فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأحد 13 مارس - 22:42 | |
| فالجواب : إن ذلك موجب ما ذكرناه. وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل ، والله أعلم. الخامسة عشرة : واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط ؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يحرم النكاح باللواط. وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه ؛ وهو قول أحمد بن حنبل. قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به. وهو قول أحمد بن حنبل. السادسة عشرة : قوله تعالى : { الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب. ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه ؛ على ما يأتي بيانه في "الأحزاب". وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام : "يحرم الرضاع ما يحرم من النسب" . السابعة عشرة : قوله تعالى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } موضع "أن" رفع على العطف على { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين. وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية ، وقوله عليه السلام : "لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن". واختلفوا في الأختين بملك اليمين ؛ فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء ، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع ؛ وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة. واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها ؛ فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. قال أبو عمر : من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه ، ومن جعله كالوطء لم يجزه. وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت(5/116) الزوجة ؛ لقول الله تعالى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } يعني الزوجتين بعقد النكاح. فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله. والله أعلم. الثامنة عشرة : شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ؛ كما يجوز الجمع بينهما في الملك. واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين : "حرمتهما آية وأحلتهما آية". ذكره عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية. فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر : أحسبه قال علي - قال : وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه ؛ فقال له : لكني أنهاك ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا. وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان. والآية التي أحلتهما قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } . ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول ؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممن قال ذلك من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله ، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكا فيمن كرهه. ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وابنتها. قال ابن عطية : ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما ؛ فلم يلزمه حدا. قال أبو عمر : "أما قول علي لجعلته نكالا" ولم يقل لحددته حد الزاني ؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس [بزان] بإجماع وإن كان مخطئا ، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله. وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : "أحلتهما آية وحرمتهما(5/117) آية" معلوم محفوظ ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق. التاسعة عشرة : واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة ، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث : وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما. هكذا قال الحكم وحماد ؛ وروي معنى ذلك عن النخعي. ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته ؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة. ومذهب الكوفيين في هذا الباب : الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى ؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى ؛ وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة. فأما بعد انقضاء العدة فلا ، حتى يملك فرج التي يطأ غيره ؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه. قالوا : لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود ، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه. وقول مالك حسن ؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال ؛ وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال. ولم يختلفوا في العتق ؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال ؛ وأما الكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه. فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح. الثالث : في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع(5/118) عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح ؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء. وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح ؛ كما تقدم عن الشافعي. وفي الباب بعينه قول آخر : أن النكاح لا ينعقد ؛ وهو معنى قول الأوزاعي. وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة. الموفية عشرين : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق ؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت ، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي ، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقالت طائفة : له أن ينكح أختها وأربعا سواها ؛ وروي عن عطاء ، وهي أثبت الروايتين عنه ، وروي عن زيد بن ثابت أيضا ؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد. قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول. الحادية وعشرين : قوله تعالى : { إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : { إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين ؛ على ما قاله مالك والشافعي ، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ؛ وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين. وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد. وروى هشام بن عبدالله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين ؛ إحداهما نكاح امرأة الأب ، والثانية ، الجمع بين الأختين ؛ ألا ترى أنه قال : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } . { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } ولم يذكر في سائر المحرمات { إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } والله أعلم.(5/119) 24- {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فيه أربع عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَاتُ} عطف على المحرمات والمذكورات قبل. والتحصن : التمنع ؛ ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه ؛ ومنه قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } أي لتمنعكم ؛ ومنه الحصان للفرس "بكسر الحاء" لأنه يمنع صاحبه من الهلال. والحصان "بفتح الحاء" : المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك. وحصنت المرأة تحصن فهي حصان ؛ مثل جبنت فهي جبان. وقال حسان في عائشة رضي الله عنها : حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والمصدر الحصانة "بفتح الحاء" والحصن كالعلم. فالمراد بالمحصنات ههنا ذوات الأزواج ؛ يقال : امرأة محصنة أي متزوجة ، ومحصنة أي حرة ؛ ومنه { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }. ومحصنة أي عفيفه ؛ قال الله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } وقال : "محصنين غير مسافحين". ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة ، أي ممتنعة من الفسق ، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد. قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أي الحرائر ، وكان عرف الإماء في الجاهلية الزنى ؛ ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعته : "وهل تزني الحرة" ؟ والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره ؛ فبناء "ح ص ن" معناه المنع كما بينا. ويستعمل الإحصان في الإسلام ؛ (5/120) لأنه حافظ ومانع ، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "الإيمان قيد الفتك" . ومنه قول الهذلي : فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وقال الشاعر : قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام ومنه قول سحيم : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا الثانية : إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ؛ فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة ، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة ؛ وقال ابن وهب وابن عبدالحكم ورياه عن مالك ، وقال به أشهب. يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا ؛ فكان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله عز وجل [في ذلك] { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }. أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج ؛ فأنزل الله تعالى في جوابهم { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. واختلفوا في استبرائها بماذا يكون ؛ فقال(5/121) الحسن : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبرئون المسبية بحيضة ؛ وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض". ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا حتى يقال أن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة الإماء ، على ما نقل عن الحسن بن صالح قال : عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب. وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة واحدة. والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين. وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا علي نكاحهما ؛ فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه ؛ لأنه قد صار له عهد وزوجته من جملة ما يملكه ، فلا يحال بينه وبينها ؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري ، وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك. والصحيح الأول ؛ لما ذكرناه ؛ ولأن الله تعالى قال : { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فأحال على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا ، إلا ما خصه الدليل. وفي الآية قول ثان قاله عبدالله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبدالله وابن عباس في رواية عكرمة : أن المراد بالآية ذوات الأزواج ، أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج فإن بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها. قال ابن مسعود : فإذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية ؛ كل ذلك موجب للفرقة بينها وبين زوجها. قالوا : وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الأمة طلاقا لها ؛ لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين. قلت : وهذا يرده حديث بريرة ؛ لأن عائشة رضى الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج ؛ وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الأمة ليس طلاقها ؛ وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث ، وألا طلاق لها إلا الطلاق. وقد(5/122) احتج بعضهم بعموم قوله : { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وقياسا على المسبيات. وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده ، وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد ، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى. وفي الآية قول ثالث : روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين. وقال علي بن أبي طالب : ذوات الأزواج من المشركين. وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } هن ذوات الأزواج ؛ ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى. وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف ، أي كل النساء حرام. وألبسهن اسم المحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج ؛ إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك. قوله تعالى : { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قالوا : معناه بنكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيدة عن عمر ؛ فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين ، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى : { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء ، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى ، وهذا قول حسن. وقد قال ابن عباس : "المحصنات" العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب. قال ابن عطية : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى ؛ وأسد الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها. وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل : قوله { وَالْمُحْصَنَاتُ } إلى قوله { حَكِيماً } . قال ابن عطية : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول ؟ الثالثة : قوله تعالى : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } نصب على المصدر المؤكد ، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم. ومعنى "حرمت عليكم" كتب الله عليكم. وقال الزجاج(5/123) والكوفيون : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا كتاب الله ، أو عليكم كتاب الله. وفيه نظر على ما ذكره أبو علي ؛ فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء ، فلا يقال : زيدا عليك ، أو زيدا دونك ؛ بل يقال : عليك زيدا ودونك عمرا ، وهذا الذي قاله صحيح على أنه منصوبا بـ "عليكم" إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } وفي هذا بعد ؛ والأظهر أن قوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله. الرابعة : قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص "وأحل لكم" ردا على "حرمت عليكم". الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى : {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر ، وليس كذلك ؛ فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها ، قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها". وقال ابن شهاب : فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة ، وقد قيل : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها ؛ لأن الله تعالى حرم الجمع بين الأختين ، والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأختين ؛ أو لأن الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد. والصحيح الأول ؛ لأن الكتاب والسنة كالشيء الواحد ؛ فكأنه قال : أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب ، وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد عليه السلام. وقول ابن شهاب : "فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة" إنما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك ؛ لأن العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه.(5/124) وفي مصنف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى". وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين. الرواية "لا يجمع" برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك ، وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح. وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها ، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه ، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة. وقوله : "لا يجمع بين العمتين والخالتين" فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز ؛ فقال : معنى بين العمتين على المجاز ، أي بين العمة وبنت أخيها ؛ فقيل لهما : عمتان ، كما قيل : سنة العمرين أبي بكر وعمر ؛ قال : وبين الخالتين مثله. قال النحاس : وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله ، وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير فائدة ؛ لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكررا لغير فائدة ؛ وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة ، وليس كذلك الحديث ؛ لأن الحديث "نهى أن يجمع بين العمة والخالة". فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى. قال النحاس : وهذا يخرج على معنى صحيح ، يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها ؛ تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الأم فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين ؛ فابنة الأب عمة ابنة الابن ، وابنة الابن خالة ابنة الأب. وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة الأخرى ؛ وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنة ، فولد لكل واحد منهما ابنة ، فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى. وأما الجمع بين العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى ؛ وذلك أن(5/125) يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر ، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة الأخرى ؛ فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن. الخامسة : وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا ؛ فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال : كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل. فقلت له : عمن هذا ؟ قال : عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوري : تفسيره عندنا أن يكون من النسب ، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء. قال أبو عمر : وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل. وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك ، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة ؛ ثم ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر ، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنان والشرور بسبب الغيرة ؛ فروى ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة ، وقال : "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" ذكره أبو محمد الأصيلي في فوائده وابن عبدالبر وغيرهما. ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة ؛ وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها ، وسواء كانت بنت عم أو بنت خال أو بنت خالة ؛ روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح ، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح. وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي عم ؛ ذكره عبدالرزاق. زاد ابن عيينة : فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن ؛ وقد كره مالك هذا ، وليس بحرام عنده.(5/126) | |
|