[b]110- {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال : اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا ؛ قاله المهدوي. و {عِيسَى} يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون {ابْنَ مَرْيَمَ} نداء ثانيا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ؛ لأنه نداء منصوب كما قال :
يا حكم بن المنذر بن الجارود
ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال.
قوله تعالى : {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين : أحدهما : ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة ، وميزهما به من علو المنزلة. الثاني : ليؤكد به حجته ، ويرد به جاحده. ثم أخذ في تعديد نعمه فقال : {إِذْ أَيَّدْتُكَ} يعني قويتك ؛ مأخوذ من الأيد وهو القوة ، وقد تقدم. وفي {رُوحُ الْقُدُسِ}
(6/362)
وجهان : أحدهما : أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} الثاني : أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح ، كما تقدم في {البقرة}. {تُكَلِّمُ النَّاسَ} يعني وتكلم الناس في المهد صبيا ، وفي الكهولة نبيا ، وقد تقدم ما في هذا في {آل عمران} فلا معنى لإعادته .{كَفَفْتُ} معناه دفعت وصرفت {بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ} حين هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي الدلالات والمعجزات ، وهي المذكورة في الآية. {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك. {إِنْ هَذَا} أي المعجزات. {إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} . وقرأ حمزة والكسائي {سِاحْرٌ} أي إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر.
111- {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} قد تقدم القول في معاني هذه الآية. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام : وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية ؛ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم ؛ ومنه قوله تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام قال أبو عبيدة : أوحيت بمعنى أمرت ، {وَإِلَى } صلة يقال : وحى وأوحى بمعنى ؛ قال الله تعالى : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وقال العجاج :
وحى لها القرار فاستقرت
أي أمرها بالقرار فاستقرت. وقيل : {أَوْحَيْتُ} هنا بمعنى أمرتهم وقيل : بينت لهم. {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} على الأصل ؛ ومن العرب من يحذف إحدى النونين ؛ أي واشهد يا رب. وقيل : يا عيسى بأننا مسلمون لله.
(6/363)
112- {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } على ما تقدم من الإعراب. {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} . قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد {هَلْ تَسْتَطِيعُ} بالتاء {رَبُّكَ} بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من {هَلْ} في التاء. وقرأ الباقون بالياء ، {رَبُّكَ} بالرفع ، وهذه القراءة أشكل من الأولى ؛ فقال السدي : المعنى هل يطيعك ربك إن سألته {أَنْ يُنَزِّلَ} فيستطيع بمعنى يطيع ؛ كما قالوا : استجاب بمعنى أجاب ، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى : هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز : {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى.
قلت : وهذا فيه نظر ؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} . وقال عليه السلام : "لكل نبي حواري وحواري الزبير" ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم ؛ فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال : إن ذلك صدر ممن كان معهم ، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكما قال من قال من قوم موسى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} على ما يأتي بيانه في {الأَعْرَافِ} إن شاء الله تعالى. وقيل : إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين ، وإنما هو كقولك للرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي
(6/364)
وقد علمت أنه يستطيع ؛ فالمعنى : هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ؛ كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} كما قال إبراهيم : {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قلت : وهذا تأويل حسن ؛ وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين ؛ على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى ، وقال : لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا ، وذكر قول الحواريين : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره ؛ قال ابن الحصار : وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ليس بشك في الاستطاعة ، وإنما هو تلطف في السؤال ، وأدب مع الله تعالى ؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد ، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى ، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شيء ممكن ؟ ! وأما قراءة {التاء} فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما ؛ قالت عائشة رضي الله عنها : كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قالت : ولكن {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}. وروي عنها أيضا أنها قالت : كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا : {هل تستطيع ربك} وعن معاذ بن جبل قال : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وقال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ؛ والمعنى متقارب ، ولا بد من محذوف كما قال : {وَاسْأَلِ
(6/365)
الْقَرْيَةَ} وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف. {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال ؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات ؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى.
113- {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}
قوله تعالى : {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} نصب بأن {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفى قولهم : {نَأْكُلَ مِنْهَا} وجهان : أحدهما : أنهم أرادوا الأكل منها لحاجة الداعية إليها ؛ وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر ، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء ؛ فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء ، فقال عيسى لشمعون : {قُلْ لَهُمْ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له : قل له : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} الآية. الثاني : {نَأْكُلَ مِنْهَا} لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها ، قال الماوردي : وهذا أشبه ؛ لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم : {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا الثاني : تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا الثالث : تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا ؛ ذكرها الماوردي وقال المهدوي : أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي : نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا. {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا}
(6/366)
بأنك رسول الله {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لله بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل : {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم.
114- {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
قوله تعالى : {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} الأصل عند سيبويه يا الله ، والميمان بدل من {يا} {رَبَّنَا} نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب : لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل : خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه ؛ فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش :
تهدي رؤوس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطى المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة ؛ كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم : ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر :
لعلك باك إن تغنت حمامة ... يميد بها غصن من الأيك مائل
وقال آخر :
وأقلقني قتل الكناني بعده ... فكادت بي الأرض الفضاء تميد
ومنه قوله تعالى : {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } . وقال أبو عبيدة : مائدة فاعلة بمعنى مفعولة ، مثله {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} بمعنى مرضية و {مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق. قوله تعالى : {تَكُونُ لَنَا عِيداً} {تَكُونُ} نعت لمائدة وليس بجواب.
(6/367)
وقرأ الأعمش {تَكُنْ} على الجواب ؛ والمعنى : يكون يوم نزولها {عِيداً لأَوَّلِنَا} أي لأول أمتنا وآخرها فقيل : إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال : للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قال الجوهري وقيل : أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو ، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى : عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري : سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم ؛ ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب وقيل : سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد : وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال : إبل عيدية قال :
عيدية أرهنت فيها الدنانير
وقد تقدم وقرأ زيد بن ثابت {لأَوَّلانَا وَآخِرِنَا} على الجمع قال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم. {وَآيَةً مِنْكَ} يعني دلالة وحجة. {وَارْزُقْنَا} أي أعطنا. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي خير من أعطى خير من ورزق لأنك الغني الحميد.
115- {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}
(6/368)
قوله تعالى {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤاله عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير قال ابن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا ؟ فالذي عليه الجمهور وهو الحق نزولها لقوله تعالى : {إني منزلها عليكم} وقال مجاهد : ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه وقيل : وعدهم بالإجابة فلما قال لهم : {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} الآية استعفوا منها ، واستغفروا الله وقالوا : لا نريد هذا ؛ قاله الحسن. وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت
قال ابن عباس : إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل : "صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم" فصاموا ثلاثين يوما وقالوا : يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وذكر أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" له : حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح وهو سربال من مسوح أسود ولِحاف أسود فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والإبهام بالإبهام ، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع
(6/369)
على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال : {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية. فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها ؛ فقال عيسى : "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى" فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك فقال عيسى : "أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها" فقال الحواريون : يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى صلوات الله عليه فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كله البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون قال الثعلبي : على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فبلغ ذلك اليهود فجاؤوا غما ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون وهو رأس الحواريين : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى صلوات الله عليه : "أما افترقتم بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا" فقال شمعون : وإله بني إسرائيل ما أردت بذلك سوءا فقالوا : يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام : "يا سمكة احيي بإذن الله" فاضطربت السمكة طرية تَبِصُّ عيناها ، ففزع الحواريون فقال عيسى : "ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا" وقال : "لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا
(6/370)
ولا من طعام الجنة ولكنه شيء ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت" فقال عيسى : "يا سمكة عودي كما كنت" فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون : يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى : "معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها" فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مَثُلَة وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان وأهل الماء الأصفر ، وقال : "كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه" وقال : "يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم" فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يتجشؤون فبرئ كل سقيم أكله منه واستغنى كله فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاؤوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفيء الفيء موضعه وقال الثعلبي : فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام "يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء" فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء وشككوا والناس فقال الله يا عيسى : "إني آخذ بشرطي" فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالأكباء والأكباء هي الكناسة واحدها كبا بعدما كانوا يأكلون الطعام الطب وينامون على الفرش اللينة فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون ، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول"ألست بفلان" ؟ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام فلبثوا كذلك سبعة أيام ومنهم من يقول : أربعة أيام ،
(6/371)
ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا ؟ الأرض ابتلعتهم أو ما صنعوا ؟ !.
قلت : في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده وعن ابن عباس وأبي عبدالرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية : كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام ؛ وذكره الثعلبي وقال عمار بن ياسر وقتادة : كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه : أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير" قال أبو عيسى : هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة حدثنا حميد بن مسعد قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا وقال سعيد بن جبير : أنزل على المائدة كله شيء إلا الخبز واللحم. وقال عطاء : نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم. وقال كعب : نزلت المائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم.
قلت : هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها ؛ لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب : اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم : سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا : نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان ؛ ورياضا خضرا وعبقريا قال : فدعا الله فإذا
(6/372)
عين ساحة ورياض خضر وعبقري ثم قال أحدهم سلوني فأدعوا الله لكم بما شئتم فقالوا : نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم : سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم ؛ فقالوا : نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال : فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر.
مسألة : جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم والسفرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب خرج أبو عبدالله الترمذي الحكيم : حدثنا محمد بن بسار قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يونس عن قتادة عن أنس قال ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق قال : قلت لأنس فعلام كانوا يأكلون ؟ قال : على السفر قال محمد بن بشار : يونس هذا هو أبو الفرات الإسكاف.
قلت : هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال : حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه : حسن غريب قال الترمذي أبو عبدالله : الخوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم وما كانت العرب لتمتهنها وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله : ولا في سكرجة لأنها أوعية الأصباغ وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم وكان يقول : "انهسوا اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ" فإن قيل : فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال : لو كان الضب حراما
(6/373)
ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ خرجه مسلم وغيره. وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة" خرجه الثقات وقيل : إن المائدة كل شيء يمد ويبسط مثل المنديل والثوب وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل : مائدة ، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا : سر كاتم وهو مكتوم وعيشة راضية وهي مرضية وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا : رجل مشؤوم وإنما هو شائم وحجاب مستور وإنما هو ساتر قال فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه والمائدة ما مد وبسط والسفرة ما أسفر عما في جوفه وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها وعن الحسن قال : الأكل على الخوان فعله الملوك وعلى المنديل فعل العجم وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة والله أعلم.
116- {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريح وأكثر المفسرين : إنما يقال له هذا يوم القيامة وقال السدي وقطرب قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت ؛ واحتجوا بقوله : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} فإن {إِذْ} في كلام العرب لما مضى. والأول أصح يدل عليه ما قبله من قوله : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} ا لآية
(6/374)
وما بعده {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} . وعلى هذا تكون {إِذْ} بمعنى {إِذْا} كقوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} أي إذا فزعوا وقال أبو النجم :
ثم جزاه الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السماوات العلا
يعني إذا جزى وقال الأسود بن جعفر الأزدي :
فالآن إذ هازلتهن فإنما ... يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا
يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع وفي التنزيل {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} ومثله كثير وقد تقدم. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين : أحدهما : أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع الثاني : قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده ، وادعوا عليه ما لم يقل فإن قيل فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل : لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له.
قوله تعالى : {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} خرج الترمذي عن أبي هريرة قال : تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "فلقاه الله" {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآية كلها قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين : أحدهما : تنزيها له عما أضيف إليه الثاني خضوعا لعزته وخوفا من سطوته ويقال : إن الله تعالى لما قال لعيسى : {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال : {سُبْحَانَكَ} ثم قال : {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أن ادعى لنفسي ما ليس من حقها يعني أنني
(6/375)
مربوب ولست برب وعابد ولست بمعبود ثم قال : {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فرد ذلك إلى علمه وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها. ثم قال : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي تعلم ما في غبيي ولا أعلم ما في غيبك وقيل : المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك لأن السر موضعه النفس وقيل : تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة
قلت : والمعنى في هذه الأقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. {إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.
117- {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
قوله تعالى : {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني في الدنيا بالتوحيد. { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} {أَنِ} لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} . ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلوا كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين.
قوله تعالى : {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي حفيظا بما أمرتهم. {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} {مَا} في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} قيل : هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى
(6/376)
فلما رفعتني إلى السماء قال الحسن : الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه وفاة الموت وذلك قوله تعالى : {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} يعني الذي ينيمكم ووفاة الرفع قال الله تعالى : {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} . وقوله {كُنْتَ أَنْتَ} "أنت هنا" توكيد {الرَّقِيبَ} خبر {كُنْتَ} ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم ؛ وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة لأنها في موضع الرقيب من علو المكان. {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي من مقالتي ومقالتهم وقيل على من عصى وأطاع ؛ خرج مسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال : "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال : "فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"
118- {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} شرط وجوابه {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مثله روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح ، والآية : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(6/377)
واختلف في تأويله فقيل : قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل : فإنهم عصوك وقيل : قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل الهاء والميم في {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال : وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال : {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل : فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده ؛ الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء وقد قرأ جماعة : {فإنك أنت الغفور الرحيم} وليست من المصحف ذكره القاضي عياض في كتاب "الشفا" وقال أبو بكر الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال إن قوله : {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليس بمشاكل لقوله : {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لأن الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه ؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية
(6/378)
كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض خرج مسلم من غير طريق عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال عيسى عليه السلام : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه وقال : "اللهم أمتي" وبكى فقال الله عز وجل : "يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك" وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نفسه أولى لما بيناه وبالله التوفيق.
119- {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى : {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله لله وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه وقيل : المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم وقرأ نافع وابن محيصن {يَوْمَ} بالنصب ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر
(6/379)
فيوم ينفع خبر لـ {هَذَا} والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء وقال إبراهيم بن السري : هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فـ {يَوْمُ} ظرف للقول و {هَذَا} مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين وقيل : التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة وقال الكسائي والفراء : بني يوم ههنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم ؛ كما تقول : مضى يومئذ وأنشد الكسائي :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
الزجاج ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لأن الفعل بمعنى المصدر وقيل : يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو {هَذَا} لأنه مشار به إلى حدث ، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول : القتال اليوم والخروج الساعة ، والجملة في موضع نصب بالقول وقيل : يجوز أن يكون {هَذَا} في موضع رفع بالابتداء و {يَوْمِ} خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير : قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفيه قراءة ثالثة {يَوْمُ يَنْفَعُ} بالتنوين {الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الكلام حذف تقديره {فِيهِ } مثل قوله : {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} وهي قراءة الأعمش.
قوله تعالى : {لَهُمْ جَنَّاتٌ} ابتداء وخبر. {تَجْرِي} في موضع الصفة. {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب
(6/380)
بعده أبدا {وَرَضُوا عَنْهُ} أي عن الجزاء الذي أثابهم به. {ذَلِكَ الْفَوْزُ} أي الظفر {الْعَظِيمِ} أي الذي عظم خيره وكثر وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.
120- {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى : {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السما