تدبر ونظر ببصره وقلبه ، نظر من تفكر ، أن المتغيرات لا بد لها من مغير ؛ وذلك أنه تعالى قال : {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} . فتراه أولا طلعا ثم إغريضا إذا انشق عنه الطلع. والإغريض يسمى ضحكا أيضا ، ثم بلحا ، ثم سيابا ، ثم جدا لا إذ اخضر واستدار قبل أن يشتد ، ثم بسرا إذا عظم ، ثم زهوا إذا أحمر ؛ يقال : أزهى يزهي ، ثم موكتا إذا بدت فيه نقط من الإرطاب. فإن كان ذلك من قبل الذنب فهي مذنبة ، وهو التذنوب ، فإذا لانت فهي ثعدة ، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهي مجزعة ، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة ، فإذا عمها الإرطاب فهي منسبتة ؛ يقال : رطب منسبت ، ثم ييبس فيصير تمرا. فنبه الله تعالى بانتقالها من حال إلى حال وتغيرها ووجودها بعد أن لم تكن بعد على وحدانيته وكمال قدرته ، وأن لها صانعا قادرا عالما. ودل على جواز البعث ؛ لإيجاد النبات بعد الجفاف. قال الجوهري : ينع الثمر يينع ويينع ينعا وينوعا ، أي نضج.
السادسة : قال ابن العربي قال مالك : الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش. قال : مالك : والنقش أن ينقش أهل البصرة الثمر حتى يرطب ؛ يريد يثقب فيه بحيث يسرع دخول
(7/50)
الهواء إليه فيرطب معجلا. فليس ذلك الينع المراد في القرآن ، ولا هو الذي ربط به رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع ، وإنما هو ما يكون من ذاته بغير محاولة. وفي بعض بلاد التين ، وهي البلاد الباردة ، لا ينضج حتى يدخل علي فمه عود قد دهن زيتا ، فإذا طاب حل بيعه ؛ لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد ، ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب.
قلت : وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة ، هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة. ذكر المعلى بن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد" . والثريا النجم ، لا خلاف في ذلك. وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار ، وهو شهر مايو. وفي البخاري : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر.
السابعة : وقد استدل من أسقط الجوائح في الثمار بهذه الآثار ، وما كان مثلها من نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، وعن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قال عثمان بن سراقة : فسألت ابن عمر متى هذا ؟ فقال : طلوع الثريا. قال الشافعي : لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ، ولو ثبت عندي لم أعده ، والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه ، قال : ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لو ضعتها في القليل والكثير. وهو قول الثوري والكوفيين. وذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى وضعها ؛ لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح . أخرجه مسلم. وبه كان يقضي عمر بن عبدالعزيز ، وهو قول أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث. وأهل الظاهر وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير على عموم الحديث ؛ إلا أن مالكا وأصحابه اعتبروا أن تبلغ الجائحة ثلث الثمرة فصاعدا ، وما كان دون الثلث ألغوه وجعلوه تبعا ، إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها وأن يلحقها في اليسير منها
(7/51)
فساد. وكان أصبغ وأشهب لا ينظران إلى الثمرة ولكن إلى القيمة ، فإذا كانت القيمة الثلث فصاعدا وضع عنه. والجائحة ما لا يمكن دفعه عند ابن القاسم. وعليه فلا تكون السرقة جائحة ، وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب أنه جائحة ، وروي عن ابن القاسم ، وخالفه أصحابه والناس. وقال مطرف وابن الماجشون : ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد ، أو عطش أو حر أو كسر الشجر بما ليس بصنع ادمي فهو جائحة. واختلف في العطش ؛ ففي رواية ابن القاسم هو جائحة. والصحيح في البقول أنها فيها جائحة كالثمرة. ومن باع ثمرا قبل بدو صلاحه بشرط التبقية فسخ بيعه ورد ؛ للنهي عنه ؛ ولأنه من أكل المال بالباطل ؛ لقوله عليه السلام : "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم أخذ أحدكم مال أخيه بغير حق" ؟ هذا قول الجمهور ، وصححه أبو حنيفة وأصحابه وحملوا النهي على الكراهة. وذهب الجمهور إلى جواز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع. ومنعه الثوري وابن أبي ليلى تمسكا بالنهي الوارد في ذلك. وخصصه الجمهور بالقياس الجلي ؛ لأنه مبيع معلوم يصح قبضه حالة العقد فصح بيعه كسائر المبيعات.
الآية : 100 {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}
قوله تعالى : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم ، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن. قال النحاس : {الْجِنَّ}مفعول أول ، و{شُرَكَاءَ} مفعول ثان ؛ مثل {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [المائدة : 20]. {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر : 12]. وهو في القرآن كثير. والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء. ويجوز أن يكون {الْجِنَّ} بد لا من شركاء ، والمفعول الثاني {لِلَّهِ}. وأجاز الكسائي رفع {الْجِنَّ} بمعنى هم الجن. {وَخَلَقَهُمْ} كذا قراءة الجماعة ، أي خلق الجاعلين له شركاء. وقيل : خلق الجن الشركاء. وقرأ ابن مسعود {وهوَخَلَقَهُمْ} بزيادة هو. وقرأ يحيى بن يعمر {وَخَلْقَهُمْ} بسكون اللام ، وقال : أي وجعلوا خلقهم لله شركاء ؛ لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه. والآية نزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم
(7/52)
بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل ؛ روي ذلك عن الحسن وغيره. قال قتادة والسدي : هم الذين قالوا الملائكة بنات الله. وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة ، قالوا : إن الله وإبليس أخوان ؛ فالله خالق الناس والدواب ، وإبليس خالق الجان والسباع والعقارب. ويقرب من هذا قول المجوس ، فإنهم قالوا : للعالم صانعان : إله قديم ، والثاني شيطان حادث من فكرة الإله القديم ؛ وزعموا أن صانع الشر حادث. وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط ، زعموا أن للعالم صانعين : الإله القديم ، والآخر محدث ، خلقه الله عز وجل ألا ثم فوض إليه تدبير العالم ؛ وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.{وَخَرَّقُوا}قراءة نافع بالتشديد على التكثير ؛ لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة ، وسموهم جنا لاجتنانهم. والنصارى ادعت المسيح ابن الله. واليهود قالت : عزير ابن الله ، فكثر ذلك من كفرهم ؛ فشدد الفعل لمطابقة المعنى. تعالى الله عما يقولون. وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل. وسئل الحسن البصري عن معنى {وَخَرّقُوا له}بالتشديد فقال : إنما هو {وَخَرَقُوا} بالتخفيف ، كلمة عربية ، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل : خرقها ورب الكعبة. وقال أهل اللغة : معنى {خَرَقُوا} اختلقوا وافتعلوا {وخرّقوا}على التكثير. قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج : "خرقوا" كذبوا. يقال : إن معنى خرق واخترق واختلق سواء ؛ أي أحدث.
الآية : 101 {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي مبدعهما ؛ فكيف يجوز أن يكون له ولد. و{بَدِيعُ} خبر ابتداء مضمر أي هو بديع. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل ، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض. وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى.
(7/53)
{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أي من أين يكون له ولد. وولد كل شيء شبيهه ، ولا شبيه له. {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} أي زوجة. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عموم معناه الخصوص ؛ أي خلق العالم. ولا يدخل في ذلك كلامه ولا غيره من صفات ذاته. ومثله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف : 156] ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا. ومثله {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف : 25] ولم تدمر السماوات والأرض.
الآية : 102 {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
قوله تعالى : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} {ذَلِكُمُ} في موضع رفع بالابتداء. {اللَّهُ رَبُّكُمْ} على البدل. {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} خبر الابتداء. ويجوز أن يكون {رَبُّكُمْ}الخبر ، و{خَالِقُ} خبرا ثانيا ، أو على إضمار مبتدأ ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب.
الآية : 103 {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
قوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث ، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد ، كما تدرك سائر المخلوقات ، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج : أي لا يبلغ كنه حقيقته ؛ كما تقول : أدركت كذا وكذا ؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} في الدنيا ، ويراه المؤمنون في الآخرة ؛ لإخبار الله بها في قوله : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة : 22 - 23]. وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة. وسيأتي بيانه في "يونس". وقيل : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لا تحيط به وهو يحيط بها ؛
(7/54)
عن ابن عباس أيضا. وقيل : المعنى لا تدركه أبصار القلوب ، أي لا تدركه العقول فتتوهمه ؛ إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] وقيل : المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا ، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام ؛ إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا ، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا ، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز ، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل. واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه ، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة ، فقالت : يا أبا عائشة ، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت : ما هن ؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين ، أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير : 23]. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم : 13] ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض". فقالت : أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ؟ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً - إلى قول - عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى : 51] ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة : 67] قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل : 65]. إلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية ، وأنه إنما رأى جبريل : ابن مسعود ، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأنه رأى جبريل ، واختلف عنهما.
(7/55)
وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينه ؛ هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم : 11]. وقال عبد الله بن الحارث : اجتمع ابن عباس وأبي بن كعب ، فقال ابن عباس : أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس : أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. قال : فكبر كعب حتى جاوبته الجبال ، ثم قال : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام ، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم.
وحكى عبدالرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة ، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود ، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة : هل رأى محمد ربه ؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس : بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه ، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس : إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده ؛ وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر : قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه ، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال : لم ير في الدنيا ؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض : وهذا كلام حسن مليح ، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ؛ فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في "الأعراف" إن شاء الله. قوله تعالى : {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار ؛ لتجنيس الكلام. وقال الزجاج : وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون
(7/56)
{الأَبْصَارَ} ؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال : {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي الرفيق بعباده ؛ يقال : لطف فلان بفلان يلطف ، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا ، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال : جاءتنا من فلان لطفه ؛ أي هدية. والملاطفة المبارة ؛ عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية : المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد : اللطيف من نور قلبك بالهدى ، وربى جسمك بالغذا ، وجعل لك الولاية في البلوى ، ويحرسك وأنت في لظى ، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا ، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في "الشورى" إن شاء الله تعالى.
الآية : 104 {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}
قوله تعالى : {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل ؛ جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر :
جاؤوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وآي
يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها ؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس ؛ كما يقال : جاءت العافية وقد انصرف المرض ، وأقبل السعود وأدبر النحوس. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} الإبصار : هو الإدراك بحاسة البصر ؛ أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} لم يستدل ، فصار بمنزلة الأعمى ؛ فعلى نفسه يعود ضرر
(7/57)
عماه. " {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل : أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل : {بِحَفِيظٍ} برقيب ؛ أحصي عليكم أعمالكم ، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي ، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. قال الزجاج : نزل هذا قبل فرض القتال ، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.
الآية : 105 {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} الكاف في كذلك في موضع نصب ؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} والواو للعطف على مضمر ؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل : أي {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} صرفناها ؛ فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج : هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه ؛ أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا : درست وتعلمت من جبر ويسار ، وكانا غلامين نصرانيين بمكة ، فقال أهل مكة : إنما يتعلم منهما. قال النحاس : وفي المعنى قول آخر حسن ، وهو أن يكون معنى {نُصَرِّفُ الْآياتِ} نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا ؛ فيذكرون الأول بالآخر. فهذا حقيقة ، والذي قاله أبو إسحاق مجاز.
وفي {دَرَسْتَ} سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير {دارست} بالألف بين الدال والراء ؛ كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس : معنى {دَارَسْت} تاليت. وقرأ ابن عامر {دَرَسْتَ} بفتح السين وإسكان التاء غير ألف ؛ كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون {دَرسْتَ} كخرجت. فعلى الأولى : دارست أهل الكتاب ودارسوك ؛ أي ذاكرتهم وذاكروك ؛ قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم : {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان : 4] أي أعان اليهود
(7/58)
النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه. وهذا كله قول المشركين. ومثله قولهم : {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان : 5] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل : 24]. وقيل : المعنى دارستنا ؛ فيكون معناه كمعنى درست ؛ ذكره النحاس واختاره ، والأول ذكره مكي. وزعم النحاس أنه مجاز ؛ كما قال :
فللموت ما تلد الوالده
ومن قرأ {دَرستْ} فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى : ولئلا يقولوا انقطعت وامحت ، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. وقرأ قتادة {دُرِست} أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ {دارستْ}. وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز ؛ قال : لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره : القراءة بهذا تجوز ، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم ، ولكن معناه دارست أمتك ؛ أي دارستك أمتك ، وإن كان لم يتقدم لها ذكر ؛ مثل قوله : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص : 32]. وحكى الأخفش {وَلِيَقُولُوا دَرُسَتْ} وهو بمعنى {دَرستْ} إلا أنه أبلغ. وحكى أبو العباس أنه قرئ {ولْيقولوا درست} بإسكان اللام على الأمر. وفيه معنى التهديد ؛ أي فليقولوا بما شاؤوا فإن الحق بين ؛ كما قال عز وجل {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} [التوبة : 82] فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي. وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد ، إلى التليين والتذليل. و{درَسْتَ} من درس يدرس دراسة ، وهي القراءة على الغير. وقيل : درسته أي ذللته بكثرة القراءة ؛ وأصله درس الطعام أي داسه. والدياس الدراس بلغة أهل الشام. وقيل : أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته. وقد درس الثوب درسا أي أخلق. ويرجع هذا إلى ، التذلل أيضا. ويقال : سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله. ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها. ودرست الكتاب درسا ودراسة. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال :
(7/59)
إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس ؛ وهو من الحيض. والدرس أيضا : الطريق الخفي. وحكى الأصمعي : بعير لم يدرس أي لم يركب ، ودرست من درس المنزل إذا عفا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش {ولِيقولوا درس} أي درس محمد الآيات. {وَلِنُبَيِّنَهُ}يعني القول والتصريف ، أو القرآن {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
الآية : 106 {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}
قوله تعالى : {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يعني القرآن ؛ أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم ، بل اشتغل بعبادة الله. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} منسوخ.
الآية : 107 {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}
قوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} نص على أن الشرك بمشيئته ، وهو إبطال لمذهب القدرية كما تقدم. {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم ، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم ؛ فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا ، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
الآية : 108 {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(7/60)
فيه خمس مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} نهي. {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم ؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس : قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه ؛ فنزلت الآية.
الثانية : قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمة على كل حال ؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو البني عليه السلام أو الله عز وجل ، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ {الَّذِينَ} على معتقد الكفرة فيها.
الثالثة : في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة ، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع ؛ وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي : إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول.
الرابعة : قوله تعالى : {عَدْواً} أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا {عُدُوًّا} بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة ، وهي راجعة إلى القراءة الأولى ، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا {عَدُوًّا} بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع ؛ كما قال : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 77]. وقال تعالى : {هُمُ الْعَدُوُّ} وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله.
الخامسة : قوله تعالى : {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة ، ولأهل الكفر وهو كقوله : {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر : 31]. وفي هذا رد على القدرية.
(7/61)