تابع سورة الأنعام
...
الآية : 81 - 82 {وكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
قوله تعالى : {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} ففي {كَيْفَ} معنى الإنكار ؛ أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام وهم لا يخافون الله عز وجل ؛ أي كيف أخاف مواتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانا} أي حجة ؛ وقد تقدم. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أي من عذاب الله : الموحد أم المشرك ؛ فقال الله قاضيا بينهم : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي بشرك ؛ قال أبو بكر الصديق وعلي وسلمان وحذيفة ، رضي الله عنهم. وقال ابن عباس : هو من قول إبراهيم ؛ كما يسأل العالم ويجيب نفسه. وقيل : هو من قول قوم إبراهيم ؛ أي أجابوا بما وهو حجة عليهم ؛ قاله ابن جريج. وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13]. {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي في الدنيا.
الآية : 83 {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة. وقال مجاهد : هي قوله : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} . وقيل : حجته عليهم أنهم لما قالوا له : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها ؟ قال لهم : أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم ؛ فيغضب الكبير فيخبلكم ؟ . {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي بالعلم والفهم والإمامة والملك. وقرأ الكوفيون {درجاتٍ} بالتنوين. ومثله في "يوسف" أوقعوا الفعل على "من" لأنه المرفوع في الحقيقة ، التقدير : ونرفع من نشاء إلى درجات. ثم حذفت إلى. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة ، والفعل واقع على الدرجات ، إذا رفعت فقد رفع
(7/30)
صاحبها. يقوي هذه القراءة قوله تعالى : {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر : 15] وقوله عليه السلام : "اللهم ارفع درجته". فأضاف الرفع إلى الدرجات. وهو لا إله إلا هو الرفيع المتعالي في شرفه وفضله. فالقراءتان متقاربتان ؛ لأن من رفعت درجاته فقد رفع ، ومن رفع فقد رفعت درجاته ، فاعلم. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يضع كل شيء موضعه.
الآية : 84 - 85 - 86 {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} فيه ثلاث مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي جزاء له على الاحتجاج في الذين وبذل النفس فيه. {كُلّاً هَدَيْنَا} أي كل واحد منهم مهتد. و {كُلّاً} نصب بـ {هَدَيْنَا} {وَنُوحاً} نصب بـ {هَدَيْنَا} الثاني. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي ذرية إبراهيم. وقيل : من ذرية نوح ؛ قاله الفراء واختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج ، واعترض بأنه عد من هذه الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه. وقيل : ابن أخته. وقال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم ، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم ؛ لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا : {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة : 133]. وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولدوهي.
(7/31)
الثانية : قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة ؛ لأنهم ليسو بمحرمين. وقال الشافعي : القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره. وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول : لقرابتي وعقبي كقول : لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه ، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في "آل عمران". والحجة لهما قول سبحانه : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء : 11] فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة. وقال تعالى : {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال : 41] فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب ، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار : وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي : "إن ابني هذا سيد". ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك ؛ لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة ؛ والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك ، قال الله تعالى : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إلى قوله {مِنَ الصَّالِحِينَ} فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته.
الثالثة : قد تقدم في سورة "النساء" بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي ، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك : كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال : كان من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة {والْيَاسَ} بوصل الألف. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم {وَالْيَسَعَ} بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما {وَاللَّيْسَعَ} .
(7/32)
وكذا قرأ الكسائي ، ورد قراءة من قرأ {وَالْيَسَعَ} قال : لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس : وهذا الرد لا يلزم ، والعرب تقول : اليعمل واليحمد ، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ {وَاللَّيْسَعَ} وقال : لا يوجد ليسع. وقال النحاس : وهذا الرد لا يلزم ، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب ، والحق في هذا أنه اسم أعجمي ، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا ، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي : من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع ، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام ؛ إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر : اسمين لرجلين ؛ لأنهما معرفتان علمان. فأما {لْيَسَعَ} نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف ، والقراءة بلام واحدة أحب إلي ؛ لأن أكثر القراء عليه. وقال المهدوي : من قرأ {وَالْيَسَعَ} بلام واحدة فالاسم يسع ، ودخلت الألف واللام زائدتين ، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر ، وفي نحو قوله :
وجدنا اليزيد بن الوليد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كأهله
وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله :
فيستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن بيته بالشيخة اليتقصع
يريد الذي يتقصع. قال القشيري : قرئ بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف ؛ مثل إسماعيل إبراهيم ، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهم قوم أن اليسع هو إلياس ، وليس كذلك ؛ لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر. وقال وهب : اليسع هو صاحب إلياس ، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى. وقيل : إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوج وإلياس من ذريته. وقيل : إلياس هو الخضر. وقيل : لا ، بل اليسع هو الخضر. {وَلُوطاً} اسم أعجمي انصرف لخفته. وسيأتي اشتقاقه في "الأعراف".
(7/33)
الآية : 87 {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
قوله تعالى : {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} {مِنْ} للتبعيض ؛ أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} قال مجاهد : خلصناهم ، وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم ؛ مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي : وجبيت الماء في الحوض جبا ، مقصور. والجابية الحوض. قال :
كجابية الشيخ العراقي تفهق
الآية : 88 {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم ، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في "البقرة".
الآية : 89 {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ابتداء وخبر {وَالْحُكْمَ} العلم والفقه. {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أي بآياتنا. {هَؤُلاءِ} أي كفار عصرك يا محمد .{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} جواب الشرط ؛ أي وكلنا بالإيمان بها {قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يريد
(7/34)
الأنصار من أهل المدينة والمهاجرين من أهل مكة. وقال قتادة : يعني النبيين الذين قص الله عز وجل. قال النحاس : وهذا القول أشبه بالمعنى ؛ لأنه قال بعد : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90]. وقال أبو رجاء : هم الملائكة. وقيل : هو عام في كل مؤمن من الجن والإنس والملائكة. والباء في {بِكَافِرِينَ} زائدة على جهة التأكيد.
الآية : 90 {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. فقيل : المعنى أصبر كما صبروا. وقيل : معنى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} التوحيد والشرائع مختلفة. وقد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب أتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص ؛ كما في صحيح مسلم وغيره : أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم : "القصاص القصاص" فقالت أم الربيع : يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله" . قالت : والله لا يقتص منها أبدا. قال : فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". فأحال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوله : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة : 45] الآية. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السن إلا في هذه الآية ؛ وهي خبر عن شرع التوراة ومع ذلك فحكم بها وأحال عليها. وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي ، وأنه يجب العمل بما وجد منها. قال ابن بكير : وهو الذي تقتضيه أصول مالك
(7/35)
وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والمعتزلة ؛ لقوله تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة : 48]. وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه يحتمل التقييد : إلا فيما قص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت من كتابكم. وفي صحيح البخاري عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة {ص} فقال : سألت ابن عباس عن سجدة {ص}فقال : أو تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام : 84] إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ؟ كان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به.
الثانيه : قرأ حمزة والكسائي {اقْتَدِهْ قُلْ} بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر {اقْتَدِه هِي قُلْ} . قال النحاس : وهذا لحن ؛ لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء ، وكذلك أيضا لا يجوز {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ}. ومن اجتنب اللحن وأتبع السواد قرأ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فوقف ولم يصل ؛ لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. وقرأ الجمهور بالهاء في الوصل على نية الوقف وعلى نية الإدراج اتباعا لثباتها في الخط. وقرأ ابن عياش وهشام {اقْتَدِهِ قُلْ} . بكسر الهاء ، وهو غلط لا يجوز في العربية.
قوله تعالى : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي جعلا على القرآن. {إِنْ هُوَ} أي القرآن. {إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي هو موعظة للخلق. وأضاف الهداية إليهم فقال : {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} لوقوع الهداية بهم. وقال : {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} لأنه الخالق للهداية.
الآية : 91 {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.
(7/36)
قوله تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس : ما آمنوا أنه على كل شيء قدير. وقال الحسن : ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم : لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا : {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده ، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح ؛ فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته. وقال أبو عبيدة : أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس : وهذا معنى حسن ؛ لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قوله تعالى : {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي لم يعرفوه حق معرفته ؛ إذ أنكروا أن يرسل رسولا. والمعنيان متقاربان. وقد قيل : وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة "وما قدروا الله حق قدره" بفتح الدال ، وهي لغة.
قوله تعالى : {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس وغيره : يعني مشركي قريش. وقال الحسن وسعيد بن جبير : الذي قاله أحد اليهود ، قال : لم ينزل الله كتابا من السماء. قال السدي : اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال : هو مالك بن الصيف ، جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين" ؟ وكان حبرا سمينا. فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه : ويحك! ولا على موسى ؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ؛ فنزلت الآية. ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم : {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام.
قوله تعالى : {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} خطاب للمشركين ، وقوله {يجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} لليهود وقوله {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ {يجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يبْدُونَهَا ويخْفُونَ} بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود ، ويكون معنى {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}
(7/37)
أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال {قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا} أي تبدون القراطيس. وهذا ذم لهم ؛ ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. {قُلِ اللَّهُ} أي قل يا محمد الله الذي أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي لاعبين ، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد. وقيل : هو من المنسوخ بالقتال ؛ ثم قيل : {يجْعَلُونَهُ} في موضع الصفة لقوله {نُوراً وَهُدىً} فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفا ، والتقدير : يجعلونه ذا قراطيس. وقوله : {يبْدُونَهَا ويخْفُونَ كثيرا} يحتمل أن يكون صفة لقراطيس ؛ لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم.
الآية : 92 {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
قوله تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ} يعني القرآن {أَنْزَلْنَاهُ} صفة {مُبَارَكٌ} أي بورك فيه ، والبركة الزيادة. ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال. وكذا {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المنزلة قبله ، فإنه يوافقها في نفي الشرك وإثبات التوحيد. {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يريد مكة والمراد أهلها ، فحذف المضاف ؛ أي أنزلناه للبركة والإنذار. {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني جميع الآفاق {وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} يريد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؛ بدليل قوله : {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} إيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبي عليه السلام ولا بكتابه غير معتد به.
(7/38)
الآية : 93 {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}
قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ} ابتداء وخبر ؛ أي لا أحد أظلم. {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي اختلق. {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فزعم أنه نبي {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} نزلت في رحمان اليمامة والأسود العبسي وسجاح زوج مسيلمة ؛ كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه. قال قتادة : بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة ؛ وقال ابن عباس.
قلت : ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن يقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ؛ فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة ، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص ، فلا يحتاجون لتلك النصوص. وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ؛ ويستدلون على هذا بالخضر ؛ وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم ، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب ؛ فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا المعنى في "الكهف" مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
(7/39)
قوله تعالى : {و َمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} {مَنْ}في موضع خفض ؛ أي ومن أظلم ممن قال سأنزل ، والمراد عبدالله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في "المؤمنون" : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون : 12] دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه ؛ فلما انتهى إلى قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون : 14] عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال : {تبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 14]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وهكذا أنزلت على" فشك عبدالله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ، فذلك قوله : {و َمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} رواه الكلبي عن ابن عباس. وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال : نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح {و َمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ارتد عن الإسلام ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتله وقتل عبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة ، ففر عبدالله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه ، وكان أخاه من الرضاعة ، أرضعت أمه عثمان ، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له ؛ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال : "نعم" . فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه" . فقال رجل من الأنصار : فهلا أومأت إلى يا رسول الله ؟ فقال : "إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين" . قال أبو عمر : وأسلم عبدالله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه ، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش ، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم ، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين ، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين ، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم.
(7/40)
وغزا الصواري من أرض الروم سنة أربع وثلاثين ؛ فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط ، فمضى إلى عسقلان ، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه. وقيل : بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة. ودعا ربه فقال : اللهم أجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ؛ فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات ، وفي الثانية بأم القرآن وسورة ، ثم سلم عن يمينه ، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه. ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره. ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية رضي الله عنهما. وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية. وقيل : إنه توفي بإفريقية. والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين. وقيل : سنة ست وثلاثين. وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه عارض القرآن فقال : والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. فالخابزات خبزا. فاللاقمات لقما.
قوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي شدائده وسكراته. والغمرة الشدة ؛ وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها. ومنه غمره الماء. ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره. ومنه غمرات الحرب. قال الجوهري : والغمرة الشدة ، والجمع غمر مثل نوبة ونوب. قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام :
وحان لتالك الغمر انحسار
وغمرات الموت شدائده. {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} ابتداء وخبر. والأصل باسطون. قيل : بالعذاب ومطارق الحديد ؛ عن الحسن والضحاك. وقيل : لقبض أرواحهم ؛ وفي التنزيل : " وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال : 50]
(7/41)
فجمعت هذه الآية القولين. يقال : بسط إليه يده بالمكروه .{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم ، وهو توبيخ. وقيل : أخرجوها كرها ؛ لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه ، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا ، ويقال : أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهو أن ؛ كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره. وقد أتينا عليه في كتاب "التذكرة" والحمد لله. وقيل : هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه : لأذيقنك العذاب ولأخر جن نفسك ؛ وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه. وقيل : يقال هذا للكفار وهم في النار. والجواب محذوف لعظم الأمر ؛ أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما. والهون والهوان سواء. "تستكبرون" أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته.
الآية : 94 {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} هذه عبارة عن الحشر و{فُرَادَى} في موضع نصب على الحال ، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وقرأ أبو حيوة {فُرَادَاً} بالتنوين وهي لغة تميم ، ولا يقولون في موضع الرفع فراد. وحكى أحمد بن يحيى {فُرَادَ} بلا تنوين ، قال : مثل ثلاث ورباع. و"فرادى" جمع فردان كسكارى جمع سكران ، وكسالى جمع كسلان. وقيل : واحده "فرد" بجزم الراء ، و{فُرَادَى} بكسرها ، و{فرَد}بفتحها ، و"فريد". والمعنى : جئتمونا واحدا واحدا ، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي ، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج {فُرْدَى} مثل سكرى وكسلى بغير ألف. {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي منفردين كما خلقتم. وقيل : عراة كما خرجتم.
(7/42)
من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما ليس معهم شيء. وقال العلماء : يحشر العبد غدا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد ؛ فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى قوله : "غرلا" أي غير مختونين ، أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان.
قوله تعالى : {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أي أعطيناكم وملكناكم. والخول : ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم. {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي خلفكم {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء يريد الأصنام أي شركائي. وكان المشركون يقولون : الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف ، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} . فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم : إذ تبرؤوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم ؛ فحسن إضمار الوصل بعد {تَقَطَّعَ} لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه وهذا لا يجوز فيه إلا النصب ، لأنك ذكرت المتقطع وهو {مَا}. كأنه قال : لقد تقطع الوصل بينكم. وقيل : المعنى لقد تقطع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرأ الباقون {بَيْنَكُمْ} بالرفع على أنه اسم غير ظرف ، فأسند الفعل إليه فرفع. ويقوي جعل {بَيْنَ} اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى : {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت : 5] و {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف : 78]. ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع ، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع ، وهو مذهب الأخفش ؛ فالقراءتان على هذا بمعنى واحد ، فاقرأ بأيهما شئت. {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي ذهب. {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقالت : يا رسول الله ، واسوءتاه! إن
(7/43)
الرجال والنساء يحشرون جميعا ، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" . وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه.
الآية : 95 {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} عد من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شيء منه آلهتهم. والفلق : الشق ؛ أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر ، وكذلك الحبة. وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة ؛ وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ؛ عن الحسن وقتادة. وقال ابن عباس والضحاك : معنى فالق خالق. وقال مجاهد : عني بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى. والنوى جمع نواة. ويجري في كل ما له كالمشمش والخوخ. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} يخرج البشر الحي من النطفة الميتة ، والنطفة الميتة من البشر الحي ؛ عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم عن علي : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. {ذَلِكُمُ اللَّهُ} ابتداء وخبر. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جل وعز.
(7/44)